قصة قصيرة
دهوك 2139
عبد الكريم يحيى الزيباري
لم أستطع البقاء بعيداً عن القنوات الفضائية أكثر من عامين اثنين، كلهم أصدقائي كانوا هناك في فضائية باييز، قبل أنْ يرحلوا. سلام جيج كانَ أول الراحلين، ولم أجد أمامي إلا الاستسلام، كما استسلمَ مالارميه أمامَ موتِ ابنهِ الطفل: يا جيج ارحلْ، أمَّا أنا فسوفَ أُفكِّر وأكتب رغم أنفِ الحزن سأكتب، هل تعرفون ماذا تعني الكتابة؟ إنَّها تحمل أسراراً بعدد سنوات الأرض، خفايا النصوص المكتوبة، لا تنكشف إلا بالانغلاق على النَّفس ثم الانفتاح بعد نفيِ أسرار الذات، كيف لا أشعرُ بالحزن وها أنا وحيد في كازينو هناروك، أراقبهُ جالساً قبل الغروب بساعة، يكتبُ قصيدةً على الطاولة الحديدية المُغطَّاة بقطعة قماش بيضاء رخيصة مُلَوَّثَة ببقايا طعام من ليلة أمس، حالما أجلس يقرأ جيج بصوتٍ عالٍ، يلتفتُ إليه الجمهور تاركين أوراق الكوتشينة والدومينو والطاولة، يراقبون جيج يرقص فوق الطاولة رقصة زوربا ويقرأ من ورقةٍ يمسكها بيدهِ دون أنْ ينظر إليها:
أنتزِعُ خنجرَ الوقت من خاصرةِ الجبل، لينزفَ السُّماق فوق جثث الشعراء والعُشَّاق والعَبَادِلَة والشهداء، والنَّارُ في أحشائي تعزفُ لحن الفاصل الإعلاني في مدينتي الصغيرة، لم تكن قبيحة في يومٍ ما أكثر من الآن، نَبَتَتْ في جوانبها أشجار كونكريتية يابسة، تعلو كوحشٍ بعشرات العيون، يتمطَّى فوقَ نحيب الحدائق المُنتهَكة، تهوي مخالبه في ظِلال الأحياء الفقيرة. مِنْ الشرفة يَطُلُّ أحد الأثرياء، يبتسمُ لزوجته العجوز البدينة التي لا تروقها المطاعم: ماذا ستفعلين إذا أضربَ عُمَّال المطاعم والفنادق؟ لا يعلمون أنَّهُ من هذه الشرفة عينها سقطَ أحدُ عُمَّال البناء، ستظلُّ زوجته تبدي ازدراءً بالرخاء، وأبناؤه والجيران وأصدقاؤه العمال وأنا…
أراقبُ جيج يَقِفُ على باب الحُلُم مجروراً بحرف الشهرة لا يجرؤ على قول لا. يتعجَّبُ من مواقفَ كثيرة وجدَ نفسه قد تورَّط فيها لأنَّهُ لم يستطع أنْ يقول لا في الوقت المناسب. رغم إعجابهِ بأغنية كتبها هامرشتاين لمسرحية أوكلاهوما:
I Say No It aint so much aquestion of not knowing what to do I knowed what right and wrong since I been ten.
في آخر مرَّة لم أستطع قول لا، وجدتني في الطريق إلى مدينة سُمِّيْل ذاهباً لزيارة مريض، القاص العائد من اسطه مبول يكتم شكواه: إلى اللّهِ أشْكُو مَا أُلاَقِي مِن آلام ظهري. بجوارهِ شيخٌ عجوز لم يبق منه إلا أعظمٌ وعروق زرقاء يُلاعب حبَّات المَسبحة الصفراء. القاص المريض رَسَّام القطط السوداء في شوارع المدينة الصفراء، يشاهد برنامجاً ثقافياً، رأيتُ الدقائق الأخيرة لبرنامجٍ ثقافي على قناة باييز الفضائية، أدهشتني كثيراً، قيل لي سيُعاد بَثُّه يوم غد الساعة العاشرة صباحاً، أخرجت الموبايل من جيبي وكتبتُ رسالة تذكير في التاسعة لئلا أنسى. قبل أنْ أغادرَ المدينة التقطتُ صورة مع شاعر المدينة الحزين. في التاسعة صَباحاً، جلستُ أمام الشاشة أنتظر، بعد ساعة من المنوعات واللقاءات مع العائلات الخارجة لشمِّ النسيم في الطبيعة وأسئلة من نوع: كيف ترون الربيع؟ هذا أجمل فصول الربيع الكردستانية. ما رأيكم في الطبيعة؟ الطبيعة جميلة. ماذا لديكم من أطعمة؟ دولمة، برياني، كُبَّة حمراء، ديك رومي. هل خرجتم في ربيع العام الماضي؟ نعم. مَنْ سيغني لنا أغنية محمد عارف؟ لستُ مطرباً. هل حذاؤك نفس الحذاء الذي لبسته العام الماضي؟ نعم. ولماذا؟ لا زال يقاوم. هل واجهتكم عوائق؟ ليحفظ الله مدير الناحية والبلدية والمجاري وحكومتنا الرشيدة، فالهواء نقي والجبال خضراء وكلُّ شيء رائع والحياة بمبي بمبي بمبي بمبي.
وبدأ البرنامج: جلست المذيعة والخوف بعينيها، تتأمَّلُ الشاعر يدخلُ الأستوديو المظلم مَزْهُوَّاً بحريق الأضواء التي اشتعلت مع دخولهِ، ملتفتاً إلى الجمهور الكومبارس فوق المدرجات الصغيرة وهم يصفقون له، مُتبختراً تحت قوسِ المجد. بَدَتْ المذيعة أجمل من ميزي وليامز في صراع العروش، ونظرتها أجرأ وأكثر حِدَّة، حالما جلس رحبت به بإيماءة وقالت:
– باسم جمهور قناة باييز، ومتابعي برنامج أطياف الرياضة والثقافة والفنون نُرَحِّبُ بالشاعر الكبير فرميسك خان صاحب العشرين ديواناً وخمس روايات و….
قاطعها رافعاً سبابته بابتسامة الطاووس الفنَّان:
– العفو سيدتي واحدٌ وعشرين ديواناً.
ضحكت وهي تنظر إلى الشاعر، بيدها غَطَّت فمها وقالت:
– عشرون ديواناً بحسب السيرة المختصرة التي أرسلتها لنا يوم أمس مكتوب فيها.
– وأنا في طريقي إلى هنا، جاءني اتِّصال من لندن بأنَّ ديواني الجديد قد صدر بطبعة لندنية فاخرة وأنيقة..
– مبروكٌ هذا خبرٌ سعيد نَزُفُّهُ لمشاهدي القناة
وضحكا معاً، وضرب يده اليمين بيدها اليمين وكاد يسقطُ من الأريكة، حالما انتهت الضحكة، قالت:
– حَدِّثنا عن المراحل التي مرَّ بها شعرك؟
الشاعر فرميسك خان يتزيَّنُ بالغرور، لم يكمل الخامسة والعشرين من عمرهِ، حتّى كان قد استَفرَغَ المَجدَ كُلّهُ ونال من الشهرة ما لم ينله غيرهُ. اعتدلَ في جلستهِ وتمايَلَ قليلاً وأخرجَ لسانه للجمهور، كهراوةٍ رجل البوليص السوداء، كالأفعى هيدرا أثبتها غوستاف مورو في لوحة وأنقذَ العالم من شرورها، وقال:
– علمتني ماما منذ طفولتي أنَّ أجمل ما في حياتنا الشِّعر والفلسفة والتاريخ والجغرافية والرياضة والنشيد والرسم والفيزياء والكيمياء ورغم أنني أكره الكيمياء ولكن يجب تحري الأمانة العلمية عند نقل ما قالته الماما.. قاطعته المذيعة بابتسامة كاميرون دياز الماكرة كأسوأ مُعَلِّمَة:
– لو حدثتنا عن بدايتك كشاعر، بسبب ضيق البرنامج؟
– في قبوِ بيتنا العتيق قرأتُ في مخطوطةٍ قديمة باللغة الصينيَّة عن فنِّ الشعر، ورثها أبي عن جدِّه عن أبيهِ عَنْ أبيهِ عن جَدِّهِ إلى جَدِّنا الذي لم أعد أتذكر تسلسله لكني أذكر أنَّهُ توفي قبل الميلاد بثلاث سنوات، في الصفحة الأولى من المخطوطة ليس ثَمَّة غير كلمتين: الشعر أسلوب، لكنَّ أحدَ أجدادي فقدَ صبره ولم يحتمل فأكملَ الكلمتين بكلمة ثالثة، وأضاف كلمة حياة، فصارت العبارة: الشِّعر أسلوب حياة. هنا أشعلتُ شمعة وبدأت كتابة قصائدي الأولى.
– هل تجيد اللغة الصينية؟
– ذات مرة جاءتني دعوة إلى مهرجان شعري في الصين، فتعلمت اللغة الصينية في الطائرة، وعقدت صداقات قوية مع مضيفات الطائرة.
– وقبل أنْ تشعلَ الشمعة في القبو، هل كنتَ تقرأ في الظلمة؟
– هههههههههههههههه لا هذا مجاز، أقصد أشعلتُ شمعة الشِّعرَ في حياتي.
– استعارة مدهشة تساوي أكثر من سندوتش شاورما، هل بمقدورك أنْ تقرأ لنا مقطعاً من أول قصيدة كتبتها؟
– القصيدة طويلة جداً، وغير قابلة للتقطيع، لذا سأقرأ من بدايتها:
زارني شيطان الشِّعر، لَمْلَمتُ جسدي من عيون النِّساء، أطبقتُ أسناني بقوة، عَضَضْتُ شفتيَّ أقوى ما أستطيع، بدلاً من الكلمات، انبجسَ الدَّمُ يرسمُ ضحكة امرأة عجوزٍ تطير فوق مكنسة…
– الطيران فوق مكنسة تقصد السَّاحرة..
– ما كان بنيتي كشف السِّر، ولكنَّك أذكى مما كنتُ أتوقَّع، نعم كنتُ أقصد السَّاحرة ميساء في كارتون مغامرات السندباد.
– الآن حدثنا عن أنواع الشِّعر الكردي؟
– قبل ذلك أريد أنْ أقول أنَّ المخطوطة لم تُقدِّم لي أيَّة مساعدة في احتراف الشعر كأسلوب حياة..
قاطعته المذيعة بنقاوة ابتسامة جوليا روبرتس لكن أقلُّ إسرافاً:
– لو حدثتنا عن أنواع الشِّعر الكردي بسبب ضيق وقت البرنامج؟
– الشِّعر الكردي نوعان: مكتوب وغير مكتوب، والمكتوب ينقسم قسمين: حَداثي وغير حَدَاثي- وأنا برأيي لا يوجد شعر غير حدَاثي، الشعر الكردي كله حَداثي- والحَداثي ينقسم قسمين: في خدمة النَّاس، وليس في خدمة النَّاس- هنا تدخلت المذيعة وسألت:
– ماذا تعني بشعرٍ في خدمةِ النَّاس؟
– سأجيب عن هذا السؤال فيما بعد، أما الآن فأنا مشغول في مطاردة التقسيمات المعقدة للشعر الكردي والتي قد تمتد إلى يوم القيامة- والشعر الذي في خدمة النَّاس ينقسم قسمين: حَداثي حقيقي، وحَدَاثي مزيَّف، والحداثي الحقيقي ينقسم قسمين: حداثي يدخل قلوب النَّاس وحداثي لا يدخل قلوب الناس، والذي يدخل قلوب النَّاس ينقسم قسمين: الذي يدخل مباشرةً والذي يدخل بصورة غير مباشرة، والذي يدخل مباشرةً ينقسمُ قسمين: الذي يدخل بطريقة “دوَّامة الكرة الدوَّارة”. هنا رفعَ الشاعر سبَّابتهُ وأشارَ نحو المصوِّر:
– انتبهوا أعزائي إلى هذه القصيدة الرائعة، لا تستغربوا أصدقائي من أحجية تشبيه قصيدتي بهدف روبرتو كارلوس المعجزة الذي سجله في مرمى المنتخب الفرنسي حزيران 1997، بدت الكرة في طريقها إلى خارج المرمى، حالما اقتربت غَيَّرَت مَسارَها بحركة لولبية شغلت علماء فرنسا لسنوات حتى اكتشفوا نظرية “دوَّامة الكرة الدوَّارة”، وقصيدتي هذه كتبتها رسالةً إلى الجيل القادم بعد مئة عام وخمسة وعشرين سنة..
قاطعته المذيعة بابتسامتها الساحرة وقالت له:
– ها أنت تريد أنْ تعيدنا لِما قبل بودلير حين كانوا يعتقدون الشِّعر مجرَّد عربة لإيصال الرسائل. فأجابها بانزعاجٍ لا يليق بقلبِ شاعر:
– الشِّعرُ ليس عَرَبَة، الشِّعر صاروخ، الشِّعرُ ليس مهنتي، إنَّها مُجرَّد هِواية أمارسها في أوقات الفراغ، وأحياناً كثيرة يفاجئني شيطان الشِّعر وأنا في أوج انشغالي.