خيانة ـ أمجد مجدوب رشيد

خيانة ـ أمجد مجدوب رشيد

صبّت ما بقي في القارورة ومدت إليه الكأس في غنج مفتعل.. يبدو أنه ثمل وهي الأخرى هدَّها السهر، وبدأت أضواء الغرفة الخافتة تتماوج أمامها ذائبة كمذنَّبات سكرى ..
حكى لها هذه الليلة عن النساء اللواتي جلبتهن له.. وأطال الحكي عن زبيدة..وقال والله إنها زبدة كان يغيب صامتا ثم يستأنف الحكي..قال
إنها تذكِّره بشانطال’ التي كان يجدها بثوب النوم في الشرفة الداخلية لبيت المُعَمّر الفرنسي لويس’ حينما كان يخبره بتحرك المشاغبين.. الذين كانوا يسمُّون أنفسهم الوطنيين ـ وتجشَّأ ـ مالنا حتى نحن الآن وطنيون الكل وطني.. يحيا الوطن
ظلت كلمة الوطنيين’ تدور في خاطر يامنة وبدأت تحفر في ذاكرتها عن رائحة هذه الكلمة..نعم ..لم تكن تفارق فم الناجي،لم تكن يامنة سوى امرأة عادية في تلك القرية المزروعة في فج بين جبلين،غطتها الحجارة وبعض الحشائش هنا وهناك ..ظلت في حضن الناجي إلى أن جاءها نبأ استشهاده في الريف مع جيش الأمير، لم يكن الناجي يملك سوى جسارته وجلبابه في لون التراب المخطط بخطوط صوفية بيضاء تكاد لا ترى من فرط نحولها، كان يملأ عليها حياتها البسيطة،اشترى لها مرة عنزة وقال لها هذه لك .. وما ولدت لك.. كان يحب أن تُسيل من أصابعها التي تشبه التمر العسلي اللامع زيت الزيتون على فطائر رمضان وكان يأخذ فطيرة بعد أن تشبعها يامنة زيتا،وتضعها في آنية فخارية خضراء إلى الفقيه، كان يحمل الآنية بيده اليمنى ومصباح الغاز بيده اليسرى، ولا يخشى كلاب القرية فقد كان قناصا ماهرا، تعرفه ويعرفها وكثيرا ما تقاسم معها لحم القنافذ والحجل واليمام البري اللذيذ.
كان الناجي يجالس الحاج المهدي وبعض رجال القرية،يتوسطهم مذياع خشبي كبير بأزراره المحترمة،وطرازه المهيب، لا يجرؤ على تحريك أزراره إلا الحاج فهو صاحبه.. قضوا أمسيات طويلة في الاستماع إلى الإذاعة الاسبانية وكان يفوتهم الكثير ولا يفهمون من كلام المذيع إلا القليل، كانوا يأخذون في تحليل أوضاع الحرب والمقاومة بذلك الزاد القليل من الأخبار، وكانت تنتهي كل تلك الأمسيات بوضع المذياع على ظهر حمار أشهب بعد إقفاله وتغطيته بلبدة الحاج المهدي، ثم الانتهاء به إلى غرفة هنالك في منزله المشرف على الوادي .
الآن تدرك يامنة وهي ماتزال غارقة في خدر النبيذ أنها تخون روح الناجي، لم يداخلها هذا الشعور من قبل خطبة الراضي لها، الكل في القرية كان يعرف أن الراضي ذلك الشاب الفارع الطول ذو الشعر المائل إلى الصفرة، الناعم المسدل على عينيه،والأنف الحاد، والذي لا يتكلم إلا وهو يحرك يديه وأحيانا رجليه.
كثيرا ما كان يلاحق يامنة حينما كانت ترعى الماعز لعمها أو تستقي من البئر، لكن عمها لم يقبل خطبة الراضي لها، الكل في القرية كان يعرف أن الراضي كان على علاقة جنسية بــ ماريا’ ابنة بيدرو’، وكان بيدرو’يسمح للراضي أن يصحبه إلى بيته، وكثيرا من الأحيان كان يسافر ويتركه لأيام قد تصل إلى الأسبوع في بيته مع ماريا’ وفي هذه الأيام تعلَّم الإسبانية وشرب النبيذ وأشياء أخرى، واستطاع الراضي أن يقنع يامنة بالزواج منه.. وسافرت معه إلى المدينة، وهناك اكترى منزلا في حيٍّ خلفي، ومرَّتْ أشهر استطاع فيها أن يحول المنزل إلى حانة وبيت قمار.. واضطرت يامنة لمجاراته، كان يجتمع على مائدته المغاربة والإسبان والفرنسيون واليهود ..
ولم يُداخل يامنة شعور خيانة الناجي حتى وهي تنتقل من سرير إلى سرير، عملت في فرقة شيخات فاطنة الزهو ـ1′ بعد فرارها من منزل الراضي..ثم استقرت في درب الكاريان ـ2′.
غطَّ في نوم ثقيل،توجَّهتْ إلى المرحاض غطست رأسها في سطل ماء بارد،استفاقت قليلا،وعادت،تفحَّصت وجهه جيدا، جرَّته من رجله اليمنى فوق فراش بمحاذاة النافذة، زررت قميصه،دفعته قليلا إلى أن تدلَّتْ يداه خارج النافذة،كان الليل باردا في الخارج ..استمرت في دفعه،تدلَّى في البداية، ثم سـقط

1ـ فرقة غناء شعبي.
2 ـ حي شعبي .

AZP09

مشاركة