

خطوط زمن البياتي
سيرة ذاتية لخبير صحفي
ادهشني الدكتور ياس خضير البياتي بسحر مذكراته، التي أراها بانها سيرة ذاتية تمشي على خطوط الزمن. ومن بين سحر اللغة وشغف العلم سطر البياتي فصولاً من حياته، المفعمة بالاًمل والشوق والملاًى بالذكريات، الحلو منها والمر.
لقد امضيت اياماً في مطالعة الكتاب, الذي اهداه لي بكلمات نابعة من قلب استاذ قدير وصديق قديم، وقد ألهمتني تجاربه في الحياة والصحافة والتدريس، معنى ان يصارع المجتهد ظروفه الصعبة ويتحدى المعوقات التي كان المتسببون بها يتوهمون انها ستثنيه عن التميز أو تبطىء ايقاع مهاراته التي اكسبها بالقراءة والامتداد والدراسة الجامعية العليا والاغتراب عن الوطن.
ولعلي لا اجانب الحقيقة بقولي ان البياتي واحد من قلة قليلة من كتاب العصر، الذين مزجوا لغة الصحافة والنقد الادبي المرنة، بلغة العلم الصارمة والمحتشدة. ورأيته فريدا في توظيف اطلاعه الثقافي الواسع، في التاليف الذي يحتمل منهجية تشاركية بين التاريخ والواقع والخيال الباذخ.
ولهذا فان كل صفحة من كتابه (خطوط الزمن) لا تخلو من حكمة او اجتهاد أو محصلة او الهام. واذا أردت ان احصي الاقتباسات التي تضمنها محتوى فصول الكتابة، فان العدد يفوق المتوقع ويرسم بعداً يتخطى موجودات مكتبة كاملة.
تجرية حية
ان السمة النادرة في مذكراته (سيرة ذاتية) ليس الصدق النابع من قوة الحجة وكمال الوثيقة والحياد حسب، بل الارتياح الجميل النابع من التجرية الحية بكل ماتحفل به من تفرعات وتداعيات ومواقف غير متوقعة .فهو لا يقتصر على رسم صور الحالات الصعبة بكل وطئها وثقلها النفسي، بل يقدم النهايات او النتائج على انها عناوين للفرص والصدف. ويمكن قياس هذه الحقيقة في الحيز المخصص لتجربة اقامته وعائلته في ليبيا التي لخص قياساتها في مفردتين تبدوان صادقتين لكنهًماً ترتبطان بارادة قد نسميها سماوية وقد يطلق عليها اخرون صفات قدرية او خارقية تقترب من المعجزة، ويؤكد وهو يمسك باطرافها جميعا، ويلخص ذلك في قوله ان (الصدف لا تصنع المصائر بل تفتح لنا الفرصة)، ويترجم مبادئ اخلاقية تربى عليها وتعلم منها دروسا خالدة. وبرغم براعة البياتي في تسجيل سيناريو حياته منذ ولادته الاولى في منطقة الفضل ببغداد وتنقلاته في مدن الجنوب والشمال (كركوك مثلا)، فان وقع بعض لقطات السيناريو تبدو مضاءة بقوة أو تتلاشى سطورها مخلفة اشارات تعج بعلامات تعجب واستفهام. وهي ظاهرة طبيعية في الكتابة الاسترجاعية، اي تدوين السير أو استحضار المراحل الحياتية السابقة.
وقد كان ماهراً في تحاشي الوقوع في شرك النسيان، باستثناءات قليلة، ومنها تحاشي تقّول الاخرين ما لم يقلوه، أو تعظيم شان اشخاص كانوا داعمين له أو تحجيم شأن غيرهم تورطوا بمعاداته واتهموه او كتبوا تقارير سرية ضده. وتبدو حقبة دراسته العليا في هنغاريا مليئة بمن مارسوا هذه الادوار الخبيثة معه، ووضعوه بهدف سهامهم وسددوا عليه، لا لشئ سوى انه كان ناجحاً ومالئا مكانه وموقعه وحاضرأً في كل محفل, ان أجمل ماعرضه البياتي من قناعات يتجلى بشعوره ان الفشل ليس نهاية، بل هو ، كما يراه نيتشة امتحان القوة الداخلية. وقد وظف كثيرا من الاقوال المأثورة لتعزيز رؤاه في الأمل، فقد استعان بغاستون باشلار الذي قال (نار هادئة في قاع الوعي). واراءه في التفاعل الانساني باحاديث جلال الدين الرومي الذي قال (اذا لم تجدني داخلك لن تجدني ابداً فانا معك منذ بدء التكوين). واستوقفتني استعاراته في الاعلام الذي وجد ادواته التحليل، الملاحظة والنــــــــــظرية والتجريب بحسب شانون ويفر، وكذلك خلاصات ماكلوهان وهابرس.
ثقافة الرقمية
وفي الـــــــثقافة الرقمية اتكأ البـــــــــــياتي على قناعات نيل بوستمان. ولطالما تحدث البياتي عن النجاح الذي اعتلى عديداً من عتباته. وقد ذكرنا بأراء كيركيفور في هذا الشأن. أما اذا مّر بالحديث عن الانسان، فأنه يستعير من جان بول ساتر معتقداته، وأذا تحدث عن الادب فيأخذ عن الروسي دستويفكسي رؤاه وعن الايطالي البارز انطونيو غرامشي صاحب مقولة (المثقف العضوي). أما أذا عالج موضوعاً في الفلسفة وعلم النفس فيستعين بأراء كارل بونغ وأوتو رانك وابن سينا، وعن هذا الخير قوله (العبرة ليست بالسن بل بما نشعر به).
كما يأخذ من ديكارت صاحب فلسفة (انا افكر اذاً انا موجود)، ومن سقراط وصيته ( بان نعرف انفسنا بأنفسنا).
والبياتي بعد ذلك لا يتردد بتوظيف الامثلة والمأثورات الشعبية التي يستقيها من محلات فضوة عرب وعكد الجري وطاطران وقنبر علي وابو سيفين. أو الاغاني الشائعة فيها. ان سيرة البياتي المحتشدة جديرة بالقراءة والمراجعة لانها سيرة عصامي تحدى الانواء السياسية وتحاشى الاغراءات الحكومية وانتقل من الصحافة الى الدراسة الاكاديمية بأقل الخسائر وبأعظم المعطيات.
وأذ ارفع يدي لتحية كفاحه الانساني وتضحياته الوطنية وشغفه واخلاصـــــــــه للعمل والصداقات في داخل البلاد وخارجها، فاني أشد على يديه وهو يواصل الانتاج الفكري والكتابة الصحفية الراقية، مقدماً مثالاً بارزاً للعراقي الذي لا ينسى وطنه ولا يبرح أرضه، ويبقى رافعاً راية الوفاء والولاء .. صحفيا وطنيا وانساناً على قدر كبير من الصفات النادرة. فهو شجاع لم يخف انتقالته الفكرية التي قد يفهمها البعض تلاعباً، فيما اراها، شخصياً، نضوجاً عبقرياً ومعرفياً يجاري تحولات العالم والواقع.

















