كلام صريح
حسن النواب
«كلمن تروح لكربلا بدون حجاب راح يزينونها كرعه» هذا هو تصريح رئيس مجلس محافظة كربلاء قبل أيام، وهو تصريح جائر وجاهلي وغير منطقي بمعنى الكلمة، بينما نقرأ في مواقع أخرى جمهور كربلاء يحج إلى خان النخلية للإشتراك بمهرجانه الثقافي الأول، وفرق شاسع بين الخبرين، فالأول يعلن عن ظلامية لاحدود لها، في حين الخبر الثاني يسر القلوب ويبهج النفوس، هكذا هي التناقضات في مدينة عريقة مثل كربلاء، لكني وجدت من الواجب أن أتوقف أمام هذه التظاهرة الثقافية التي استمرت ليومين في خان النخيلة، أذكر في طفولتي أن الباص الحكومي الذي كان ينقلنا من النجف إلى كربلاء، كان يشعرني بالوحشة بسبب الصحراء القاحلة التي كانت تحيط بنا من جميع الجهات، ليس هناك من شجرة أو حتى عشبة خضراء على طول الطريق، وكان خان النص حيث استراحة للمسافرين في منتصف الطريق هو المكان الوحيد الذي يشعرك أن هناك حياة مازالت تنبض وأنت تلتهم اللبن الرائب بعد الظمأ ووعثاء الطريق الصحراوي، وكنت بحضن أمي أتطلع بقلقٍ إلى سراب الصحراء الواجمة عسى يظهر خان النخيلة أمام ناظري، وهذا يعني إننا أوشكنا الوصول إلى كربلاء، لم يكن هذا الخان طيلة السنوات المنصرمة سوى مكان مهجور ومخيف تؤمه الحيوانات المفترسة، كما اتخذه قطّاع الطرق واللصوص وكْراً مشبوهاً لهم، حتى المشاة في زيارة الأربعين وبرغم أعدادهم الهائلة، كانوا يتجنبون الاقتراب منه لخطورته ولعدم معرفتهم بمن يسكنه، وخان النخيلة من الناحية التأريخية يعود إلى فترة الحكم الصفوي والعثماني ويبعد عن مدينة كربلاء 14 كم، ويتألف من فناء شاسع شبه دائري تحيط به مجموعة من الغرف التي تتقدمها الأواوين، ويتميز بأسواره العالية ومدخله الذي يتألف من طابقين تتوسطه بوابة كبيرة، واستخدم في بنائه الآجر والطابوق الطيني المفخور تحت أشعة الشمس، لهذا الخان ذكريات كثيرة يعرفها الذين حط رحالهم في فنائه وغرفه الرطبة المعتمة في سنوات موغلة في القدم، مثلما يحتفظ بذكريات دامية وشرسة عنه أولئك اللصوص وقطّاع الطرق الذين جعلوه مخبئا لهم بعيداً عن أنظار السلطة، لكن نخبة من مثقفي كربلاء قرروا بشجاعة فتح بوابته المغلقة منذ سنوات طويلة، وأزاحوا الغبار والعناكب والأفاعي والعقارب السامة من جحوره، وفرّت الكواسر من أوكاره، وأصبح ظلام غرفه منيراً بلوحات الرسامين وقصائد الشعراء والأناشيد والأغاني والكتب والعروض المسرحية، كل هذه الفنون الجميلة اجتمعت وتضافرت بنجاح في مهرجان النخيلة الثقافي الأول وعلى مدى يومين، صحيح أنّ محافظ كربلاء وقف بمحبة وصدق مع نخبة المثقفين وقدّم لهم معونات مادية ولوجستية، مثلما ساندته مديرية التربية، لكن الذي يسجل لمهرجان النخيلة، أنه لم يكن محسوباً على أية جهة حزبية أو سلطة حكومية، إنما كان ينتمي لأهالي كربلاء ولإبداعاتهم المدهشة بعيداً عن المزايدات الرخيصة، وإذا كان مهرجان الأخيضر في زمن النظام البائد دعاية مفضوحة لحزبه الدموي، فأن مهرجان النخيلة نأى بنفسه بقوة عن هذه الشبهات السياسية، وقدّم فقراته الثقافية والفنية المتنوعة بإحترافية عالية والتي أفرحت الجمهور العريض الذي حضر المهرجان، مثلما أتاح لمبدعي المدينة فرصة ثمينة لتقديم مواهبهم التي ظلت حبيسة غرفهم ولقاءات الأصدقاء، ومثل أي مهرجان ثقافي بكر يخطو خطواته الأولى لابد من وجود بعض الهنّات والهفوات التي تكتنف برنامجه، متطلعينَ أن تكون سنته المقبلة أكثر نضوجاً وأكثر انتشاراً ويشمل بفقراته أهم مبدعي العراق مع دعوات منتقاة بحرص لكبار الأدباء والفنانين العرب وأن تخصص لهذا المهرجان الفتي برسالته النقية وأهدافه السامية ميزانية خاصة في مجلس المحافظة، برغم معرفتي المسبقة أن هذا لا يحدث مادام رئيس مجلسها يهدد المرأة التي لا ترتدي الحجاب بحلاقة شعرها، وهكذا قرار جائر وظالم لم يحدث حتى في العصر الجاهلي ولله في خلقه شؤون، أجل كان مهرجان النخيلة الثقافي الأول مرآة ناصعة أعمت عيون الظلاميين والجهلة وما أكثرهم في البلاد .