ثورة 26 سبتمبر اليمنية بين بغداد والقاهرة – لطفي نعمان
شهد اليمن قبل ثورة 26 سبتمبر 1962م محاولات تغيير وطنية في الشمال المعتل بحكم متخلف، أخفقت اثنتان منها لعدم تهيؤ الظروف الداخلية والخارجية لنجاحهما، ثورة 1948م الدستورية وانقلاب 1955م، حضرت بغداد والقاهرة حضوراً فاعلاً من حيث وقوفهما المباشر مع أو ضد الحدثين اليمنيين، وسابق تأثيرهما على رجالات الحركة الوطنية اليمنية.
زاد اتضاح حضور وتأثير بغداد والقاهرة مع ثورة سبتمبر على الإمام محمد البدر رغم نياته وتوجهاته الإصلاحية، لكنه تحمل تبعات حكم أبيه أحمد وجده يحيى حميدالدين وجميع الأئمة السابقين.
معروف أن عدداً من ضباط الحركة الوطنية العسكريين وقادتها المدنيين تلقوا دراستهم ببغداد والقاهرة، أو أرادوا الدراسة بالعراق ثم تحولوا إلى مصر خلال ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، إنما بلغ تعاون المملكتين العراقية واليمانية ذراه بابتعاث بعثة عسكرية عراقية إلى اليمن –إنفاذاً لمعاهدة الأخوة العربية والتحالف بين ممالك الرياض وبغداد وصنعاء – عنيت بتدريب الجيش اليمني وتنظيمه برئاسة المرحوم العقيد إسماعيل صفوت سعيد، (أرخ نشاط البعثة 1940- 1943م المرحوم سيف الدين آل سعيد) بقي باليمن منهم المرحوم جمال جميل وشارك في ثورة 48م الدستورية وأُعدِم بعد فشلها. اتضحت مساندة ملوك السعودية والعراق والأردن ومصر لموقف الإمام أحمد ضد الثوار الدستوريين وضمنهم خريجو بغداد.
بقي بعض الخريجين أحياء كقائد انقلاب 1955م العقيد أحمد الثلايا (أعدم بعد فشلها أيضاً)، يومها ناهضت الدول العربية الثلاث: السعودية ومصر واليمن “حلف بغداد” الشهير.
كذلك من تولى رئاسة مجلس قيادة الثورة اليمنية ورئاسة الجمهورية عام 62م المشير عبدالله السلال (صادف عزله عن الرئاسة يوم 5 نوفمبر 67 م عبوره ببغداد!).
رجوعاً إلى سبتمبر 62 م، أخذت الظروف الداخلية اليمنية البائسة تتفاعل مع تهيؤ ضباطٍ شباب للثورة وقيادات خبرت محاولات التغيير السابقة وسُجِنَت بسببها، وأدركت “جمهرة” و”عسكرة” مصر والعراق بعد الملكية.
امتزجت الظروف الداخلية بالظروف الخارجية عقب انسلاخ سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة (28 سبتمبر 61 م) وإعلان الرئيس جمال عبدالناصر حل الاتحاد مع المملكة المتوكلية اليمنية (ديسمبر 61م)، وهجومه الإعلامي والسياسي على الإمام أحمد والملك سعود بن عبدالعزيز.
ضربة انفصال
اقتنع عبدالناصر بعرض أنور السادات دعم ثورة اليمن بوصفها أنسب رد لضربة انفصال سوريا، مُبسطاً متطلباتها “كتيبة صغيرة” و”إذا بالكتيبة تتعزز بجيش” حسب عبدالناصر لاحقاً!
استند عرض السادات على تقدير د.عبدالرحمن البيضاني الذي كسب ثقة الأول والمؤثرين بالقيادة العربية، بعكس القيادات التاريخية لحركة الأحرار اليمنيين الأستاذ أحمد محمد نعمان والقاضي محمد محمود الزبيري، المقيمين بالقاهرة، ومن معهم من الأحرار الشباب كمحسن العيني ومحمد بن أحمد نعمان وغيرهم ممن امتاز نشاطهم وتفكيرهم بتطويع المنابر العربية لخدمة القضية اليمنية معززين استقلالها ووحدتها ووطـــــــــنيتها، وليس تحويل اليمن ساحةً لصراع القوى العربية المتـــــــنازعة بالمنــــــــطقة.
زِد أن مِن “الأحرار القدامى” كما سماهم “الأحرار الجدد” من قدّر ضرورة استقلال ثورتهم وتحركهم لما ذاع عن “موقف الرئيس عبدالناصر من ثوار العراق عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف: أن اكتموا سركم عنا، ولا تطلبوا معونتنا، إن كنت بنفسك فأنت ثائر، وإن استعنت بغيرك فأنت متآمر” حسب مذكرات الأستاذ أحمد نعمان.
لكن الحالة اليمنية اختلفت تماماً فما انفجرت ثورة سبتمبر 62 م، وتصدر قيادتها “خريج العراق” عبدالله السلال حتى طلب تدخل القاهرة -وسبق لقائد الضباط الأحرار اليمنيين الشهيد علي عبدالمغني الاتصال بالقاهرة عبر القائم بالأعمال المصري بصنعاء قبل الثورة بشهور ووعده عبدالناصر بالمساندة-. فاندفعت القوات العربية المصرية تستجيب لنداء الحرب في اليمن نصرةً للجمهورية، تزامناً وتدفق الأموال السعودية نصرةً للإمام الشرعي!
لم يك الجو العربي ينعم يومئذ بالوئام والتفــــاهم، فكل زعيم عربي تتناقض أهواؤه وأهــــــــدافه مع الآخر.
والشاهد اشتداد الخلاف وتنافس الزعامة بين مصر عبدالناصر وبين عراق عبدالكريم قاسم، وأثرُها على استقبال الأخير لوزير خارجية اليمن الجديد محسن العيني (كان ببغداد يوم الثورة).
اثارة مسائية
ومع أن قاسم أراد المسارعة بإعلان الاعتراف بالجمهورية العربية اليمنية، خلال مؤتمر صحافي كاد يعقد للعيني الذي –حسب مذكراته- تجنب مواجهة الصحافيين “تفادياً لإثارة حساسية القاهرة الحريصة على أن تكون أول دولة تعلن اعترافها” بجمهورية صنعاء.
فوجئ العيني “بصحف القاهرة، تعلن فزع بغداد ودمشق وعمان من ثورة اليمن ورفض قاسم الاعتراف بالجمهورية مشترطاً على العيني..” ما لم يشترطه أصلاً!.
وخلال نوفمبر 62 م وصل وفد يمني إلى الرئيس قاسم وعوضاً عن استماعه تطورات اليمن بغية كسب الدعم العراقي للجمهورية الجديدة، استغرق الوفد اليمني ثماني ساعات -حسب مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني- يشاهد آثار محاولة اغتيال قاسم ويستمع “الخطب القاسمية” وتعريضه بمصر وعبدالناصر. في المقابل لم يُبقِ ناصر وأجهزته حرفاً لدى مهاجمة قاسم، نتاج صَد بعد وِد ثم أزمة الكويت! اعترف قاسم بجمهورية اليمن قبل طي عهده بدموية، وبقيت حرب اليمن بين مصر والسعودية غير مهيأة للطي، برغم مبـــــــادرة الرئيسين العراقي عبدالسلام عارف والجزائري أحمد بن بلا إلى ردم هوة العلاقات بين القاهرة والرياض، ربيع 64م دون أن يُفلِحا في وقف حربهما في و”باليمن” مما “سمم أجواء العلاقات العربية” حسب تعبير السيد عدنان باجهجي وزير خارجية عراق عبد الرحمن عارف، لعدم استعداد الأطراف العربية والمحلية إلى إنهاء الحرب.. وما انتهت واستقرت الجمهورية إلا في مايو 1970م بعد المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكيين واعتراف السعودية بالجمهورية في يوليو 1970م إثر انتهاء الصراع السعودي المصري وابتداء ماراثون النفوذ السعودي العــــــــراقي في اليمن.