قصة قصيرة
تسكع
احمد جبار غرب
كانت جثث القتلى تصل يوميا وبأعداد كبيرة ملفوفة بالعلم الوطني كان منظرا مؤلما ما عليك سوى ان تؤدي التحية لها عندما تمر امامك بخشوع واحترام عندما تمر من امامك .. يحدث هذا في جبهة مستعرة منذ حوالي العام ..بطول ثمانمائة كيلومتر ..وقع تلك الجثث على الناس كان هائلا بين الذهول والتساؤلات الخائبة ما الذي نريده نحن ؟وماذا يريدون هم ؟لكن اصل الحرب كانت عبارة عن خوف متبادل وهلع بين طرفين كل جهة تخشى الاخرى ..كان وضع المجتمع لا يزال تأثره بسيطا لأنها كانت في بدايتها رغم ذلك كان الناس يعيشون حياة عادية وأحيانا حياة طبيعية ..كانت بغداد تسهر حتى الصباح وكل شيء متوفر لا فرق كثير بين الليل والنهار انهما متزوجان وعاشقان ملهمان ..كنت مع شلة من الاصدقاء نتسكع في الشوارع ندخل الى دار سينما نشاهد فلما نخرج بعدها حيث ابو نؤاس يعج بالبارات الكثيرة والناس المتبضعين والحركة الدائبة في يوم كان اشبه بالعيد حيث يكون نهاية الاسبوع وتليه اجازة وتقرر الناس ان تسهر وتفرح انه الخميس العراقي الذي يرتدي حلته بكل الوان الفرح والتسلية انه يوم عراقي سعيد والشباب في المتنزهات والبارات .. فقررنا ان نلج احدى الحانات لنشرب شيئا كان انذاك الامر طبيعيا جدا لا يوجد هناك ما يمنعك لا حسيب ولا رقيب ولا سلطة تنفيذية او جهة دينية طالما انك لا تؤذي احدا وتمارس طقوس الاحتساء حسب التقاليد المعروفة ..كان نوعا من الترف او الهروب من ذاكرة كانت حاضرة تحاصرك بالحوادث اليومية المرعبة ومشحونة بالخطابات والأرقام والموسيقى التعبوية كنا جزء من المشهد اليومي ..جلسنا حول الطاولة ربما كانت لي تجربة بسيطة في هذا الكيف نادى احدنا على النادل كل واحد اوصى على مزته التي يرغبها مع الشراب انا طلبت اللبلبي مع صحن يسمى (الجاجيك)وهو خيار مثروم في صحن اللبن الرائب اوصيت على ربع عرق الزحلاوي وقد اوصى الباقون على الويسكي والبيرة كلا حسب مزاجه وما يرتاح له ..حاولت تجربة ان اشرب بشكل مباشر دون خلط المشروب بالماء لكني لم استطيع لأنه حار جدا فحاولت تخفيفه بالماء لكي استطيع هضمه وتحت انغام السيدة ام كلثوم كنا نحلق مع صوتها الملائكي الذي يسكرنا دون شراب فما بالك ونحن نحتسي الشراب .. انها رحلة للانطلاق والهوس الشبابي حيث تاخذنا الاحاديث الى افكار واتجاهات مختلفة من الاراء والجو الطاغي على تلك الجلسة هو الفرح وحب النكتة والضحك على مواقف يستذكرها البعض اسرفت في الاحتساء مندمجا مع صوت السيدة، لم اشعر بشيء ما في داخلي لكني حقيقة كنت اتسرع في الشرب حتى ان اصدقائي منعوني قالوا لي تمهل قليلا لديك الوقت الكافي وما ادهشني اني قضيت على الزجاجة في غضون نصف ساعة دون ان تلوح في الافق اي بوادر للترنح والخدر صحت بأصدقائي ان هذا لخمر ربما يكون مغشوشا ..اوعزت للنادل ان يأتيني بربع زجاجة ثانية فلبى ندائي بامتنان ..وأخذت اشرب بمتعة رهيبة اخذت كأسا ثانية مضى من الوقت قرابة الساعة احسست بخدر وتنمل وثقل في الكلام او تلعثم قضيت على الزجاجة إلا قليلا صاح بعض الاصدقاء لقد تأخرنا يجب الرحيل ودفع الحساب ..اما انا فقد اجهزت على ما تبقى من الزجاجة وأعطيت النادل ديناراً ازرق بضمتها الاكرامية عندما نهضت احسست بثقل جسمي لكني تماسكت قليلا حتى لا ابدو اني قد سكرت وكانت تلك الحالة تعد مثلبة حسب طقوس الاحتساء المتعارف عليها. وصلنا الى التقاطع حيث ذهب كل واحد الى مساره وانا سرت مترنحا من شارع ابو نؤاس حتى وصلت السعدون كنت اقف في الطريق لاتقيا وما ان انتهي حتى اقوم وأكمل مسيرتي وما هي الا دقائق حتى وقفت للتقيؤ لكنني بديت في حال سيء جدا حتى اني لم اعرف كيف اسلك طريقي ويبدو ان الخمرة وصلت ذروتها في راسي كنت اسير بتماسك ومع هذا اشعر اني لا اقوى علي المشي ولم اعد ارى الاشخاص امامي بصورة واضحة اختلطت عليه الصورة الذهنية مع اللحظات الواقعية لكني لم افقد الوعي تماما انهرت تماما امام المسجد وبقيت اتقيا بصورة ملفته للانتباه كان يتراءى لي خيوط من الدم الممزوج بالمواد التي اتقيؤها كان المارة من امامي قسم يضحك وقسم متعاطف لكنه منظر اعتادوا على رؤيته ..اما انا فكانت لي سابقة كبيرة لم اعتدها الى هذا المستوى .. كنت قررت ان انام امام المسجد للصباح لاني غير قادر على المشي وبحاجة الى منقذ. لحظات حتى مر من امامي شاب اسمر نحيل الوجه انا لم انتبه له حتى قال (لا لا هذا صديقي معقولة) انتبهت اليه كان حسين زميل الدراسة ورفيق الافكار الجميلة التي امنا بها تذكرته انه شهم وصديق رائع دائم الانتقاد للظروف التي كنا نعيشها سالني ما الامر قلت له اسرفت في الشرب ولا استطيع النهوض …فتكلم مع زميل له قائلا انه احد رفاقنا يجب ان اوصله الى بيته مهما كلف الامر ..نادى على سيارة وكان الوقت متأخر وكان هو في منطقة اخرى اوقف سيارة اجرة ولم يعامل السائق بل قال له.. لا باس كم تريد لكني اريد منك فقط ايصاله الى بيته. وتقبل السائق الامر برحابة صدر بعد ان قبض مبلغا محترما من المال في الطريق واصلت انهياري بالتقيؤ حتى ان السائق اعطاني كيسا لاتقيا فيه قال لا عليك ستكون بخير ثم اردف من يكون هذا الشاب قلت له صديق قال لقد وقف منك موقفا شهما ونبيلا.. قلت له هذا طبعه انه كريم وأصيل وصلت الى البيت لم اعرف طريقي سوى الارتماء على السرير لاغفو بعمق .. كان هذا الامرقد حدث قبل 34 عاما وحسين سافر الى الخارج وشارك مناضلا في حرب الانصار في شمال العراق وهاجر الى اوربا وأقام هناك وتزوج من مغربية وأنجب منها ولدين ..في الاسبوع الماضي وانا اتمشى في شارع المتنبي سمعت مسكه قوية من رجل عرفت ملامحه رغم تغيره الكثير إلا ان صوته لازال عالقا في ذهني انه حسين الذي انقذني يوما لم تكن الاحضان والقبلات تسد الرمق كان عناقا شديدا ذرفت الدموع فيه بغزارة اخذته الى مكان جلسنا فيه وتبادلنا الحكايات والأحاديث وسردنا الذكريات ومنها تلك الواقعة التي لا يمكن ان تشطب من الذاكرة .. كان يوما عصيبا عشته ولقائي بصديقي كان اروع لقاء شهدته فرحت به كثيرا لأنه بالنسبة لي رمز الوفاء والأصالة اخذت رقم هاتفه على امل اللقاء مرة اخرى .