حوار مع الكاتب والقاص الليبي سالم العبّار:
تجلّيات مهرة عربية تنطوي على نبض قومي
عِذاب الركابي
الكاتبُ والناقد والقاص سالم العبّار ..أحد روّاد القصّة القصيرة في ليبيا ، ومن أدبائها ومثقفيها الكبار .. ينحازُ إلى الكلماتِ – أيقونة أحلامهِ ، ولا يعشقُ في الحياة شيئاً أكثر من الكلماتِ .. هيَ رئتهُ التي لا يصلها عطلُ أو كسل الوقتِ ، وهوَ يتنفسُ منها هواءً آخرَ ..يستنجدُ بدقائقهِ القرنفلية من دخان وغبار ورتابة المدن التي تاهت في شوارعها .. وشوارعها تاهت فيها ، والاثنتان في نزاعٍ على ضوء شمسٍ نحـــيلٍ شاحبٍ .!!
كاتبٌ عاشقٌ لتربةِ بلادهِ ،.. وفضاؤها حبُّهُ الدائم .. وبروحٍ متهدمةٍ .. متشظيةٍ ، يقدّمُ لها في عيدِ ميلادها ، في اللازمن باقة وردٍ من حدائق وقتٍ خؤون .. كلماتٍ .. قصصاً قصيرة ً.. مقالاتٍ نقديةً .. نصوصاً متمردة غاضبة ، حبرُها ، وفسفور حروفها رمادُ الانتظار !! سالم العبّار يكتبُ لا ليُعبّرَ عن مشاعرهِ ، بل ليتخلص منها – حسب تعبير إليوت .. لا ليُعلنَ حبّهُ لبلادهِ ، بلْ يتعلم كلّ اللغاتِ للدعاءِ لها .. ليراها جديدة .. فاتنة .. تقيم كرنفالاتِ الحبّ والألفة ، لتظلَ أيقونةَ المدن .. ويظل عاشقها الجريح الأعظم ..!! كاتبٌ أداتهُ أظافرهُ ، بل جسدهُ كلّهُ ، يسافرُ على زورقٍ من الهدوء المُستفِز ، ويجدُ في الصمتِ صلاةً واجبة ً ، .. الصمتُ لديه ( منجمُ حقيقتنا) هكذا يرى ، وتصدقُ رؤياه الفلسفية ، كلّما عشنا في الأوطان ، أو عاشت فينا ، .. بمفارقاتها .. وكوارثها.. ،وحينَ يكتبُ (قصّته القصيرة) أوْ ( مقالتهُ النقدية) يصبحُ للصمتِ صدىً .. صوتاً .. موسيقا .. أوركسترا .. كلاماً مفرداتهُ وجملهُ وأخيلته لم ترد في ذاكرةِ أنبياء اللغةِ والشعر والبلاغة !!الكتابةُ لديه حُريّة !! بلْ أقصى درجاتِ الحرية !! وبهاجسِ الكتابة ، وهو كما النهرِ المتفجّر لديه ، سكبَ حليبَ الحريةِ في شرايين ولدهِ الأكبر ( محمّد) .. عشق ولدهُ وهوَ بخطى نسمةٍ ربيعيةٍ ، الحرية .. أقامَ لها في أعماقهِ صرحاً من فاكهةِ البراءة .. وفي واحدٍ من صباحاتِ بنغازي الغائمة .. الغامضة .. الحزينة ، خرجَ هذا الفتى الليلكي من بيتهِ ، ورائحة النوم والأحلام عالقة في ثيابهِ وجسدهِ الفتي ، ليُثبت لنفسهِ وهو يتقي سهامَ أسئلتها ، أنهُ من سُلالة الريح ، ليدافع عن الحرية ، سلاحهُ اللامرئي براءته .. وصايا وتعاليم الأب الكاتب – الفنان .. دعاء الأمّ بكلَ آياتِ عشقها القديم – الجديد ، ولكنّهُ لمْ يعّد لحضنها الدافيء ، ذهبَ في مركب ( حرية الحرية ) .. وصارَ غيابهُ الجارحُ فوضى ..خراباً .. دماراً .. لا حرية .. لا أمان ..لا بلاد لا إنسان .. الكلُّ لا أحد ..!! سالم العبّار يكتبُ .. ينزفُ دماً .. دمعاً .. عمراً .. أياماً وهو ( يتركُ في المحبرة قطعة ً من اللحم)- كما يقولُ ديستوفسكي !! ليجعلَ من الموتِ حياة ً ، ومِن الكراهية وهي تحدّ أسنانها ، عصافيرَ حُبٍّ ، ومن الهزائم الروحية تماثيل صبرٍ ، حتّى من شمعٍ .. يكتبُ على ورقِ الأمل ، في إيحاءْ جارحٍ ، قصّصاً بدمع القلب ، كلماتٍ بفتافيتِ روحٍ متهدمة ، ولا ينسى مواعيده أبداً مع المرأة – الحمامة – الحرية .. وتستعبدهُ أطيافُ الحرية في أوطانٍ ، أخطأ مواطنوها الطيبون في تهجيةِ اسمها ، فجاءت أبجدبتها غياباً .. وضياعاً !!
سالم العبّار صديقي الحميم .. عذراً !! أردتُ أنْ أحدّثكَ عن أسرار القصيدة ، وشفرتها العصيّة .. وإذا بقلبي يسبقني وهو يحجزُ لك سريراً دافئاً ، ويمطرُ نبضهُ أسئلة ً عمياء ..!!
. سالم العبار : صدرت لهُ عديد المجاميع القصًصية والكتب النقدية ومنها : ( تجليات مهرة عربية ، خديجار، اللعبة ) و( على هامش المتن ) و( مقالات في التراث) .. وغيرها!
. رئيس تحرير مجلة ( الفصول الأربعة) – مجلة اتحاد الأدباء والكتّاب الليبين .. رئيس تحرير صحيفة ( أخبار بنغازي) الأوسع انتشاراً .
الصمتُ منجمُ حقيقتنا
{ ترتفع صرخة العديد من المبدعين : أكتب لأن هذا العالم لا يرضيني .. لأن هذا العالم يغضبني و أكتب كي أقاوم بلادة الواقع .. قل لي لماذا الكتابة ؟.. بل لماذا تكتب ؟!!
– نكتب لأننا نريد أن نتنفس بعمق .. أن نحرر الحواس من عقالها .. نشم .. نسمع .. نرى .. نتكلم أن نقبض علي الصمت هذا المنجم العظيم الضاج بحقيقتنا .. فنكشف أنفسنا فلنكتب لنقول بأننا نحب ونكره .. ونحلم ونفعل .. ونعلن بأننا كائنات حية من خصائصها ظاهرة صوتية فاعلة .. نكتب حتى وإن كان العالم يرضينا .. لنعرف لماذا لم يغضبنا.
القصة القصيرة إشراقة روحٍ
في جسدٍ ميت
{ يقول الناقد الإنكليزي أروين أدمان في كتابه (الفنون والإنسان ) : (القاص هو فيلسوفك الصادق) .. لماذا القاص ؟.. وإلى أي مدى استطاعت القصة نقل نبض الواقع ؟.. وتجسيد خطى وأحلام الإنسان ؟.. وترتيب سرر الحياة ؟..
– القصة هي كل العالم .. الكون مكانها وزمانها والإنسانية كلها هي شخوصها وكتابها ، هي الفعل الأول الذي أنتج السؤال هي مولد أفعال الأمر والنهي والرجاء .. هي الأسماء .. هي المبتدأ .. بأقصوصة قصيرة جداً بفعل أمر (كبير) ممن قصّ أحسن القصص فكانت الأزمنة والشخوص والأرقام ثم قصة قصيرة محدودة الشخصيات ثرية اللحظة بطلاها آدم وحواء لينبثق شيء اسمه الحزن والفرح ، الأبيض والأسود ثم لنبحث في نسيجهما عن ولادة لعديد الألوان فاللحظة التي يتخلق فيها الزمان والمكان والأفعال هي لحظة القبض على مولد الحياة .. فالحياة زمان ومكان والقصة هي تلك اللحظة الفاعلة في صنع الزمان والمكان .. هي الشهقة البكر ، هي لحظة الإدهاش في مستهل مولد الحياة ، هي فعل مستمر ما دامت الحياة تنشئ من الومضات الصغيرة الخاطفة زمناً ممتداً شاسعاً لا لشيء إلا لأنه فاعل ، هي حدث ينتج من باطن الزمن يؤطره الزمن ولكنه يصنع الزمن .
ودائماً الأشياء التي تتماهى في الصغر ، تتماهي في الكبر .. في العمق ، وأقصر أقصوصة رتبت الكون بشمولـه لم تتجاوز حرفين من خطاب الله قال (كن) فكان كل شيء ، وبنفخة منه في جسد أساسه نطفة صغيرة كان الإنسان أهم شخوص هذه القصة الأبدية ، إلـه صغير استمد القدرة على الخلق والإبداع والابتكار ، فعل مستمر ضد الأمس لأن الأمس مشروع فانٍ ، والإنسان مشروع منفتح على الصيرورة ، يتجاهل لحظة توقف الزمن .. يتجاهل الموت ولذلك فكل نهاياته بدايات لشيء ينفقه من أجل غاية ، ولا يوقف هذا المشروع إلا الزمن وهذا ما يجعل الإنسان يتحسس علاقته بالمطلق والغيبي ويعيش على حلم بحياة أخرى ، فالبداية والنهاية وبينهما الزمن والإنسان هم سؤال الحياة ، والقصة بداية ونــهاية وزمن وشخوص.
والقصة القصيرة إشراقة ، النفحة الإلهية إشراقة روح في جسد ميت ، والإنسان روحه من هذه النفحة الإلهية ، من تلك اللحظة الصغيرة الكبيرة ، ومنذ تلك اللحظة وهو يسعى إلى الخلود ، إنه إلـه صغير ، يتحرج أن يقول ذلك ، لكنه يسلك المسلك المؤدي إلى الألوهية ، يخلق امتداده بفعل مستمر يخلفه من بعده .
والقصة لحظة تتأسس بشخوص ووسط ، وحدث يتأسس عليه فعل كبير ، والولادة بداية لحظة يتأسس عليها فعل كبير ، وفي كل فعل زمن ولكل فعل فاعل ، إذاً شخوص القصة أناس وأفعال وهي بذلك حدث مستمر شاسع .. ممتد .. مطلق يتجاوز مسطرية الامتداد من نقطة البداية إلى نقطة الانتهاء المحددة المقفلة افتراضاً في اجتهادات منظري فن القصة القصيرة بل هي دائرة تنتهي من حيث تبدأ وذلك بتجاوزها الزمن المحدد في لحظة قصيرة إلى الحلول في الأنى والمستمر من الزمن حين تشكل النهايات بدايات في كون وقوده الزمن ، وهكذا فالقصة إنسان من زمن وحدث وفعل وهي تستوعب من كل صنوف الإبداع ملمحاً تستوعب المقالة والخاطرة والشعر ، فهي أنثى وأول سطر في كتاب الكون قصة قصيرة لم تتجاوز شخوصها حواء وآدم وتأسس على ذلك الحدث الصغير فعل كبير،عبر رواية تتابع فصولها نظل نكتب أحداثها ونطالعها في كل حين.. من هنا كان القاص الفيلسوف الصادق .
الأدب الليبي يفتقد للتعريف
خارجَ بلادهِ
{ ساد في السنوات الأخيرة مصطلح (القصة -القصيدة ) أنا قلت في إحدى الندوات ، وبحضور العديد من كتاب القصة والرواية العرب ، إن هذا الفن ولد في ليبيا .. وقال إدوار الخراط أنه ولد على يده ، وتضاربت الآراء هنا .. وهناك ، أنت كواحد من المؤسسين لهذا الفن ماذا تقول ؟!.. وما أسباب انتشاره وسيطرته على القصة الحداثوية ؟!!..
– القصة القصيرة والأقصوصة الومضة ، مصطلحات أسست للنص المفتوح أو فلنقل إرهاصات أو مقدمات لكن مسمى القصة القصيدة وجد حضوراً لافتاً خلال فترة السبعينيات في عدد من الأقطار العربية ، العراق – سوريا – لبنان – مصر – المغرب – ليبيا – الجزائر وكل يعزو ظهور هذا المفهوم في الوطن العربي على يديه ، لكن أقول بأن تجربة عمر الككلي في كتابة القصة القصيرة سبقت محاولات كتابتها في الأقطار العربية وقبلها المجموعة القصصية .. فتاة على رصيف مبلل (لعبد الله الخوجة) لكن معضلة الأدب الليبي أنه يفتقر إلى التعريف خارج بلادنا والقصة فن صغير لكنه عميق ، تضيق فيه العبارة وتتسع الدلالة ، فهي تستوعب الخاطرة والمقالة والقصيدة وأرى بأن الشعر سعى إلى رحابة القصة حين تحرر من بحور الخليل وسعت القصة إلى القصيدة حين اختزلت الحدث إلى حالة شعورية عميقة اسمع أن كل شيء مرتب على الفراق ثم التلاقي .
{ خرج من معطفك العديد من الأقلام الشابة .. والآن هم كتاب ولهم كتب وحضور ثقافي .. ما تقييمك لما يكتب هؤلاء الشباب ؟!.. ماذا تقول لهم؟!.. هل هم جديرون بحمل راية التواصل والإبداع الجاد ؟!!..
– أنا من تعلم منهم خيالاتهم البكر والتقاطاتهم العفوية وصدق الحالة ، وحضور الذين برزوا من خلال برنامج (ما يكتبه المستمعون )يشهد لهم ، فمن لا يعترف بشاعرية حليمة العايب ورامز النويصيري وأحمد العيلة وموسى الشيخي وغيرهم كثيرون في مجال القصة ممن لهم حضورهم الفاعل على الساحة الإبداعية في بلادنا . *
الكتابة لعبة .. ودائرة لا تنغلق .
{ من (تجليات مهرة عربية ) – ذات النبض القومي – إلى (خديجار – النبض الإنساني .. إلى (اللعبة ) – القصة – الحلم .. كيف تصف لنا هذه المغامرة ؟.. وماذا بعد هذا التوهج الإبداعي ؟..
– هذه كلها محطات فالكاتب ينفق عمره في كتابة نص واحد وأجمل ما في لعبة الكتابة أنها دائرة لكنها لا تنغلق .. ولا تعترف بالخط المستقيم وفي هذا استلهام للحياة و للمطلق .
الكون يقين يسعى إلى اليقين ، الكون بما فيه دائرة مفتوحة ، تتوق للاكتمال ، وعبر موجات من اكتمالات لا تتوقف دوائر صغيرة تسعى إلى الاكتمال في دائرة كبيرة ، تماماً كدوائر تصنعها قطرات المطر في مستنقع صغير تتسع فتذوب في خضم كبير ، وكقصة حياة البذرة من التشقق إلى الإثمار ، والإنسان من الميلاد إلى الممات ، عبر محطات من بدايات ونهايات لا تعني شيئاً سوى أنها مجرد جهد يبذل في فضاء من مكان وزمان شاسعين ، لينغلق في فضاء محدد ، كما يطبق الفرجار بإطار على نقطة كانت تشكل برغم صغرها فضاءً فسيحاً لا يحده زمان ولا مكان ، لذلك يعمل اللاوعي فينا على البحث عن نهاية للخط المستقيم حتى وإن خرجنا عن استقامته بمنحنيات وانكسارات ، كما يغلق العقل الدائرة المفتوحة ويكمل الأشياء الناقصة مدججاً بما اكتسبه من معارف وخبرات حتى وإن أسعفته في بلوغ نقطة الاكتمال شعر بأن الاكتمال ناقص فخرج عن الإطار خروجاً لا معنى له سوى اجتهاد جديد في رحلة البحث عن اليقين والإحاطة والشمول ، هذه الرحلة في خضمها لا تخفي مشهدية المحافظة على النوع ، فإذ بالانسان معني بالوصول إلى محطة النهاية ، دائماً ثمة نقطة وصول هى الهدف المؤقت المفضي إلى غاية أكبر وكأننا بالإنسان ينطلق من التقييد ليبلغ التجسيد .الكون كله يسمو إلى الكمال ، وهذا الكمال والاكتمال والتجسيد من طبيعة تكويننا فعقولنا لا تغفو لحظة حتى تعيد قراءة ما سلمت به ، وهكذا كل النتائج والمسلمات والنهايات هي بدايات لرحلة لا تنتهي وهذه الوقدة في العقل الإنساني تجعل الإنسان إلهاً صغيراً يطمح إلى الخلود بكرهه الموت والبحث عن امتداد له في الحياة وبقدرته على الإبداع والصنع على غير مثال ، يبحث عن النهائي في اللانهائي في انتظار أن يمتلك مفاتيح الأشياء ، يمتلك الزمان والمكان فيقفل عليها ويضع المفاتيح في جيبه ويستريح .!!
والكاتب ينفق عمره في كتابه نص واحد لأن الحياة كذلك فالأشياء تبدو لك في متناول يدك ثم على مرمى البصر ثم مجرد سراب فلعبة الكتابة هي لعبة الحياة كل محطة تفضي إلى أخرى فيها العنفوان والتحفز والانكسار والبلادة والقبح والجمال والحلم واليأس والفرح والحزن محصلة تجارب لتجربة واحدة .. عشت كل ذلك في التجليات والمنشورات وخديجار واللعبة لكنني أشعر أنني صرت أكثر التصاقاً بالأرض ربما لإحساسي بامتداد العمر باقترابي من التراب ليتحقق ذلك التوق توق الاكتمال والاتصــــال بين الأرض والسماء . ففي البدء كانت الأرض والسماء جزؤها فلقتي بذرة محموله الماء ، والأرض أم الكائنات ذرة ذرة ، والماء قطرة قطرة ، وبفعل الأمر الإلهي الأول كان الانفصام الأول ونشأ المباح والمحظور فصارت هنا والسماء هناك ، بينهما زمن من ليل ونهار منشاؤه ليال وفي السماء شمس ترتب المواعيد لأزمنة مبتدأها الثانية والدقيقة والساعة ، والماء يرحل من الأرض إلى السماء بمراسم تزاوجية من برق ورعد وإخصاب ليعود إلى الأرض بفعل غيمة حبلى والأرض تستعيد ما لفظته من مذكر فتستثار الأنوثة فيها باهتزازة خجلى من حبة بذرة تبوح بمتلازمة ثنائية الأحادي مكان هنا في الأرض وآخر هناك في السماء وبرزت الشخوص من آدم وحواء وتهيأ الفعل بامرأة وشجرة ، الشجرة من بذرة والمرأة والرجل من تراب والتراب أرض وفي مواجهة توق الرجل للمرأة والمرأة للرجل كانت الغواية سفر خروج على المحظور على قانون الفصم والفصل وبتجاوز للنواهي فكان الأمر للأرض بأن تستعيد نتاجها المرأة والرجل بعد أن لفظتهما السماء التي أمرت بأن تنفصم عن الأرض وكان هذا مبتدأ كل الروايات المتخلقة من أقاصيص مبتدأها فعل الأمر (كن) فكان الكون كل الكون كان (الكل) من (كن) مروراً بالنهي الإلهي عبر فعل مستمر يشكل توقاً إلى العودة إلى الأصل إلى الأرض إلى الحلول وكان هذا هو الحدث الكبير الذي يتخلق في أشكال متباينة في كل عصر من شهقة الروح وصرخة الميلاد وارتعاشة الشهوة وارتعاشة الموت وهي لحظات خالية من الإحساس بالزمن الذي هو الخلود وهو المبتغى فالإنسان ينفق حياته في سبيل الزمن وهو مسافة المراوحة بين الأرض والسماء وهذا ما ترسخ في المعتقدات الإلهية القديمة التى نجد ظلالاً لها في العصر الحديث ففي مبتدأ العهد الأشوري قدس الآشوريون الزهرة وحاولوا أن يستعيدوا للثنائية أحاديتها… بأن جعلوها سيدة السماء وربة اللذة تسعى في طلب اللذة وترعى الحب والشهوة والإغواء والمتعة والفرح وهي في الصباح إله ذكر يقود الحروب فمن خلالها انتقلت العبادة من الأرض إلى السماء وفيها تركزت قوة كونية فصارت الرافدين في آلهة أنثى وأصبحت هذه الألهة تمثل رمزاً في السماء هو كوكب الزهرة لما يمتاز به من حسن وبهاء وعبدها السومريون وأسموها (إينانا) أي سيدة السماء وهم الذين كانوا ينادون إلههم بيا أماه واعتبروا الكائنات الكونية كبرى تمثلها في الأرض والماء ، الأرض الأم والأب السماء وبدخول الساميين إلى الرافدين أسموها (عشتار) هبطت إلى العالم السفلي وأعاد البابليون صياغتها في ملحمة هبوط (عشتار) إلى العالم السفلي .
وفي المعتقدات العربية كانت العرب تعبد العزي في شكل ثلاث شجرات مقدسات والشجر علامة الخصب وكان للعرب تمثــــــال أو رمز تحمله قريش في حروبها خـــاصة (الزهرة) إله الحرب .
وهكذا لم تكف محاولات التوق إلى الحلول والاندماج والتوحد والاكتمال للزمان والمكان والالتقاء بين منفصلين السماء والأرض وولج الإنسان إلى السماء من الأرض وتحول من ساجد على الأرض إلى رافع يديه إلى السماء حيث المجرات وكل مجرة تحوي بلايين النجوم . هكذا قبضت الأنثى على أسرار الحياة وتأمل تجد في كل معنى عميق عمقاً للأنوثة من الروح والموت والبذرة والذرة والفراشة والوردة والابتسامة والدمعة والموت والحياة والقائمة لا تنته لكن تختزلها الكلمة التي كانت المبتدأ وكانت المستهل لباب المعرفة بالأمر (اقرأ) والقراءة فعل .
{ شهدت ليبيا حركة نشر دؤوبة ، هل يمكن أن تستمر ؟و هل استطاع النقد أن يواكب نزيف واحتراق هؤلاء المبدعين ؟..
– غياب المواكبة النقدية ملمح من ملامح الغياب العام لديمومة الحراك الثقافي الذي لم يعد هّماً يومياً للمبدع الليبي كما هو الحال في سنين مضت حين كان الهم الثقافي حاضراً في المقهى والشارع والجامعة والمؤسسات الثقافية والإعلامية ، لم نعد نشهد فعلاً ثقافياً جماعياً وانحصرت في اجتهادات فردية أو عبر حضور مناسباتي موسمي غير متصل فعلي المبدع إذاً ألا يعّول على مواكبة من أي نوع .
كتّأب النصّ الإبداعي همُ
كتّأب النصّ النقدي
{ يقولون لا توجد حركة نقدية جادة في بلادنا ترى ما أسباب ذلك ؟.. وأنت كمبدع هل أنصفك النقد ؟.. مَنْ مِنَ النقاد الليبيين والعرب يشغلك ، وتثق برماد أصابعه ؟..
– كما أشرت غياب النقد جزء من غياب منظومة الحراك الثقافي المعّطلة جراء غياب عناصر مهمة لها الدور في تحريك الساحة الثقافية من ذلك غياب الصحافة الفاعلة وانقطاع الصلة بالقارئ وغياب النقد في ليبيا ليس وليد اليوم فالمحاولات النقدية الجادة قليلة ولا تضم المكتبة الليبية إرثاً نقدياً كبيراً ولعلك تجد كتاب النص الإبداعي هم كتاب النص النقدي ومواكبة النقاد العرب للإبداع الليبي تسجل أسبقية عن المواكبة النقدية الليبية من ذلك ما كتبه عني عذاب الركابي وجميل حمادة وفضيلة الفاروق ومحمد معتصم وأحمد فرحات وقبلهم كثيرون من النقاد العرب ، لكنني احترم جداً من النقاد الليبيين التجربة النقدية للأساتذة عبد الحكيم المالكي ورامز النويصري وإدريس المسماري.
{ قديماً قالوا : ( الشعر ديوان العرب) وحديثاً يقولون (الرواية ديوان العرب) .. هل يمكن أن تسود مثل هذه المقولات وسط سيل من الإبداع المتفجر .. والمتجدد ؟..
– ديوان الأمة هو الأمة ذاتها وكل مرحلة تخلق أداتها لقد كانت الحكاية ديوان العرب قبل الشعر ما حفظ الشعر هو الوزن والإيقاع فيسهل تدوينه ثم كان الشعر ديواناً ثم الآن الرواية ، الحياة تلاق تحسبه اختراقاً.
أنا مع استيطان القصّة في لغة الشعر
{ قال الشاعر الراحل الكبير علي الفزاني : إن بعض قصص سالم العبار ، لو قطعتها عروضياً لوجدتها موزونة .. ماذا استفدت من الشعر ؟.. بل ما الذي يضيفه الشعر لفنون مثل القصة والرواية والمقال ؟..
– كل النصوص آفاق منفتحة على المتخيل تستمد جذوتها من تراكمات الخفق البعيد هي ألوان للون واحد ففي القصة شعر وفي الشعر قصة حتى وإن تقلصت فيها مساحة السرد إلى حد التلاشي لكن يظل مبتدأ القصة قصة ، ومبتدأ القصة هاجس شعوري لحالة ملّحة هي بالضرورة شعر ، أنا مع استبطان القصة في لغة الشعر ، لكني لست مع الشعر المنبري لا في الشعر ولا في القصة .
الرواية فنّ السهل الممتنع
{ كثر كتاب الرواية هذه الأيام في ليبيا والوطن العربي .. شيء يدعو إلى الفرح .. هل هي بهذه السهولة ؟.. مَنْ مِنَ الروائيين الليبيين والعرب يسجل حضوره باقتدار .. ويمكن لروايته أن تعيش ؟..
– الكثرة مطلوبة إن سجلت التنوع وأنا أحترم كل التجارب الأدبية لكن الرواية بانفساحها هي فن السهل الممتنع تماماً كالقصيدة الحديثة باب يمكن أن تدخله بسهولة لكن القليلين يخرجون منه ويستقبلهم الناس باحتفاء .
{ يقول جابرييل غارسيا ماركيز في كتابه النثري : (غريق على أرض صلبة ) : (القصة سهم في قلب الهدف ) أما الرواية فهي كصيد الأرانب ) .. ماذا تعني لك هذه العبارة ؟.. وهل يمكن أن نقرأ العبار روائياً؟..
– نعم هي السهم الذي يصيب الهدف مباشرة وهي قطرة الماء الصغيرة التي تثير المحيط وهي الومضة الخاطفة التي تسجل حضورها الكبير باختصار شديد ، أما الرواية فذلك النهر المتدفق من النبع إلى المصب ، يتيح للراوي فرصة الاقتناص في أكثر من موقع فإن فشل في مكان يمكنه أن يصيب في مكان آخر ، واعتقد أن كاتب القصة القصيرة من خلال قصصه يكتب رواية طويلة بل العالم بأسره في كل لحظة يسجل من الأحداث اليومية الصغيرة فصولاً روائية لا تتوقف ، لكنني أقول بأنني أعدت إنتاج حالاتي القصصية في نص واحد طويل قد يكون رواية لم تكتمل بعد عنوانها عام العطش .
الحلمُ وقدةٌ ربانية لا يُمكن أن تنطفئ
{ويقول بورخيس في كتابه الرائع (التاريخ الكوني للخزي ) : (إنني أنا الحالم ) .. قل لي أي حلم بقي لنا لنعيش فيه وسط هذا الدمار والخراب والطغيان .. والاحتلال .. والموت اليومي ؟..
– مهما كانت مساحة الحزن لا يمكنها أن تكتم أنفاس الحلم ، فالحلم وقدة ربانية لا تنـــــطفيء ، قد تلونه بكوابيس وتكتم أنفاسه الآلام لكنه يظل يتنفس .
{ الناقد والقاص المبدع سالم العبار .. ما جديدك؟..
– الجديد كتاب بعنوان (ظل الشمس ) وهي تأملات فكرية تسرب شيء منها إلى هذا الحوار يحمل عنوان (على هامش المتن) .
شكراً لك..



















