تجربة رائدة لمطعم يموّل أنشطة إنسانية لمحاربة هجرة الشباب

بيروت‭ (‬أ‭ ‬ف‭ ‬ب‭) – ‬يختلف‭ “‬بيت‭ ‬كنز‭” ‬عن‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬منازل‭ ‬حيّ‭ ‬سرسق‭ ‬الراقي‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬فهذا‭ ‬البيت‭ ‬التقليدي‭ ‬بهندسته،‭ ‬والذي‭ ‬يحتضن‭ ‬التراث‭ ‬اللبناني،‭ ‬هو‭ ‬تجربة‭ ‬رائدة‭ ‬لمطعم‭ ‬تُستخدم‭ ‬عائداته‭ ‬في‭ ‬تمويل‭ ‬أنشطة‭ ‬إنسانية‭ ‬ومشاريع‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬إبقاء‭ ‬الشباب‭ ‬اللبنانيين‭ ‬تحت‭ ‬سقف‭ ‬بلدهم‭ ‬بتأمين‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭ ‬منتجة‭ ‬لهم‭.‬‮ ‬

وتكاد‭ ‬الأشجار‭ ‬المعمّرة‭ ‬تخفي‭ ‬شتلة‭ ‬الياسمين‭ ‬العملاقة‭ ‬التي‭ ‬رسمت‭ ‬على‭ ‬واجهة‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬ذي‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬التقليدية‭ ‬الممزوجة‭ ‬بلمسة‭ ‬عصرية،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬مشاريع‭ ‬جمعية‭ “‬بيت‭ ‬البركة‭”.‬‮ ‬

وتأسست‭ ‬جمعية‭ “‬بيت‭ ‬البركة‭” ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الانهيار‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬عام‭ ‬2019،‭ ‬وتوسعت‭ ‬مشاريعها‭ ‬الخيرية‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬فأقامت‭ ‬تعاونية‭ ‬وصيدلية‭ ‬مجانية‭ ‬وتدعم‭ ‬مستوصفات‭ ‬ومستشفيات‭ ‬تعالج‭ ‬المسجلين‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقابل،‭ ‬ورممت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬منزل‭ ‬ونحو‭ ‬670‭ ‬محلاً‭ ‬تجارياً‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مدارس‭ ‬ومبانٍ‭ ‬اثرية‭ ‬ودفعت‭ ‬أقساط‭ ‬نحو‭ ‬12‭ ‬ألف‭ ‬تلميذ‭ ‬ورواتب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬آلاف‭ ‬استاذ‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬مئة‭ ‬مدرسة،‭ ‬بحسب‭ ‬الإحصاءات‭ ‬التي‭ ‬توردها‭ ‬عن‭ ‬أعمالها‭.‬‮ ‬

لكنّ‭ ‬الجمعية‭ ‬نقلت‭ ‬تركيزها‭ “‬من‭ ‬النظام‭ ‬الريعي‭ ‬إلى‭ ‬النظام‭ ‬المنتج‭”‬،‭ ‬بحسب‭ ‬مؤسِستها‭ ‬مايا‭ ‬ابراهيم‭ ‬شاه،‭ ‬وتحوّلت‭ “‬من‭ ‬جمعية‭ ‬تساعدإلى‭ ‬جمعية‭ ‬توفّر‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭”.‬‮ ‬

وتشرح‭ ‬ابراهيم‭ ‬شاه‭ ‬لوكالة‭ ‬فرانس‭ ‬برس‭: “‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نجعل‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬مساعداتنا‭ ‬منتجين‭”‬،‭ ‬والبيت‭ “‬يوفر‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭ ‬للشباب‭ ‬كي‭ ‬يبقوا‭ ‬في‭ ‬لبنان‭”.‬‮ ‬‭ ‬وتقدّم‭ ‬الجمعية‭ ‬قروضاً‭ “‬لمتخرجين‭ ‬لامعين‭” ‬وتشجعهم‭ “‬على‭ ‬الاستثمار‭ ‬وتكوين‭ ‬فريق‭ ‬عمل‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬والبقاء‭ ‬في‭ ‬لبنان‭”‬،‭ ‬بحسب‭ ‬الناشطة‭.‬

وتضيف‭ “‬إنها‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭ ‬مرتبطة‭ ‬بإرثنا،‭ ‬بالصناعات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬بالمطبخ‭ ‬والأعمال‭ ‬اليدوية‭ ‬والحرفية‭”.‬

‭ ‬من‭ “‬المونة‭” ‬إلى‭ ‬الحِرف‭- ‬

على‭ ‬يمين‭ ‬مدخل‭ ‬البيت المميز‭ ‬بقناطره‭ ‬الثلاث،‭ ‬في‭ ‬الطبقة‭ ‬الاولى‭ ‬من‭ ‬مبنى‭ ‬تراثي،‭ ‬تقع‭ ‬صالة‭ “‬المونة‭”‬،‭ ‬وهي‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬التي‭ ‬درج‭ ‬اللبنانيون‭ ‬القدامى‭ ‬على‭ ‬حفظها‭ ‬وتخزينها‭ ‬للشتاء‭.‬‮ ‬

وتشير‭ ‬ابراهيم‭ ‬شاه‭ ‬إلى‭ ‬وعاء‭ ‬من‭ ‬الزعتر‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬مجموعة‭ ‬نساء‭ ‬في‭ ‬العباسية‭ ‬بجنوب‭ ‬لبنان،‭ ‬شارحة‭ ‬أن‭ “‬كل‭ +‬المونة‭+ ‬على‭ ‬الرفوف‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬نساء‭ ‬تدعمهن‭ ‬جمعية‭ +‬بيت‭ ‬البركة‭+ ‬أو‭ ‬شركات‭ ‬صغيرة‭ ‬باتت‭ ‬تعمل‭ ‬فيها‭ ‬عائلات‭ ‬مسجلة‭ ‬لدى‭ ‬الجمعية‭”.‬‮ ‬

وتضيف‭ “‬نرسل‭ ‬أيضا‭ ‬العائلات‭ ‬التي‭ ‬ندعمها‭ ‬لتعلم‭ ‬الاعمال‭ ‬اليدوية‭ ‬من‭ ‬الحرفيين‭ ‬الاصليين‭”.‬

على‭ ‬يسار‭ ‬المدخل،‭ ‬صالة‭ ‬تعرض‭ ‬اعمالا‭ ‬حرفية،‭ ‬وتزين‭ ‬رفوفها‭ ‬الاواني‭ ‬النحاسية‭ ‬والزجاجية‭ ‬والشموع‭.‬

وتشرح‭ ‬ابراهيم‭ ‬شاه‭ “‬نشتري‭ ‬الشموع‭ ‬من‭ ‬معمل‭ (…) ‬حرفي‭ ‬في‭ ‬الكرنتينا‭”‬،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬ضواحي‭ ‬بيروت‭ ‬القريبة‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬المرفأ،‭ ‬ومن‭ ‬الأحياء‭ ‬التي‭ ‬دمرها‭ ‬الانفجار‭ ‬المروع‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬فيه‭ ‬يوم‭ ‬4‭ ‬آب‭/‬أغسطس‭ ‬2020‭ ‬وأسفر‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬200‭ ‬شخص‭.‬‮ ‬‭ ‬وتقول‭ “‬رممنا‭ ‬المعمل‭ ‬بعد‭ ‬انفجار‭ ‬المرفأ‭ ‬وساهمنا‭ ‬في‭ ‬شراء‭ ‬آلة‭ ‬له‭ ‬ومولّد‭” .‬‮ ‬

اما‭ ‬النحاس‭ ‬فمن‭ ‬طرابلس‭ “‬حيث‭ ‬الانتاج‭ ‬محدود‭ ‬بسبب‭ ‬غياب‭ ‬الكهرباء‭ ‬والمواد‭ ‬الأولية‭ “. ‬وتسعى‭ ‬الجمعية‭ ‬إلى‭ ‬إحياء‭ ‬صناعة‭ ‬الزجاج‭ ‬على‭ ‬شاطىء‭ ‬صور‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تصمد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭ ‬الا‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة‭.‬

‮ ‬وفي‭ ‬البيت‭ ‬مكتبة تؤمّن‭ ‬لروادها‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الحي‭ ‬وللمتقاعدين‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬الجامعات‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬وجريدتين‭ ‬بالفرنسية‭ ‬والعربية‭.‬

وفي‭ ‬المطعم‭ ‬المميز‭ ‬بسقفه‭ ‬الخشبي‭ ‬المنحوت،‭ ‬استُمدّت‭ ‬قائمة‭ ‬الطعام‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬التراث‭. ‬وتقول‭ ‬ابراهيم‭ ‬شاه‭ “‬نقدم‭ ‬مثلاً‭ ‬الكوسا‭ ‬باللبن‭ ‬محشوة‭ ‬بالبرغل‭ ‬وليس‭ ‬بالارز،‭ ‬ففي‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لبنان‭ ‬يستورد‭ ‬الارز‭” .‬

وتُخصص‭ ‬عائدات‭ ‬المطعم‭ ‬للمساهمة‭ ‬في‭ ‬تمويل‭ ‬أنشطة‭ “‬بيت‭ ‬البركة‭” ‬الإنسانية‭ ‬ومشاريع‭ ‬الجمعية‭ ‬الهادفة‭ ‬إلى‭ ‬تشغيل‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لامس‭ ‬معدل‭ ‬البطالة‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثين‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬وبات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثمانين‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬لبنان‭ ‬تحت‭ ‬خط‭ ‬الفقر،‭ ‬بفعل‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬يشهدها‭ ‬لبنان‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2019‭ ‬وتُعتبر‭ ‬الأسوأ‭ ‬في‭ ‬تاريخه،

وتضيف‭ “‬في‭ ‬الاراضي‭ ‬الزراعية‭ ‬التي‭ ‬تديرها‭ ‬جمعية‭ ‬بيت‭ ‬البركة‭ ‬لدينا‭ ‬شجرة‭ ‬ياسمين‭ ‬معمرة،‭ ‬وفريقنا‭ ‬من‭ ‬خريجي‭ ‬المدرسة‭ ‬الفندقية‭ ‬صنع‭ ‬بوظة‭ ‬من‭ ‬ياسمين‭ ‬ويقدم‭ ‬حلوى‭ ‬بدبس‭ ‬الخرّوب‭”.‬

وتؤكد‭ ‬ابراهيم‭ ‬شاه‭ ‬أن‭ ‬هدف‭ “‬بيت‭ ‬كنز‭”‬‮ ‬هو‭ “‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬والحفاظ‭ ‬عليه‭ ‬ونقله‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الى‭ ‬اخر‭”.‬وترى‭ ‬أن‮ ‬‭ “‬كل‭ ‬بلد‮ ‬‭ ‬يمر‭ ‬بأزمة‭ ‬اقتصادية‭ ‬يخسر‮ ‬‭ ‬تلقائيا‭ ‬نسيجه‭ ‬الاجتماعي،‮ ‬‭ ‬وبتلاشيه‭ ‬يتلاشى‭ ‬التاريخ‭ ‬والثقافة‭ ‬والحضارة‭ ‬والتراث‭ ‬وتتغير‭ ‬طريقة‭ ‬عيشهم‭ ‬واكلهم‭ ‬وتقاليدهم‭”.‬

كنز‭ “‬النفسية‭ ‬اللبنانية‭”‬

ويطغى‭ ‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬على‭ ‬شكل‭ “‬بيت‭ ‬كنز‭” ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬محتواه‭ ‬فحسب‭. ‬فهو‭ ‬اتخذ‭ ‬مقراً‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬شيد‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬سرسق‭ ‬الراقي‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬ويتألف‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬طبقات،‭ ‬دمره‭ ‬بالكامل‭ ‬انفجار‭ ‬مرفأ‭ ‬بيروت،‭ ‬وتوفيت‭ ‬صاحبته‭ ‬مارغو‭ ‬طبال‭ ‬جراء‭ ‬اصابتها‭ ‬في‭ ‬الانفجار‭. ‬‮  ‬

واستعانت‭ ‬ابراهيم‭ ‬شاه‭ ‬بأساتذة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬وبجمعية‭ “‬أبساد‭” ‬التي‭ ‬تعنى‭ ‬بحماية‭ ‬المواقع‭ ‬الطبيعية‭ ‬والمباني‭ ‬القديمة‭ ‬لاختيار‭ ‬كل‭ ‬المواد‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬ترميمه البيت‭ ‬بدقة،‭ ‬من‭ ‬بلاط‭ ‬الارضيات‭ ‬إلى‭ ‬الخشب‭. ‬وتقول‭ “‬أردنا‭ ‬ان‭ ‬نعيد‭ ‬البيت‭ ‬كما‭ ‬كان‭”.‬

وتقوم‭ ‬سيدة‭ ‬المنزل‭ ‬بحماسة‭ ‬من‭ ‬مكانها‭ ‬متوجهة‭ ‬إلى‭ ‬لوحة‭ ‬معلقة‭ ‬تضم‭ ‬كل‭ ‬الذين‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬هذا‭ ‬المنزل،‭ ‬وتقول‭ “‬كل‭ ‬ما‭ ‬تشاهدونه‭ ‬في‭ +‬بيت‭ ‬كنز‭+‬،‭ ‬من‭ ‬الأقمشة‭ ‬إلى‭ ‬حشوات‭ ‬الكنبات‭ ‬الى‭ ‬الكتب‭ ‬والخشب‭ ‬والصحون‭ ‬وشجرة‭ ‬الميلاد والثريات‭ ‬والاضاءة‭ ‬والمكيفات‭ ‬ومقاعد‭ ‬الخيزران،‭ ‬كله‭ ‬حصلنا‭ ‬عليه‭ ‬مجاناً‭”. ‬وتضيف‭: “‬أشعر‭ ‬بتأثر‭ ‬كبير‭ ‬لذلك‭. ‬إنه‭ ‬أمر‭ ‬يلخص‭ ‬النفسية‭ ‬اللبنانية‭. ‬إنها‭ ‬كنز‭”. ‬‮ ‬

مشاركة