ذكرياتي -1-
تاريخ ولادتي يشهد تعديلين
عبد الرزاق عبد الواحد
أشارة لابد منها
يعاود الشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد كتابة مذكراته مذ كان عمره ثلاث سنوات ويصفها بأنها مخيفة واجمل من شعره ، وهي اخر قطاف الدنيا قبل الوداع. واختار عبد الواحد صفحات ( الزمان ) لنشرها قبيل جمعها في كتاب ، كما كان قد سبق له ان خص (الزمان ) بنشر مذكرات سابقة على صفحاتها قبل نحو ثلاث سنوات.
الجزء الأول :
لان ذكرياتي عن نفسي من أخصب الذكريات واكثرها صدقا وعمقا
فسأبدأ بها ومنذ طفولتي المبكرة.
ولدت في بغداد في بيت جدي عمارة في محلة الكريمات في 10\5 \1930وقد جرى على ولادتي تعديلات الاول \اني اضطررت الى تكبير عمري سنة لكي أقبل في الجامعة حيث دخلت دار المعلمين العالية عام 1947 اي في السابعة عشرة.
فأضفت سنه الى عمري لكي ابلغ الثامنه عشرة والثاني \ تسجيلي الاخير في 1\7 ولم اكن ببغداد فسجلت ولادتي بهذا التاريخ.
كان بيت جدي يضمنا نحن وبيت خالي عباس والد الشاعرة لميعه الذي كان في وقتها يعمل في معرض نيويورك العالمي صائغا مشهورا …وكان شاعرا يتقن عدة لغات كتابة وحديثا رغم انه لم يدخل المدرسة!
كانت حالتنا المادية وسطا لهذا خصصوا لنا نحن غرفة لنومنا أنا وبنتا خالي لميعة ومليحة وابن خالي رجاء.. وكنا ننام في فراش واحد ونتغطى بغطاء واحد. كان جسم لميعة قطعة من الثلج وكانت تثير صياحنا لكثرة ماكانت تلتصق بنا واحدا واحدا لتتدفأ !
اذكر من تلك الايام ان خالتي الوسطى \ حكَومة \
كانت تأخذني على كتفها ايام عاشوراء وتدور بي في بيوت الكريمات حيثما وجدت \ قراية \ وهي عزاء النساء .
هذا المشهد لايغيب عن بالي لحظةٌ واحدة حتى الان وفي نفسي هيبة واعجاب بمشهد الملاية.
كانت الملايه تقف على موقع مرتفع قليللآ يهيأ لها وبيدها دفتر بلانجو ارجواني اللون تنسدل على جسمها عباءة تبدأ من الكتفين وتقرأ الشعر من الدفتر الذي تضع دائما إصبعها في وسطه حيث تقرأ … وكانت النساء يتحلقن حولها اقواسا منتظمة أحيانا ومتناثرات أحيانا أخرى … وعندما تصل الى نهاية المقطع الشعري الذي يبدأ دائما بقولها \ ناويين على الحرايب \
عندما تبلغ نهاية المقطع الشعري تغلق الدفتر وتبدأ تصفق عليه بيدها والنساء يلطمن.
ماتزال هيمنة الملاية على النساء ، وإحساسها بموقعــها نابتين في رأسي.
كان عمري سنتين عندما انتقل بيت جدي بأسره الى العمارة وفي بيت جدي أيضا.
هنا يجب ان أقف قليلا.
في طفولتي اجريت لي عملية فتق في الحالب، أجراها الدكتور صائب شوكت . كنا عندما نعود انا وخالتي من القراية الى البيت ، لدينا جاون للتهبيش \مهباش \ في البيت ، يقلبونه ويوقفوني فوقه أمي وخالاتي، ويطلبن مني أن أقلد الملاية بعد أن يضعن عباءة على كتفي ويعطينني دفتراً أصفٌقُ به عند رطانتي لآن لغتي كانت لاتفهم ! الذي يُفهم منها . او الذي أقوله فقط هو البيت الاول \ ناوين على الحرايب
مع لثغة مضحكة في حرف الراء . حالما اقول : ناوين على الحرايب ، يقُلنُ وبصوت واحد :
والكًروة شكًاهة صايب : الكًروة تعني الخصوة
فقد اجري لي عملية فتق في الحالبين ويتعالى ضحكهنٌ لانني أغضب وأنزل من فوق الجاون
قلت كان عمري سنتين عندما انتقلنا الى العمارة جميعا في بيت جدنا . وكانت بنتا خالي لميعة ومليحة يقسينَ عليه دائمآ ، وكنتُ اُمنعُ من الرّد عليهنّ لآن أباهنّ غائب ، ولهذا عملت أمّي رحمها الله .. على إخراجي من هذا البيت .
كان أبي يعمل في طرابلس الغرب صائغاً ، وكان يرسل لنا كل شهر خمسة دنانير تدخّر أمّي دينارا منها تجمّع لديها ماوعدتها خالتي كماله على إكماله وبناء بيت في قطعة أرضٍ قريبة عائدةٍ أيضا لجدّي وهذا ماحصل. لاأنسى ماحييت قصة هذا البيت .. قصة بنائه وقصة بيعه . كانت أمّي تأخذني إليه منذ بداية الشروع ببنائه ، وتجلس مع العّمال ، ومعظمهم من الآطفال، ينقلون مادة الجص والآسمنت للخلفة وهم يغنّون : ويلاه يلويلي ويلي تصنع أمّي الشاي ـ طبعا للخلفات والاطفال ـ
وانتقلنا الى بيتنا الجديد : خالتي كمالة ، وخالتي حكّومة التي كانت تجيد الخياطة ، ومعها ماكنتها .. وأنا وأمّي.
لن أنسى أنني كنت أنظف الآطفال لفرط عناية أمّي وخالاتي بي .
كنت أجلس في باب البيت -وفي رجلّي قبقاب من الخشب ، وتأتي من البيت المقابل سلوى عبد الله ـ زوجتي ام خالد ـ وكانت طفلة عجيبة، قاطعة طريق… لايمّر طفل في شارعنا وينجو من يدها .
يقفن هي ومليحة ابنة خالي أمامي .. تقول مليحة :
أنة من أكبر آخذ ابن عمتّي ، فتقول لها سلوى : إلآ آخذة منّج ! … وهذا ماحصل !!
من اطرف ماحصل لي في بيتنا هذا أن دكاناَ قريباَ
اسم صاحبه جواد ، كنت كلما أعطتني أمي فلساً أركض إليه لآشتري بالفلس حامض حلو تين بلاد . يوماً من الأيام قال لي جواد : ماعندكم جرايد مجلات في بيتكم ؟ جيبلياهة وأنة انطيك حامض حلو بلاش ! .. فتذكرت أن في غرفتنا صندوق كارتوني مليء بالمجلات ولكنها تعود إلى خالتي كمالة المعلّمة وعمّتي ناجّية المعلمة أيضا والأديبة صرتٌ كّل يوم اطوي أحدى المجلات أو الكتب بدشداشتي وأمضي بها الى جواد يعطيني حامض حلوتين بدلها !
يبدو أن خالتي وعمتي لاحظن أن صندوق مجلاتهن بدأ مافيه يقل ، فأخذن يراقبنني .. وفي يوم من الايام أمسكت بي خالتي وأنا أطوي مجلّة منها بدشداشتي فقالت وين موديها ؟ فاضطررت إلى الاعتراف .. فقالت ليش تاخذ هاي الكتب ؟ أنة انطيك كل يوم فلس اشتري بي حامض حلو .. وهذي الكتب إقراها كلها قصص وهذا ماحصل .. لكن حصل شيء أخاف أمّي خوفا شديداً …
كانت المجلات كلها قصص بوليسية وكتب أرسين لوبين وكلها قصص مرعبة ، فصرتٌ كل ّ ليلة استيقظ مذعوراً وأنا أصرخ وأبكي.
قالت أمي : لخالتي وعمتي شسويتن بالولد ؟للصبح ماينام .
مرة كان أحد ايام المربد مقاما في قاعة إحدى الكليات وكان مع الجمهور الحاضر جميع الشعراء الشعبيين ، ألقيت قصيدتي التي مطلعها :
ألا كم لنا قولةٍ لانقولها ……وكم صولةٍ فرط التقى لانصولُها
كان ذلك أيام حربنا أيران وصلت فيها الى مقطع عجيب \ وصيحَ بلا صوتٍ، وسيرَ بلا خُطىً
وضجٌ إلى كل اتجاهٍ رحيلُها …..فلو سقطت عينُ امرئ لايشيلٌها !
صرخت القاعة كلها من الرهبة ، اما الشعراء الشعبيون فظلوا وقوفاً لفترة!
عندما عدت إلى مكاني وكان إلى جانبي الأستاذ نزار حمدون وكيل الوزارة .. سألني : أبو خالد .. ماتكلي هذي الصور المرعبة منين تجيبها ؟ .. فجأةً تذكرت روايات خالتي وعمتي !! لأول مرةٍ وخلف السينما في العمارة كنت طفلا في الصف الرابع الأبتدائي . لي صديق وقريب اليه نهاد باشاغا أبوه وعمه أحدهما معلم والثاني موظف صحّي . جاءني ذات نهار جمعه وقال :أنا ذاهب للسينما ، وكانت ثمن الدخول خمسة عشر فلساً . كلت له أروح وياك ، كال :إمشي ولم يكن لديه غير الخمسة عشر فلساً ، وصلنا إلى السينما رجل واقف في باب القاعة يأخذ ثمن الدخول … كال جيبوا 30 فلس ، كلنا إحنة إخوة وعدنة بس 15 فلس ، سأل نهاد :إنتة شسمك ؟ كال نهاد باشاغا … ثم سألني وأنت شسمك ؟ كلتلة عبد الرزاق عبد الواحد ، فضحك قال : جيبوا ال 15 فلس وأدخلوا ! وكان الفيلم هنديا أسمه \ تارزن كبتي \ عن فتاة طرزانة !
وجاء أمر مديرية تربية ميسان إلى خالتي المعلمة في العمارة بأن تسافر مديرة لمدرسة البنات في علي الغربي فسافرنا جميعاَ معها .. حتى جدي الذي كان يعيش مع بيت ابنه سافر معنا إلى علي الغربي وفتح دكانا للصياغة هناك .
حال وصولي نزلنا في بيت يضمّ معلماَ قريبا لنا إسمه ابراهيم بيبي ، وهو زوج أخت زوجتي ، وكان في المدرسة معلم قريب أخر هو زكي زهرون ابن خال والدتي وقد كان ابوه زهرون أوجه وجهاء الصابئة في العمارة والصائغ الخاص للعائلة الملكية البريطانية حال دخولي المدرسة التصق بي شاب أبيض البشرة نحيل الجسم عرفت في اليوم التالي أنه يهودي وأن اسمه حسقيل ابراهيم … وكان لايفارقني .. يبدو أنه وجد فيً أقلية أخرى ! في اليوم الرابع لدخولي المدرسة كانت لدينا الفرصة التي تسبق الدرس الثالث ، ودق الجرس فتوجهت إلى الصف واذا بحسقيل يقول لي بلهجته اليهودية الراءّ : وين ريحّ؟؟
قلت عدنه درس قال أي ، مادرس دين وأنت صابئي أشعليك بينو؟
لحضتها شعرت باشمئزاز كبير من حسقيل .. قال هسه يطردك المعلمّ من الصف .تركته ودخلت الصف .. وجاء المعلم . حال دخوله قال :منو عبد االرزاق عبد الواحد ؟ فوقفت ، قال :أخذ كتبك واطلع من الصف . قلت : ليش استاذ ؟ قال أنته مو صُبّي ؟! قلت : نعم . قال :إي هذا درس دين إسلام . قلت : أستاذ إحنه في العمارة كنا ندرس الدين مع المسلمين . قال : هذي علي الغربي مو العمارة ، أخذ كتبك واطلع برة.



















