تأملات مريض

منذ اللحظة الأولى لدخوله المصحة وهو مستغرب ويتأمل المكان، وبعد معاناة كثيرة ومساومات عديدة للمرض الذي أصاب ذاكرته عندما اعتلت الشيخوخة رأسه وبدأ الشيب يملأه، بدأت نظراته تجول حول المكان ليكتشف زواياه بدقة ويتعرف على معالمه وغرفه المليئة بالمسنين الذين داهم رؤوسهم مرض الخرف وجعلهم يفكرون بطريقة غريبة اتجاه الأشياء، وعند خطواته وهو مقيد ويمسك به احد الأطباء ليذهب به الى غرفته الجديدة والتي ستصبح عالمه الذي يعيشه فيه لحين ما يتوفاه القدر ويصبح ذكرى لأهله ولأقاربه الذين نسوا إن لديهم أب يجب أن يعترفوا به، بعد ما دخل الغرفة أو عالمه الجديد رأى في داخل الغرفة المطلة على حديقة المصحة سرير وطاولة يوجد بجوارها كرسي متحرك وثمة لوحة جميلة معلقة على حائط الغرفة تملؤها الألوان لتجعل منها منظراً طبيعياً يملأ النفس البهجة ويبعث فيها الأمل، وهنا جلس على سريره وهو يلفظ أنفاسه  بصعوبة ويتحسر على ما رمى به الدهر بعد تلك السنين الطويلة، افرغ الطبيب حقيبة ملابسه في خزانة الملابس ووضع له قميصاً اعتاد على ارتدائه أثناء النوم.

وهنا قال له الطبيب:

{ أتريد شيئاً يا عزيزي فأنني سوف اذهب واعتقد إن مهمتي قد انتهت.؟

– فأجابه بصوت خافت يملأه الحزن والأسى “لا يا أيها الطبيب أنا أشكرك، فقط أريد أن أنام”.

فذهب الطبيب وأغلق ألباب بهدوء، و من هنا بدأت حياته الجديدة وكأنه طفل صغير يتعرف على أمور الحياة.

بعد أن مد بقامته القصيرة على سريره ذات الشرشف الأبيض والوسادة البيضاء استغرق في نوماً عميق وهو يصدر صوت الشخير من رئتيه المتعبتان، تُرى ماذا يخبئ له صباح اليوم التالي من مفاجآت وهل سيستطيع العيش في عالمه الجديد؟.

طلع الصباح  و طُرقت الباب ثم فتحت الباب ودخلت الممرضة تحمل بيديها قدح من الشاي وصحن يوجد فيه قطع من الجبن وبجانبه قطعاً من الصمون الفرنسي، قامت بوضع الفطور على الطاولة ثم خرجت وهي تلتفت وراؤها لتتأكد من انه استيقظ من نومه فعرفت بأنه فعلاً استيقظ وجلس على فراشه وهو يوجه نظره إلى النافذة بعد أن أزالت الممرضة عنها الستار.

وبخطوات بطيئة اتجه نحو النافذة وإذا به يرى الحديقة السفلية للمستشفى قد امتلأت بالمرضى الذين يجلسون على الكراسي المتحركة وعيون المراقبين تُرقب تحركاتهم وانفعالاتهم وتصرفاتهم، وبعد أن رأى هذا المشهد الذي يعد أول صورة تسجلها ذاكرته التي تقلب صوراً من الماضي الذي عاشه.

 توجه نحو الطاولة ليتناول فطوره، وبعد ما أكمل تناول الفطور جاءت عليه الممرضة ثانية واصطحبته إلى الحديقة ليتعرف على أصدقائه الذين كان ينظر إليهم من نافذة غرفته في الطابق العلوي للمستشفى.

وهو يمشي مع الممرضة في الممر المؤدي إلى الأسفل والذي يوجد في نهايته سلم يؤدي إلى الطابق السفلي شاهد من بعيد امرأة ترتكز على عكازها وترفع يدها إلى السماء وهي تحاول أن تقول شيئاً ولكن الخوف والنسيان منعاها من تحقيق ذلك، هنا سأل الممرضة التي تقوده إلى الحديقة وقال لها:

{ ما بها تلك المرأة أهي مجنونة.؟

–  فضحكت لسؤاله وقالت له :لا فهي ليست كما تقول إنها فقط تدعي بأن تخرج من هنا.

{ ولماذا تريد أن تخرج بالرغم من أن المكان جميل والشمس مشرقة.

– اجل انه كذلك لكنها مكثت هنا طويلاً وعليها بعد أن تتعافى من مرضها ان تغادر المكان.

{ هل استطيع أن اخرج أنا أيضاً بعد ما أتعافى من مرضي.؟

– نعم بالتأكيد.

ثم أكملا حدثيهما وهما ينزلان ذلك السلم، وهي تسمك به من كتفه وتساعده على السير وصلا إلى تلك الحديقة الكبيرة ذات الأشجار العالية والزهور الملونة على جانبيها، تركته الممرضة وهو جالس على كرسيه يتأمل المكان ويتعرف بطريقته على الموجودون فيه وهو يمسك نظارته الطبية ويحاول أن يثبتها على عينه التي ما عادت ترى الأشياء من بعيد، وهنا ضل ينظر إلى الناس في تلك الحديقة وهو يشرب الشاي ويحاول أن يثبت ذاته بينهم من خلال نظراته المنتشرة في المكان، ويظهر لهم نفسه بأنه غير مستغرب من المكان، ثم مد بنظره إلى تلك النافذة في الأعلى ليرى مجدداً تلك المرأة التي رآها تكلم نفسها وترفع يدها للسماء، ثم قال مع نفسه يجب أن اعرف من تكون هذه المرأة ولماذا تقف هكذا وتتكلم مع نفسها بطريقة غريبة.

بدأت الشمس تشرف على الغروب وجاءوا الممرضين لأخذوا المرضى إلى غرفهم، ثم أتت ممرضته وأخذته إلى غرفته ليرتاح بعد أن جلس فترة طويلة في الحديقة، دخل غرفته وبدل ملابسه وجلس على مقعده خلف النافذة وهو ينظر  إلى الشمس وهي تغيب، ففكر مع نفسه وقال لن أنسى تلك المرأة المسكينة التي تريد أن تخرج من هنا.

بعد الساعة الثامنة حيث الهدوء عم المكان خرج من غرفته وضل يبحث عن تلك المرأة في الغرف المجاورة له وهو يمشي في الممر الطويل سمع صوت امرأة تبكي خلف باب احد الغرف التي كان يمشي بالقرب منها ثم توقف ليتأكد من أن الصوت هل كان صوت المرأة التي كان يقصدها، طرق الباب بطرقات بطيئة كي لا يلفت انتباه الموجودين ثم سمع صوت يقول له:

{ من… من الذي يطرق الباب؟

– قال بصوت خافت أنا افتحي أرجوكِ.

{ قالت له من أنت وماذا تريد مني؟

– قال افتحي وسوف تعرفين.

فتحت الباب ثم عرف إنها المرأة التي يقصدها، دخل وجلس على احد الكراسي في غرفتها ثم ظل يتأمل عالمها التي تعيش فيه ورأى أشياء غريبة تختلف عن العالم الذي يعيش هو فيه، التفت إليها ليتأمل معالم وجهها ويتعرف عليها أكثر، قالت له هيا تكلم أرجوك أنا لا املك الوقت الكافي لضيافتك في غرفتي وخوفي بأن يراك احد وأنت جالس هنا قل لي ماذا تريد. اعترف لها بأنه كان يراقبها في ذلك اليوم وهي تقف في نهاية الممر وترفع يدها وتتكلم بكلمات غير واضحة ، وبعد أن عرفت قصده من المجيء إليها عرفت بأنه إنسان يريد أن ينقذها من حياتها التي تعيشها في هذا المكان الذي وصفه لها بأنه كوكب لا حياة فيه سوى للمنسيين، عرفت منه بأنه يريدها ان تبقى وتترك التفكير في الخروج من المكان، وبعد ان عرفت قصده من المجيء إليها طلبت منه مغادرة غرفتها وقالت له من فضلك أريد أن ارتاح واخلد إلى النوم ولنكمل حديثنا في الصباح.

خرج وأغلق الباب خلفه وهو في غاية الحذر من أن يكتشف أمره احد، عاد إلى غرفته واستلقى على سريره وضل يتأمل طلوع الشمس ليراها من جديد وليكمل حديثه معها. وفي صباح اليوم الثاني له في المستشفى نزل مع الجميع ليتناول الفطور في الحديقة ويشرب الشاي وهو يجلس على كرسيه تحت أشعة الشمس الدافئة رآها وهي تجلس قبالة كرسيه وعلى مسافة قليلة جداً، لوح لها بيده وقال لها من فضلك تعالي واجلسي هنا أنا اشعر بالوحدة ولنكمل ما انتهينا منه يوم أمس.

أتت وجلست بالقرب منه ثم راحا يتبادلان الحديث ويتناولان الشاي معاً وشعر بأنه في قمة السعادة بعد أن أصبحت له صديقة في عالمه الجديد وليرى الدنيا بشكل مختلف عما كان يراها في السابق وضل يتأمل المكان وينضر إلى السماء ويبتسم.

أسراء محمود – بغداد

مشاركة