بائع الأكياس

قصة قصيرة

 بائع الأكياس

مصطفى عبد الله عارف

كان يجلس القرفصاء حتى ولو لساعات دون ان يضع عجيزته على الارض . لعل اوساخ الطريق الحجارة المكسرة والحصى او عموده الفقري تمنعه من ان يريح جسده . هو اقرب الى العميان منه الى المبصرين . شيخ متهدم . فمه كهف مظلم فيه نتوءات كان اسمها اسنان . لا تستطيع ان تحزر كيف كان وجهه . خليط غريب من السمرة ولون الرماد ،  تخف احيانا هذا اذا كان منبسطا ،  عند جبينه اللذي يبدو ان كل ما فوقه خطوط وتعاريج عمر . كان خداه يتقعران الى الداخل ليختبئا بين الفكين كالخائف ان يراه او يمسك به احد. ماكانا خدين بل اخدودين . كان وجهه كغرفة معتمة مقسمة الى قواطع تتمايل فيها ذبالة شمعة تقاوم الانطفاء . كانت دشداشته تنحسر عن عودتين كانتا في يوم من الايام ساقين شيء وحيد في وجهه كان يبدو كبيرا … انفه اللذي لم يسلم ايضا من نحت الايام وعواصف الزمن مع كل هذا فهو مثابر على الحضور هنا يوميا . يقبع امام المقهى اللذي اجلس على واحد من تخوته على الرصيف . قررتُ بعد التقاعد ان لا اعود للتحقيقات الصحفية وانشغل في قراءاتي وكتاباتي الخاصة . ولكن في ذلك الشيخ اشياء تغريك بالعودة الى الكتابة . وانا اتصفح جريدتي اليومية اختلس النظر الى الشيخ واطيله في الطالبات الذاهبات الى مجمع الكليات في الباب المعظم ،  والعائدات . كنت احاول ان اندمج تماما في الصحيفة ،  لولا ان الجالس الى جواري يقطع خلوتي ومتعتي :

–           توجد زيادات للمتقاعدين ؟

فأجيبه لكي انهي مواصلة الحديث .

–           لاتصدق كلام الجرايد صدق فقط بأمين الصندوق في البنك .

ويأتي عامل المقهى يقدم لي قدح الشاي فاطلب منه ان يقدم شايا لذلك الشيخ المقرفص ،  فيستغرب العامل :

–           وماذا اقول له

–           قل له .. واحد ارسل لك استكان شاي ولا يريد ان يعّرف نفسه .

وافرد الصحيفه فاقرا مقالا للفنان سامي عبد الحميد الذي يضع سؤالا   عريضا ( لماذا ترك المسرحيون العراقيون الاداب العالميه ،  فلم نعد نشاهد شكسبير او مولير ؟ )

بعد حوار لم يكن طويلا ،  رأيت الشيخ يرتشف بتلذذ قدح الشاي .

وتخطر امامي فتاة تحمل كراريسها ،  والى جانبها زميلها يقرب الى عينيها جهاز الموبايل ليريها ما يعجبها . حلوة الحياة الجامعية وقد تكون احلى ما يمر به متعلم .

ويتوقف دوي المولدة امام المقهى فتسود الراحة التي جاء بها الصمت . نعم فهذه من نعم الوطنية . وعند الظهيره اقتربت من الشيخ الذي ما زال مقرفصا لم يغير جلسته منذ الصباح

–           عجبك الشاي ؟

–           رحم الله والديك . الدنيا ما تخلو من الخيرين امثالك .

–           بالعافيه .

لم اكن انوي التبضع من السوق . الا اني طلبت من الشيخ ان يبيعني اربعة اكياس . وباصبعه المتلمسة عدّ الاكياس الاربعة من المجموعة التي امامه على الارض ،  فسلمته الف دينار . مد يده في كيس من قماش في حضنه متحسسا ومتلمساً الاوراق وكأنه يحاورها فارجع لي ربعين قائلاً : كل اثنين بربع .

ولما رجوته ان يحتفظ بالباقي رفض باصرار خانقا رقبة كيس النقود باصابعه . فسألته : كيف تتعرف على الاوراق النقدية ؟

–           بالملامسة اعرفها واعرف حجمها فللربع ملمس يختلف تماما عن النص وعن الالف ،  انا اشمها ايضا واعرف التالف منها . انت لا تدري ان الورقة التالفة لها رائحة اعرفها فلا اخذها ممن يحاول غشي .

شغلني الرجل حقا . وفي اليوم التالي جئت مسلما فعرفني قائلاً :

–           انت ابو الشاي .

–           نعم .. قل لي بماذا يدعوك الناس ؟

–           ابو سالم .

–           واني هو سالم ؟

–           هرب من الضيم الى سوريا . فلحقه الى هناك ليهرب الى عمان . العيشة صعبة وتحتاج ركض .

–           وما الذي جاء بك الى هذا المكان ؟

–           قصة طويلة . يعجبك تسمعها ؟

–           حديثك حلو ابو سالم. يعجبني اسمع حتى اشاركك بألألم والفرح .

–           العيشه والتفجيرات ،  التي لا تترك احداً لحاله ولا تفرق بين الضحايا ،  جاءت بي الى هنا . انا اعي على الملوكية ورايت مصائب تشيب ولكن هذه التفجيرات ما كانت على البال وما تخيلناها .

تاتي واحدة لتشتري منه فينشغل معها . ذهبتُ وعدت بعلبتي عصير . قدمتُ واحدة له . قال محتجاً :

–           انا لازم اضيفك

–           بسيطه ابو سالم . نخليها للمرة الثانية . اكمل حكايتك .

–           كانت عندي بسطية نعمل عليها انا وام سالم نتنقل على الارصفة نبيع ما يتسير من امشاط وابر خياطه وبكرات ومحافظ وشخاط . حدث انفجار ولما افقت وجدت نفسي على سرير مستشفى معصوب العينين بسبب شظية . وعندما خرجت كنت اعمى . اما ام سالم فقد تناثر جسدها مع خشب البسطية . تنهد متأوها : القهر سلني والدموع انشفت . من راديو او مسجل قريب تدفق صوت محمد القبانجي كنهر حزين في اغنيته :

علام الدهر شتتنا ؟

تكررت جلسات القرفصاء . علمت انه ومنذ صباه وشبابه عمل فلاحاً مع اهله في ( الناصرية ) كانوا يشتغلون من نجمة الفجر حتى غروب العصر في ارض الاقطاعي لقاء حفنات لا تشبع من حنطة ورز فيستدينون منه لياكلوا وعندما يصعب الوفاء بالدين يشغلهم كالعبيد مجاناً .  تسللوا ليلاً هرباً من الديون والظلم والجوع الى بغداد ليسكنوا صريفة خلف السدة وسط نزيزة بلا ماء ولا كهرباء . ويشتغل عاملاً يخوض في الطين الذي تفرش به سطوح المنازل .

في السوق استغل الباعة اختراع المسجل المكبر كوسيلة حديثة للدعاية . فكفوا عن الزعيق وتركوا المهمة لهذا الجهاز يصرخ دون توقف مناديا بتكرار لا ينقطع على البضائع ونوعياتها واسمائها والتنزيلات التي عليها باصوات تثير الاعصاب . اعتاد رواد المقهى على هذه الضوضاء بحيث اذا توقفت تلك الاجهزة لسبب ما ،  يتركون ما بايديهم من صحف او مجلات او اقداح شاي ويتلفتون مستغربين كمن صحا من حلم مزعج . وتجول عيناي بين عنواوين الصحف عند تعثر اقرار الميزانيه والانتخابات البرلمانية وغرق ابو غريب . وأسأل ( ابو الاكياس ) يوما :

–           وماذا عن عامل الطين ؟

–           تركته . كنت شابا مفتولا عندي قوة حصان . فعملت حمالا ادفع واجر العربات المثقلة ببضائع التجار من مكان الى مكان . ثم اعجبني ان اجلس على عربه او النفط الحوضية واكشخ والسوط بيدي وامامي حصان اسيره حيث اريد تاركا التعب والركض عليه . ولكن الحيوان امانة من رب العالمين . يخدمك اكثر مما تخدمه فلم اكن اضربه الا بوخزة للتنبيه . عنده روح ويفهم . لم تكن العربة ملكي طبعاً فهناك مقاول يمتلك ( طوله ) وعدداً من العرابات ونعمل عنده اجراء .  قلت لشابه سدت علي الضوء بعباءتها : لماذا لا تعملين ولو معينه في البيوت؟ فلوت بوزها امتعاضا . اعقبها صبي يمد يده . سرحت مع قرقرات نركيلة جاري وسحب دخانها : هل هناك من يفكر مجرد تفكير في معاناة هؤلاء الذين يتهددهم الانحراف ؟ حدثني يوماً وكانه يستذكر زماناً جميلاً عندما جاء الزعيم عبد الكريم قاسم فوزع عليهم قطع اراض مجاناً ومبلغا من المال ليبنوا به ولو غرفتين وحمام . كان ينظر الى كل واحد منهم بحب وهو يتجول بينهم بدون مواعيد او حماية ويشرب معهم الشاي على اقرب حصير ويقول : سأجعلكم تتركون هذه الصرائف لتسكنوا بيوتاً من طابوق فيها ماء وكهرباء . وعندما تحقق حلمه سماها مدينة الثورة .  فأمتلك ابو سالم بيتاً من غرفتين وحمام .. نعمة!

–           ماذا تفعل في المطر ؟

–           اجلس تحت أية سقيفة . لا استطيع التوقف عن العمل فمن يطعم البنتين ؟ يوماً كنت اقرأ ملحقا فنيا عن المطرب ناصر حكيم . فاستغل الموضوع لاسأل صاحبي :

–           اتحب ناصر حكيم ؟

–           ومن لا يحب ناصر حكيم ؟ ابن ولايتي الناصرية بصوته عذوبة ولوعة وحزن يفتت الصخر .

وانا اخترق الزحام وانط بين السيارات ،  خطر لي ان اسأله عن كيفية وصوله الى هذا المكان . فقال انه ياتي مع ابنتيه . تتركانه في السوق وتذهبان لتبيعا الماء البارد على رصيف الشارع القريب . طأطأ ثم قال بمرارة : وافقت مرغما فمحصول الاكياس شحيح لا يكفي . ليس هناك أقسى من ان لا تجد ما تشتري به طعاما لابنتيك . اخاف عليهن من هذا الزمن الغدار وانتظر نصيبهن اكثر مما ينتظرن . تعبت كثيرا ولا ادري هل سيبخل علي الموت بالراحة ؟ واجلس الى جانبه واقدم له سجارة .

–           وبماذا اشتغلت ايضا ؟

–           اشتغلت بكل شيء الا بالشرف والكدية .

يسحب نفسا عميقا من السيجارة وينفثه من اعماق صدره ويحكي كيف انه اشتغل عاملا في مسطر ،  ينتظر وغيره من العمال منذ باكر الصباح حتى العصر تحت شمس او مطر . يتطلعون وينهضون وقوفا لكل قادم نحوهم ،  عله جاء يطلب عمالاً.  في اكثر المرات يكون النداء فاشلا فيقضون الوقت قياما وقعودا يمنون النفس باي عمل ليعودوا بخبزات للصغار نهاية الدوام . قال ان العمال لا يحبون المطر فهو يقطع رزقهم . فكيف يأكلون في الايام المطيرة !؟ اجرّب احد ان يعود الى البيت عند الغروب ليرى عيون اولاده الصغار تنظر الى يديه الفارغتين متلهفين ان يجدوها تحمل ولو قطع صمون ؟

ضرب كفا بكف كمن يريد ان ينقل نبأ حزينا . مرةً  جاء صاحب سيارة بيك اب فركض نحوه العمال بعد ان اعلن بأنه يريد عمال بناء ومبيضين وصباغين ومساعديهم ليأخذهم الى معمل قريب ،  بعد ان تحركت السيارة امتارا انفجرت فتناثرت الاشلاء مختلطة بالدماء والملابس والاحذية والنعل والهويات . شاركتْ ادوات عملهم ،  الانفجار بفقء الاعين وشج الرؤوس . تشظى كل شيء وطار الرزق . ثم كمن يفتش عن شيء في الذاكرة .. انشدهت عيوني وانا ارى بعض الناس . لا ادري هل هم من طينة البشر ام من طينة وسخة ،  يبحثون بين الارجل والايدي المقطعة والصدور الممزقة عن جزادين النقود او اي شيء ثمين . زفر بحرقة : لو اني ذهبت معهم فمن سيبقى للبنتين  عدت خاويا الى البيت الخالي مما يؤكل .

قرأتٌ موضوعا عن السينما الهندية وشاركت الكاتب التساؤل : لماذا يقتل القطار في الافلام الهندية ،  الفقراء فقط ؟ الظاهر ان القطار هو وسيلة رخيصة للنقل والتحايل بالتكدس في مرارته والتسلق على سطحه بالعشرات فلا يتمكن الجابي اخذ الاجور منهم. واثناء سير القطار وسرعته يسقط بعض هؤلاء المتعلقين باي شيء ،  فيدوسهم القطار . اما الغني فيصل وجهته سالما لانه في مقصورة مكيفة يتناول فاخر الطعام . وقفت عند ظهر يوم وانا عائد الى البيت وسط الضجة والصياح ،  فسألته كيف يحتمل كل هذه الضوضاء ؟ فأجاب :

–           ضوضاء حلوة مثل العصافير فأغلب من في هذا السوق نساء والبضائع نسائية واصواتهن العالية تطرق سمعي فأتخيلهن وكأني اراهن بخبرتي عندما كنت مبصرا فأتسمع واصغي .

عاجلته بسؤال تحرشي :

–           اتحب النسوان ؟

وبتنهيدة من الاعماق : اووف من النسوان !

ضحكنا معا . توقف عن الكلام كأنه يستطلع زمانا غبر ثم عاد يواصل حديثه :

–           النساء يشترين كل شيء وبدون مساومة . اكيد متمكنات . افكر بأبنتي الواقفتين تحت لسع الشمس ومطر الشتاء بثياب يخفن غسلها لئلا تتمزق . ليس لهن من ينتظرهن في البيت ليقدم لهن لقمة شهية حارة .

احسست انه يريد ان يبكي لو يستطيع فوضعت يدي على كتفه مواسيا

–           انت رجل ابو سالم !

بدا انه يريد ان يفرغ ما يشعر به من الم امامي :

–           كن صغيرات . وكان العيد يقترب . عصرت نفسي في العمل وارهقت بدني . استطعت شراء زوج حذاء واحد تتناوب البنتان على ارتدائه . خجلتٌ من نفسي وشعرت بالتقصير لاني ما اشتريت للام اي شيء .

احست بي فقالت : العيد ليس لنا . العيد لمن عندها عشرين زوج حذاء .

وينقطع الشريط وصبية تبيع ( العلك ) هذه مكانها في صف تقرأ وتكتب وتأكل لفة وتفاحة في الفرصة . سألتها :

–           الا تذهبين الى المدرسة ؟

–           عمي يامدرسة ! ان اشتغل لكي نأكل انا وأهلي . مات ابي . اخوتي صغار وامـي شلل ونسكن في خرابة .

صدمتي هذه الصغيرة بحكايتها وردة الفعل ارجعتني قرونا . كان علي بن ابي طالب على حق حين قال ( لو كان الفقر رجلا لقتلته )

في مجتمعنا صور شديدة التناقض متنافرة . ناس تمرض من كثرة الاكل واطفال تتلوى بطونهم من الجوع . انظر للفتيات ببنطلوناتهن الملتصقة يتناولن النساتل ويتضاحكن وهن في طريقهن للكليات . كم مسكينة اذا هذه الصبية المحرومة من الدراسة لتعيل اهلها ؟ واين ثوبها الكالح الفضفاض ،  وكأن امرأه بدينة وهبته لها ،  من هذه البنطلونات والازياء ؟

شعرت ان ابتسامتي مرّة وانا اتفرج على رسم كاريكاتيري اعتقده للرسام غازي عدد من ذوي الكروش مترفي الثياب ياكلون دجاجا مكوما في صينية واسعة كانه تل . كان الرسام يركز على الكروش المستديرة المنتفخة . وليس بعيدا عنهم مجموعة بأسمال مرقعة يظهر الجوع على وجوههم الممصوصة واجسادهم اليابسة وبطونهم الضامرة ،  يدورون وسط اعصار يلفهم بترابه وعجاجة . تحت الرسم مكتوب :

( ناس تاكل دجاج وناس تتلكة العجاج )

وارفع عيني نحوه . هذا الرجل في كلامه فلسفة . حكى لي انه اشتغل فراشا عند تاجر في السوق العربي بالشورجة يحمل وينظف ويجلب الطلبات ويخدم زوار التاجر دون فترة راحة ،  حتى فترة الغداء واللقمة في فمه يقطعها التاجر عليه ليجلب شايا او باردا لاحد الزبائن . سكت قليلا واضاف : المشكلة في الاغنياء انهم يتصورون الفقير قطعة حديد تتحمل كل انواع الطرق . ولكن شدة الطرق تفكك الحديد كما تعلم .

احببت ان استفـــــيد من ثقــــافته الاجتـــــماعية فسألته :

–           ابو سالم ! هل تركتم عاداتكم خلفكم او جئتم بها الى بغداد ؟

–           عاداتنا ،  مانتخلى عنها . فعندما ينهي ابن العم عن زواج ابنة عمه ليتزوجها هو . يكون كلامه مثل السيف . فيزوجها اهلها له حتى ولو كان عنده ثلاث نسوان . ولا ينفع رفضها وبكاؤها حتى لو احرقت نفسها .

–           وهل قانون المرأة الفصلية ماشي ؟

–           اكيد .. فحتى يفصل النزاع بين عشيرتين او عائلتين . يقدم الذي عليه الحق واحدة من نساء بيته الى الطرف الثاني فصلية . ولكنها تبقى  محتقرة منبوذة عند من اخذوها ويعيرونها بكونها فصلية لانهم لم ياخذوها لجمال او مال او جاه وانما سلعة للمقايضة .

ويجلس الى جانبي واحد من المشتغلين في السينما ويجمعنا موضوع في الجريدة عن السينما العراقية وناس القاع فاروي له حكاية بائع الاكياس واصور له معاناته فيقول

–           حكاية جديرة بالسينما .

فقلت ساخرا:

–           وهل سيغير التصوير شيئا في حياته ؟ سيتفرج الاغنياء على فيلمك مجرد فرجة للتسلية فيضحكون ويسخرون . اما ذلك الشيخ الاعمى فسيبقى مقرفصا ينادي :

اثنين بربع .. كيسين بربع .