الوركاء أميرة دويلات المدن استعدتها الملاحم والاساطير وغفلها المحدثون 1 3

الوركاء أميرة دويلات المدن استعدتها الملاحم والاساطير وغفلها المحدثون 1 3
نبات الحكمة وقطف الحكماء

حامد فاضل
قبل التأريخ ، وقبل الأسماء . بين النهر ، وبين الصحراء . كانت أرضا عذراء ، وكانوا سبعة حكماء1 . الكون يدين لهم بالولاء . وتحت قبته الزرقاء ، رفعوا القواعد ، فهفت أفئدة الناس إليهم . عمروا الأرض ، أعلنوا ولادة مدينة عُمِدَتْ بالفرات ، وعُرِفَتْ باسم الوركاء .. هي قرة عين وادي الرافدين ، تُرِكَتْ مقرورة بالخلاء ، فألقى الزمان عليها الغطاء .. وأنا » الكاتب » الراوي » الرائي » الحكاء » سأكتب مرأى الوركاء ، على لوح الفضاء القصي مع المبتهلين في ذرى الزقورات ، المتطلعين إلى العالم العلوي ، العارجين على صهوات التبتل حيث لا مصدات بين الخالق وبين المخلوق .. اقتربوا مني فإن لدي ما لم » ينسخه السومريون » يجده المنقبون » تحكه الجدات » يروه الرواة » .. اقتربوا أكثر فأنا أبن هذه الأرض وارث دب ـ سار2 ، الذي داهم ألواح الطين بريشة نسر وركائي ، فنسخها سن ـ ليقي ـ أونني 3 ، فختمها القيبو4 بالختم الملكي ، فشواها الفران بفرن خزفي ، فخزنها الخازن في خزائن الآلهة ، فألقت الآلهة بالمفاتيح في غيابة جب المعبد ، فلبثت الألواح في سبات ببطن الصحراء .. » الزمن بدوي » السنين جِمال » العصور قوافل » المستقبل ينسلخ من الأزل » الحاضر ينسلخ من المستقبل » الماضي ينسلخ من الحاضر » يرحل سارباً ضارباً لعله واجداً واحة في الأبد .. عندها تلتقي الكلمة الأولى بالكلمة الأخيرة في عناق سرمدي .. ومن قبل أن يولد التأريخ ، وتتناسل العصور . حرّضت الآلهة المياه فكان الطوفان ، وحرّضت الرمال فكانت الصحراء ، وحرّضت الرياح فشيدت مدافن الوركاء ، فتلفعت المدافن بُرْدَةً من تراب ، فصارت أثراً بعد عين .. وهل يأكل التراب ، التراب ؟ إنها ما تزال برغم تقلب مزاج الزمان تعتلي عرشها دويلة » للملوك » والمعابد » والآلهة » الشمس تجالسها في الصباح ، والقمر يسامرها في المساء .. غرة في جبين الجنوب الفراتي ، حيث تهفو إليها أرواح سكانها الأقدمين ، لتقيم الشعائر في معابدها ، فتنهض تلك المعابد كي تتلقى النذور ، تمزق أكفانها التي خاطها الدهر من تراب العصور ، تشعل الشمع ، تحرق في الجفنات البخور .. سأحلق رأسي ، أغتسل بماء الفرات الطهور ، أتزر بمئزر الكهنة ، أحمل نذري ، أرتقي مدرج الزقورة ، وأمضي صعوداً الى متكأ الآلهة .. أنا الحالم بكتابة مرأى الوركاء . أتلفع قمراً شاحباً كرغيف خبز الفقراء ، يرافقني نجم سارح في الأعالي ، يتوهج مثل نار تراءت لموسى عليه السلام ، والسماء التي تُعَمِمُ راسي لا كتلك السماء التي قد عرفتم .. سماء صحيح ، ولكنها مثلما تتزاحم فيها النجوم ، تتزاحم فيها » الملاحم » الأساطير » والآلهة » التراب الذي أطأ الآن غير التراب الذي ذره منخل الدهر بين أيدي السنين ، انه ذلك التراب الذي كان يوماً موطأً لمن عمروا هذه الأرض . تغتدي وتروح عليه أقدامهم، كل يوم يتركون آثارهم فوقه كوشم خيول الكتابة فوق القراطيس .. الأرض قدامي مطوية . ولكنها ليست الأرض التي تعرفون ، هي ثوب بلدتنا التي في الجنوب ، هي صحراءنا التي ينطق صمتها بالأساطير ، هي كل ما تصفون . ولكنها الآن بين يدي كتاب تُقَلّبُ الريح أوراقه ، أقرأ فيه ملاحم من سبقونا الى العيش فوق هذا التراب الطهور . أخفف خطوي , أوصي قدميَّ بالرفق كي لا تدوسا على قدميّ كاهن من كُلاب .. ربما أطأ الآن جسد محاربٍ عاد من الحرب مثخناَ بالجراح ، أو لعل زوبعة الصَحْرِ هذه التي يعرفها أبن منظور الغبرة الشفيفة الحمرة الخفيفة البياض التي يغزلها مغزل الريح حولي ، هي صرخة بطل ملحمة الخلود الذي » قهر الأبطال » قاسى الأهوال » قتل الأسود » قطع الأشجار » بنى الأسوار » فض البكارات » لكنه لم يحتمل موت صديق . وليس بمستبعد أن يكون مسيري على أثر وحش البراري » المولود في التلال » الآكل العشب مع الظباء » الوارد الماء مع الحيوان » الذي كان ثاني أثنين في الملحمة .. أبحث تحت طيات هذا التراب عن وشوم أناس من قبل ميلاد عيسى عليه السلام ، تركوا أوعية أرواحهم في حضن أمهم الأرض ، عارجين على صهوات من التبتل بيض كغيوم الربيع ، فهل يجرؤ أحدكم على أن يكذبني ؟ إذا قلت أني وفي لحظات إغفاءة الكهنة تلصصت على معبد أي ـ أنا لأبصر عشتار تسبح في ضياء الشموع ، وثلة عذراوات يخطرن في رحبة المعبد كأطياف وسن في جفون السهارى أكان للوركائيات كل هذا الجمال ؟ أكاد لا أصدق أن اللواتي تراهن عيني نساء. أكنّ آلهة أم بشر .؟ » شموس » أقمار » أنجم » أراهن يبزغن خلال سحاب البخور وستائر شعورهن المسدلات على ظهورهن يتأرجحن نحو أعقابهن كموج الفرات إذا توشح بالغروب السماوي » نحيلات كعيدان البردي » شفيفات كأجنحة النسيم » رشيقات كغزلان الصحراء » عبقات كأزاهير البر » متوهجات كسنابل القمح » مصفقات كسرب القطا » فارعات كنخل السماوة » فاتنات كربيع البادية » سمراوات بلون الغبش » راقصات كأراجيح السعف » مغردات كبلابل السحر » منشدات أعذب أحلى الأناشيد لعشتار .. نعم أجزم أنها لم تكن غير عشتار فأية آلهة غيرها » تفيض أنفاسها بعطر البراري » تخفق جدائلها كبيارق نخل الجنوب » يتوهج جيدها كشمس النهار » يتمايل جسدها كغصن الربيع » وأنا الذي أختلس إليها النظر الآن من فجوة في الخيال . أراها كما وصفتها الألواح » آلهة » الحب » الجنس » الخصب » الجمال » .. ماذا ؟ أتسألون عن مصدر الصوت الذي تسمعون ؟ اعلموا أنه ليس همس الليل ، ولا دغدغة الحلم ، ولا شدو السحاب ، ولا انثيال المطر ، ولا خفق أجنحة النسيم ، ولا هو حتى حفيف ثياب الشجر .. إنما هو عناق أصابع سومرية ، لأوتار قيثارة وركائية ، على عزفها تستفيق النجوم ، وكالمستهام يطل القمر ، وحتى السماء التي لا تُطال ستحنو على الأفق تحضنه ، وتطبع فوق ثراه القبل ، وقد هزني الابتهال الذي ضج في حناجر الكهنة . فأي نشيد هذا الذي يرافق عشتار حين تسير ، وعشتار لا تلامس الأرض أقدامها .. أأنكص على عقبيّ ، أم أواصل الغور في بؤر مرأى الوركاء؟ ها .. ماذا تقولون .؟ أُواصل ما دامت عباءة الحلم التي أتلفع تسترني ، إذن سأقترب كي أرى عن كثب ذلك الكاهن الحليق الرأس الذي ما انفك يشبك ذراعيه قدام صدره مستغرقاً في مناجاته للآلهة ، منتظراً أن تباركه ، وتقبل منه النذور من » السمسم » الكتان » الحنطة » السمن » الجعة » اللبن » التي حُمِلَتْ من كل صوب في المملكة التي ترونها اليوم عل شكل أسنمة تتلفع بهذا الرداء الترابي الذي تطرزه شظايا الخزف ، والذي خاطه الدهر من » الرمل والعشب » والطمى » والحجارة » ثم ألقاه على أكتافها ليستر مفاتنها من الأعين النهمة .. تقول سطور كتاب التراب ، التي خطها يراع الزمان بمداد السنين كانت الوركاء عاشقة للفرات ، وكان الفرات يعشق وركاءه ، قبل أن تدق البيئة إسفينها ، ربما بوشاية من الريح التي ما تزال تعول بين التلال ، أو حسد من الرمل المسفوح على مرآة الصحراء، أو بنداء خفي من الطبيعة .. سُحِرَ النهر فغير وجهته ، وأسرع مبتعداُ عن ديار محبوبته التي تفطر من ظمأ كبدها ، فاحتست آخر ما ترك النهر من ذكريات ، ثم توسدت التراب وقد فارقتها الحياة ، فبانت لعين السماء صامتة كما المقبرة .. المروج ذابلة أزهارها ، الحقول ضامرة سنابلها ، السواقي التي جففتها الرياح يابسة تمزقها نصال شمس الظهيرة ، النخيل منكفئ وقد شابت ذوائبه ، الشجيرات مصلوبة ، الصروح التي قوضتها فؤوس الزمان ينعق البوم في خرائبها ، وحبال الأرض تنساب من ثقوب حيطانها النخرة ، الحجرات التي كانت مخادع للسومريات تشهد أجمل ليالي الغرام ، وتسمع همس الهيام ، هي الآن إن جّن ليل عليها تضج بأعراس بنات أوى ، ويُسْمَعُ فيها عواء الذئاب ، كأن المدينة ثكلى تنوح على أبنائها الذين انتموا الى العالم السفلي بعد هجر الفرات ، حيث يمم وجهه قِبَلَ المغرب ليبحث عن معشوقة ثانية .. حين رأها تطل عليه من البادية ، أغرته » بدفء رمالها » نصاعة شمسها » ظلال نخيلها » لقد مرَّ فيها عابراً للسبيل .. هي لم تتكلم ، هو أبصر في مقلتيها كلام يشجعه على أن يحط الرحال بين رمل قشلتها5 وطين الجوالي6 هي بفعل الضيافة ألقت عليه غلالة من ظلال النخيل الذي أعتلى شامخاً لينوش شمس الظهيرة بشعفات سعفه ، واشماً قيلولة النهر بفارعات الجذوع .. لينطرح على مطرح الرمل مستسلما لهدهدة النخيل ، وراحت أيادي الهواء الجنوبي تروح للنهر بمراوح السعف ليغفو على قصص من ابتداع الخيال ، أينام ؟ والبرحي من حوله مثقل بالعثوق.. بعد انقضاء ثلاث ليال ، وثلاثة أيام ، سألت المدينة النهر ما أسمك أيها السائر بين النخيل وبين الرمال .؟ أجاب النهر يكنونني حبل إبراهيم . فقالت المدينة أنت الفرات . وسأل النهر المدينة وأنت ما اسمك يا عروسة البادية .؟ أجابت المدينة أنا التي باركني سموي إله السماء . فقال النهر أنت السماوة . » صمتت المدينة » صمت النهر » حدق الماء بالرمل » حدق الرمل بالماء » قال الرمل ما أعذبك من ماء . قال الماء ما أنقاك من رمل . همس صمت النهر أحبك يا ابنة الصحراء . همس صمت المدينة أحبك يا ابن الجبل . أحتضن النهر المدينة ، طوقها بذراعين موشومين بالغرين .. احتضنت المدينة النهر ، طوقته بذراعين موشومين بالنخيل ، فراح يدغدغ كوامنها بأصابع أمواجه ، ويرويها بلمى القبلات .. التحمت المدينة بالنهر ، التحم النهر بالمدينة ، اهتز النهر فتدفق الماء ليروي كل ذرة رمل ، اهتزت المدينة لتشرب كل قطرة ماء . فكان الخصب وكان النماء .. إنها الآن مدينة عاشقة في حضرة نهر عاشق ، وهو الآن نهر عاشق في حضرة مدينة عاشقة .. سيحتاج إلى عدة أعوام ليمحو من ذاكرته معشوقته القديمة الوركاء التي ما يزال الوجد الى النهر يراودها صباح مساء .. هي الآن تحلم أن ترى حبيبها ، وأنى لها أن تراه ، وقد كسى الدهر وجهها بالتجاعيد ، ولكنها تكابر على بعد 60 كيلومتراً وسط صحراء السماوة ، بعد أن غرّب النهر عنها بحوالي 12 كيلومتراً ليتركها تلوح للرائي على شكل أسنمة من تراب ، هي بقايا تلك المدينة التاريخية العظيمة من تلول ومرتفعات تشكل شبه دائرة ، تبلغ مساحتها 7 كيلومترات مربعة ، وهي من أوسع المدن المدورة إذ يبلغ محيطها 9 كيلومترات متزنرة بسور طوله حوالي تسعة كيلومترات ونصف .. يحتاج القاصد إليها اليوم إلى قطع مسافة 10 كيلومترات شمال مدينة السماوة ، لينعطف يميناً إلى ناحية الوركاء في طريق فرعي مُعَبَدْ بطول 6 كيلومترات ، ثم يعرج جنوباً ليقطع 40 كيلومتراً قبل أن تتكحل عيناه بذرى زقورتها السامقة .. أما القاصد إليها من جهة الجنوب ، فيتحتم عليه قطع مسافة 30 كيلومتراً ليصل إلى مدينة الخضر ، ثم يتجه ليسير مسافة 6 كيلومترات في طريق وعر مترب ليصل إلى الدويلة التي عرفت عند السومريين باسم أونوك مملكة جلجامش التي اقترن اسمها بملحمته الخالد .. الوركاء » المدينة » السومرية » الشهيرة » المقدسة » التي ولد فيها حرف الكتابة لأول مرة في التأريخ .. ورد ذكرها في الأخبار العربية القديمة بهيئة الورقاء ، فضمها الطبري إلى تأريخه ، والحموي إلى معجمه ، وما التسمية الحالية إلا تحريفاً للاسم القديم أوروك الذي يعني المستوطن .. يحتمل الباحثون في التراث اللغوي القديم الى أن أوروك هو أصل تسمية العراق التي شاعت في ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين ، أي في أواخر العهد الساساني ، حيث بدأ أسم العراق يظهر في الشعر الجاهلي مقترناً لدى شعراء البادية بالخير والرخاء ، كما زين اسم الوركاء الشعر العربي حيث يقول حرملة بن مريطة
النيل المندرس
ألم يأتيك والأنباء تسري بما لاقى على الوركاء جاني
وقد ذُكِرَت الوركاء في التوراة بصيغة أرك وفي المصادر اليونانية والرومانية باسم أورخوي ويحدد المؤرخ طه باقر موقع آثارها على نحو 220 كيلومتراً جنوب شرقي بغداد ، وعلى مسافة نحو 20 كيلومتراً شرقي مجرى الفرات الحالي ، بالقرب من خضر الدراجي ، يمر فيها شط النيل المندرس الذي كان مجرى الفرات القديم .. في أوائل عصر السلالات كانت الوركاء تقسم إلى قسمين رئيسين ، أولهما كُلابْ المتباهي باسم كاهنه للا الذي يعني نوعاً من الشياطين ، وثانيهما أي ـ أنا المحتضن لحارة المعبد المقدس المخصص لعبادة كبير الآلهة السومرية آنو7 والآلهة الشهيرة إنانا .. وفي محاولة لإيجاد علاقة بين الأسماء وجذر الوركاء ، نحتكم إلى آراء المختصين ، فإذا كانت كلمة مدينة باللغة السومرية تلفظ أورو كما يعتقد الدكتور فوزي رشيد ، وكلمة مقدسة تلفظ كو فان لفظ المدينة المقدسة يكون أوروكو وهو أول غرس لتسمية أوروك التي اهتزت وربت بفعل الابسو الماء الذي ارتبط به الاستيطان البشري الأول في أرض الدلتا المحاذية للأهوار التي خلعت عليها الطبيعة أثواباً خاطتها من أحراش البردي والقصب ، وأهدتها الجاموس رمز الأهوار ، ثم أغدقت عليها العطايا لتجعلها سكنى للخنازير والأسماك والطيور ، والتي ازدادت اتساعاً منذ القرن السادس الميلادي أواخر العهد الساساني .. لنعد إلى قوافل المستوطنين اللاساميين ألأوائل الذين قدموا من المنطقة الجبلية في آسيا الوسطى متدفقين من بؤرة التأريخ حتى الألف الرابع قبل الميلاد ليحطوا رحالهم في تلك الأرضيين الممتدة ما بين نهري دجلة والفرات .
أسماء العراق
والتي عرفت بوادي الرافدين ، حيث أطلق عليها الجغرافيون اليونانيون والرومانيون في ما بين القرن الثاني والرابع قبل الميلاد المصطلح الإغريقي ميزوبوتامية Mesopotamia ، بلاد ما بين النهرين ، والتي وردت كمصطلح أولاً في كتاب المؤرخ الشهير بوليبيوس ثم ذكرها المؤرخ أريان كتسمية من خلال حديثة عن الاسكندر الكبير الذي أحدث ولاية باسم ميزوبوتامية أما المؤرخ سترابو فقد أطلق هذا المصطلح على تلك الأرضيين الواقعة بين نهري دجلة والفرات الممتدة من شمال العراق الى حدود بغداد .. كما ورد المصطلح لتوصيف الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين في التسمية البابلية مات بريتم أي أرض المابين وجاء بصيغة بيرت نارم وورد في رسائل العمارنة الشهيرة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد بصيغة نهارينا ليطلق على مملكة ميتاني ثم ذُكِرَ في التوراة باسم أرام ـ نهرايم وهي كلمة آرامية تعني آرام النهرين أي بلاد ما بين النهرين التي تدفقت عليها زُمَرُ أولئك المستوطنين حليقي الشوارب الذين امتازوا بشعر رؤوسهم الأسود ، ولحاهم الكثة وعرفوا فيما بعد بالسومريين الذين ورد اسمهم كلقب لأول مرة في النصوص الخاصة بألقاب ملوك حضارة وادي الرافدين حيث كُتِبَ باللغة السومرية Lugal Ki en gal Ki un أي ملك بلاد سومر وبلاد أكد كما شملت هذه التسمية المزدوجة التي وردت في اللغة البابلية Shar mat shumerin u Akadim أسماء العراق التأريخية غب العهد الكوتي ، ولقب بها الملك أوتو ـ حيكال ، ولم يتوصل المهتمون بالحضارة السومرية الى معرفة مجموعة العلامات المسمارية التي يتشكل منها اسم سومر Ki en – gi التي يحتمل أنها تعني في المعنى الحرفي للكلمة أرض سيد القصب أو الأحراش ، لكن المؤرخ طه باقر يميل الى الاحتمال الذي يفيد أن المقصود بسيد الأحراش هو الإله السومري المشهود أنكي8 أو أيا9 ، كما ذُكِرَ معنى آخر في اسم سومر ضمن الاحتمال الذي يقول أنه مشتق من أحد أسماء مدينة نفر القديمة الواقعة في الحد الشمالي من بلاد سومر والتي تبدأ من شمالها بلاد أكد .. وبما أن الماء هو أصل الوجود ، فقد حظي نهرا دجلة والفرات بالتقديس والتعظيم من قبل العراقيين القدامى باعتبارهما من الآلهة المشتقة من القوى الطبيعية ، حيث وصفا بالنهرين الأخوين في التراتيل الدينية القديمة ، كما نسبت أساطير الخليقة أصل منبعهما الى عين تيامة وهي الآلهة التي تمثل ماء البحر ، ودجلة والفرات في سفر التكوين هما نهران من ضمن أربعة أنهار تنبع من الجنة ، لذا فان وادي الرافدين هو أفضل مكان للسكنى ، وفيه ظهرت مقومات الحضارة السومرية في أواخر العصر الحجري ـ المدني أي النصف الثاني من دور الوركاء المعروف بجمدة نصر .. ودجلة اسم ورد بهيئة ادكنا كما سميّ بالعبرانية حداقل أو هداقل والعرب هم الذين أطلقوا عليه تسمية دجلة ، وهو النهر الذي فسر في المعاجم المسمارية القديمة بأنه النهر الجاري السريع .. وجاء اسم دجلة في اللغة الحورية على هيئة أرنزح أو أرنزخ ، ويحتمل أن أسمTigris الذي أطلقه الأوربيون على دجلة مستعار من التسمية الواردة في اللغة الفارسية البهلوية تيركاه Tir – gah التي شبهت النهر بالسهم لسرعة جريانه ، وهو التفسير الذي يطابق تفسير المعاجم المسمارية القديمة ، بينما يتصف الفرات بالهدوء حتى في موسم فيضانه الذي يستهله في بداية شهر آذار ويختمه في نهاية شهر أيار ، وقد شجع هدوء النهر هذا على عزوف المستوطنين الأوائل عن وادي دجلة ، وتدفق موجاتهم على وادي الفرات للاستيطان الذي أعتبر استهلالاً لنشوء أولى الحضارات في تأريخ الاستيطان البشري الأول في ما بين الألفين الخامس والثالث قبل الميلاد في السهل الرسوبي .. حيث خوطب الفرات في التراتيل الدينية بأنه النهر الذي خلق الأشياء ، وأن أيدي الآلهة هي التي حفرته ، وأثثت ضفافه بالخيرات ، كما اختار الاله أيا أعماق مياه الفرات التي تبرىء المرضى وتطهر الأبدان مكانا لمعبده .. وقد ورد أسم النهر الهادئ في النصوص المسمارية بصيغة بورانُن أو بوروننا والذي يرادفه في اللغة الآكدية ـ البابلية السامية لفظ بوراتي أو بوراتم والذي جاءت منه التسمية العربية فرات التي تعني » الفرع » الرافد » الماء » العذب » وان أشهر اسم للفرات في الكتابة المسمارية جاء على شكل مجموعة من العلامات المسمارية أود ـ كب ـ نُن ـ كي UD kib nun – ki المسبوقة بالعلامة المسمارية الدالة على النهر إد Id ، ولقد حدثت لمجرى هذا النهر الخالد الضارب في القدم عبر السنين الفائته من عمره الطويل الكثير من التغيرات البيئية التي تسببت في تحوله ، وابتعاده عن أحضان المدن القديمة التي نشأت وازدهرت على شواطئه ، وتشي التحريات الجيولوجية بالعلاقة الوثيقة بين الفرات وبحيرة الحبانية وهور أبو دبس وبحر النجف في العصور الغائرة في بؤرة ما قبل التأريخ.
جسد الأرض
حيث كانت هذه المنخفضات محافظة على الاتصال الدائم في ما بينها لإقامة وحدة مائية توجت بولادة واد طويل متصل من الشمال الى الجنوب ، لكن أنصال الحركات التكتونية قطعت أوصال ذلك الوادي الى أجزاء من المنخفضات التي شكلت نواة نشوء البحيرات .. وعلى امتداد طريق رحلته الطويلة . ينثر الفرات الكريم عطاياه على مدن العراق الصغيرة والكبيرة ، يعانق النخيل ، يلحس الملح عن جسد الأرض ، يلقي عليها غلالات خصبه ، ويترك لون حنائه في أكف الشواطئ .. يمد ذراعيه ليطفئ عطش القرى والمزارع المنتشرة في السهل الرسوبي ، يطرق أبواب مدينة سبار الشهيرة المعروفة بأبي حبة الواقعة في منطقة المحمودية شرقي مجرى الفرات الحالي بنحو 12 كيلومترا ، حيث يُطْلَقْ على بقايا المجرى القديم حبل إبراهيم وفي منتصف المسافة بين مدينتي سبار وكوثي يحط النهر رحاله ليرتاح .. يفكر بزيارة بابل ، فيرسل أحد فروعه للاستطلاع ، ينسل ذلك الفرع من الجانب الأيمن من الفرات القديم ، وينساب موغلاً ليروي عطش الأراضي المحيطة بمدينة بابل .. حين ترى المدينة رسول النهر تستقبله بحفاوة تليق بسفير نهر عظيم ، عندها يتقدم الفرات الكبير نحو بابل بثقة الفاتحين ، يسير بين صفين من أشجار النخيل ، يتقدم هادئاً وعيون الجنائن ترمقه بإعجاب . فيدخل المدينة ليطبع على جبينها قبلة رطبة . وبين » غناء الحقول » رقص السنابل » عزف الشجر » يتجلى كرم الآلهة بمنح الفرات لقباً جديداً يسجل في النصوص المسمارية باسم أراختو .. وحين يخرج الفرات من بابل متسربلاً بلقبه الجديد ليتجه إلى مدينة كيش تل الأحمير ، تسبقه سمعته على لسان المبشرين ، فتستعد المدينة لاستقبال حامل وسام بابل بحفاوة لا تقل عن حفاوة بابل ، فيهدي الفرات مدينة كيش كما أهدى مدينة بابل مجراه الأصلي ، وينتقل منها الى مدينة شروباك تل فارة ، ليصل الى الوركاء محطة استراحته الثانية .. لنعد الى الأسطورة السومرية التي تتحدث عن العلاقة بين الماء الابسو والمدينة أورو والآلهة إنانا كي نتحقق من الاعتقاد الذي يرى أن أسم العراق مشتق من ذلك الأصل الذي اشتق منه أسم الوركاء ، استناداً الى أن اسم إنانا أرتبط باسم نون الذي يعني السمكة ، وبلفظة قديمة هي عرك التي تعني صياد السمك .. فقد كتب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى قوم من اليهود على ساحل خليج العقبة عليكم ربع ما أخرجت نخلكم ، وربع ما صادت عروككم ، وربع المغزل والعروك جمع عرك ، وهو صياد السمك ، وفي الآية من سورة الكهف نسيا حوتهما فاتخذ طريقه في البحر عجباً والحوت هو ما عظم من السمك ، واسم الحوت كما ورد في القرآن نون وذا النون عليه السلام كني بذلك لأنه صاحب الحوت ، ومن ذلك يحاول القاضي علي الحميدي ، أيجاد علاقة بين أسم » الوركاء » نينوى » العراق » في مخطوطته السماوة ومعبد أي ـ أنا رغم أن أهل العراق القدامى لم يطلقوا أسم أوروك على القطر قبل أن يشيع مصطلح العراق الذي كان نظام الحكم القديم فيه يشابه التنظيمات السياسية في بلاد اليونان القديمة في تأسيس دويلات المدن ، حيث كان الحاكم السومري يطلق على نفسه لقب حاكم المدينة التي كانت مركز دويلته ، مثل حاكم لجش ، أو حاكم الوركاء .. لم يتبق لي إذن ما أجهله مما » حفره النساخ في الألواح » دونه الكتاب في الكتب » حفظه الحافظون في المخطوطات » ألم أقل لكم أنني سليل أولئك الكتاب الذين أسسوا مدرسة الملاحم الوركائية .. إن باستطاعتي الآن رسم صورة تقريبية للحوادث سواء تلك التي جرت في الوركاء ، أو التي حدثت في الأماكن الأخرى من بلاد ما بين النهرين في عصر فجر السلالات أو عصر دويلات المدن ، فما عليَ إلا أن أعتلي صهوة المخيال ، وألاحق » أساطير »حكايات » أخبار » كتاب تلك الملاحم التي تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد .. لعل الوركائيون يسمعون الآن وقع حوافر جواد المخيال الذي يخب في دروب مدينتهم متنقلاً من أثر الى أثر ليصل لاهثاً مزبداً الى جداول الملوك السومرية ، لأطلع على مصادر أخبارها منذ عصر فجر السلالات الثاني ، أو بداية فجر السلالات ، ثم أنتقل الى » المصادر الأدبية » الأساطير » الأدلة الأثرية » التي تنطق بها كل ذرة تراب وركائية .. أمضي كالسائر في منامه ، مسحوراً بما نُسِجَ من » قصص البشر ونساخها » مآثر الآلهة وأسمائها » الطقوس الدينية وأماكن تأديتها » القرابين وطرق تقديمها » النذور وكيفية إيفائها » تمتد أيدي هذه الأدلة تمهد طريق المعرفة أمامي ، وتفرشه ببساط من نور يهديني الى مكتبة الوركاء ، أقرأ على بابها لافتتة بالسومرية إي ـ دُباّ E Dubba أعرف أني اهتديت الى بيت الألواح ، أقف على باب من أبواب تأريخ العراق القديم . أنادي يا خازن المكتبة يا حافظ تأريخ الوركاء في أخاديد الصلصال ، أيها السومري الحارس للألواح والرموز المقدسة .. أنا حامد فاضل ، كاتب عراقي مهتم بأمر دويلات المدن ، أعكف الآن على كتابة مرأى عن الوركاء ، استحلفك بالآلهة التي لها تعبد ، هللا هديتني على ضوء مشعلك المضاء بزيت المعرفة ، لعلي أطلع على أسباب نور أدلتك التأريخية الى أسرار المعرفة المكنونة لما كان من أمر دويلة الوركاء .. من بئر التأريخ يصعد اليَّ صوت أمين المكتبة يا حامد يا أبن فاضل ، أيها السماوي الذي تجشم عناء رحلة المعرفة . اعلم أننا نحن العراقيين القدامى ، كنا هنا في وادي الرافدين سباقين الى التغير قبل حدوثه في وادي النيل ، وان مظاهر التقدم بصورة عامة ، عُرِفَتْ عندنا في بلاد سومر في جميع العصور التأريخية .. تعال يا حامد ، تعال لأريك يوما من أيام أوروك المحصنة . يوم كالعيد مترع بالأفراح ، سترى الناس وهم يلبسون أبهى الحلل ، وغلمان الآسنو10 المتنقلين بين القصور ، ثم ترى وجوه الحسان كفلقة الفجر في الأفق ، الفتيات العذراوات اللواتي ينفح منهن العطر والطيب ، المخرجات العظماء من مضاجعهم .. أسمعت بجلجامش ؟ جلجامش المبتهج بالحياة ، المزهو برجولته وبأسه ، الذي تحلي جسمه المباهج والمفاتن ، جلجامش الذي رعاه شمش11 وحباه آنو و أيا بالفهم الواسع .. وأنكيدو ألم تسمع بأنكيدو ؟ المارد القادم من قلب الصحراء ، الذي يأكل العشب مع الظباء ، ويرد الماء مع الحيوان تعال ، اقترب ، هات يدك
اعلُ فوق أسوار أوروك
وأمش عليها متأملاً
تفحص أُسس قواعدها وآجر بنائها
أفليس بناؤها بالآجر المفخور ؟
وهلا وضع الحكماء السبعة أُسسها
أنظر
سار12 واحد مساحة المدينة ، وسار للرعي
وسار هي الأرض المخصصة لمعبد عشتار
ثلاثة سارات كلها ، وكذلك الأرض الخلاء لمدينة أوروك
/9/2012 Issue 4298 – Date 8 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4298 التاريخ 8»9»2012
AZP09