مقامة التفرّج على بيّاعي ساعات أم القمل (1-2)
النزول إلى باب الطوب بالباص أبو البرغي – نصوص – معن عبد القادر ال زكريا
قالت : لا تتأخر يا رجل و أنت نازل إلى السوق ….
قلتُ : نعم
قالت : لا تتأخر ،هل سمعت …؟!
— : في كل مرة تقول الشيء نفسه
—-: لا أتأخر ،لن أتأخر ،لم أتأخر … نفدت في جعبتي و ربّ الدين كل أدوات النفي و النهي والجزم …
—-: سأنزل إلى السوق ،وسأعود في الساعة الواحدة وخمس دقائق من بعد الظهر ،أو في الساعة الواحدة والنصف … لا يهم … لا يهم … لا تفرق معي … هي مجرد نصف ساعة ،هي مجرد ثلاثين دقيقة … يا أمعودة العمر كله إنقضى و مضى بالبلاش وبالحروب و بالتهجير و بالتعدي و بالظلم وببيع العبيد و شرائهم في سوق النخاسة … إنقضت الساعات و الأيام و الشهور والدهور في سوق النخاسة والمتاجرة بالنساء الشركسيات والسمرقنديات و الأوكرانيات والعجميات و التركمانيات ،مضى العمر و انقضى على سكوت الحكام و سكوت الخلفاء و سكوت السلاطين عن كل أنواع التعدي والسلب و جمع الأتاوات والعفو عن من باعوا الخراج بأبخس الاثمان ،وتكريم من إستولوا على أموال الجزية في تمام الأوان،واولئك الذين هربوا بأموال الزكاة في الزمان الفلتان… تقولين لا تتأخر والزمان ذهب بقميص عثمان وعبر الحدود أهل السرخستان برؤوس السبايا و الشهداء من جند الحسين سبط رسول الله الحنّان المنّان ،و بحقد الخصيان و البرص والعميان قتلوا الفاروق عمر والخنجر يتلامع بصيصه يأيدي النجس أبو لؤلؤة البهبهان …
قالت : لا تتأخر … حتى نتناول الغداء مع الأطفال السعداء سوية …! فنحن من زمانٍ سالف لم نجلس جلسةٌ عائلية ،القلب على القلب و العين بالعين و اليد على اختها الأخرى من أيادي الأولاد و الأحفاد قلتُ : بلى … حاضر … ممنون على هذه التوصية الثمينة ،ممنون على هذه العناية الكريمة … ممنون على هذه الرعاية النسيمة …ممنون على هذا الإهتمام … أعلمُ و الله شاهد على ما أقول أنك تخافين عليّ ،وأعلم أنك تخافين منّي عليّ وتخافين منّي على سوء ظنّي ،وأنت و أيم الله تخشين عليّ من تأرجح الظروف الرديئة ومن أهل الظروف السيئة ،تخافي عليّ من غدر الزمان ،ومن الزمان الغدّار . أعلم أنك تشفقين عليّ من أهل السوء وتشفقين عليّ من أهل السوق . وماذا بعدُ ..؟! تخافين عليّ من القجغجية ومن الحرامية ومن النشالين ،أعلم أنك تخافين عليّ من أبتوع التلات ورقات ،ومن أهل اليانصيب والبوش علينا …تخافين على الباب البراني و الباب الجوّاني إذا ما تركا مفتوحين بلا تدبر أن يدخلهما خلسةً المكادي ،ويدخلهما أشكراه الغجر ويدخلهما الكاولية و تدخل من الباب الكبير الداميي ويدخل من باب الحريم الديو ,وينزل من السطوح شقّاق البطون و يضحك على العجوز بحجج محتالة كلٌ من حدّاد السكاكين و احديدان واكعيبان و اتبيلان . …قالت :إذا كان و لا بد أن تجد لك يا رجل محطة في السوق تستريح فيها من كثرة الدوار والتسكع بين الأسواق و حول الدكاكين و البازار ،فلا تقرب من العيارين ولا تصافح الشطار ،بل فتش لك عن واحد من أصحاب أيام زمان ،من هم كانوا معك في الإبتدائية ،لا يحملُ واحدهم هماً في دراسة و لا يبتهج ثانيهم في أي نوع من أعمال الشطارة و الحراسة ،علك تجد صديقاً يبيع الخرزات أو يتاجرُ بانواع المكسرات من الجرزات ،أو واحداً آخر تخصص في بيع الساعات والخناجر و البوكسات الحديد و الدونكيات …
___ : فتش عن صديقً لصديقك أو حتى صديق صديق صديقك يبيع ( المسابح ) في سوق مصلحي الساعات ،السبحة … المسبحة … تلك المادة الضرورية من مواد أبواب المعيشة … إذا نسيتها في مكان حزنت لفراقها و زارت طيفك في المنام ،مادة أساس من مواد العيش و الطيش والمعايشة و المهاوشة ،كما تنفع السبحة في كش الذباب وتنفع في الطرق على الأبواب . المسبحة مادة يحتاجها جُلّ أهل المدينة و يحتاجا كل أهل الريف ،يستخدمها الموظفون الكبار الكبار و الموظفون الصغار الصغار ،يستخدمها العاطلون عن العمل و يحتاجها المفتشون عن عمل . يحتاج إليها الملالي والسادة والشيوخ . تحتاجها العجائز ويحتاجها المتقاعدون ,يحتاجون إلى المسبحة جميعاً في لحظة واحدة من لحظات الإنهماك والإنسحاق و التبحلق في رائحات الزمن وفي غادياته . الجميع سيمسكون بالسبحة ،يطقطقون السبحة ،يلفون الخرزات حول الخيط ، يلفون الخيط حول الخرزات ،يلفونها حول السبابة ،يلفونها حول الإبهام . خرزات المسبحة بعضها من بلاستيك ،خرزات المسبحة بعضها من نايلون ،خرز من خشب الصندلوز ،خرز من كهرب ،خرز من شيح ،خرز من بلول . للمسابح هواة ،من أصحاب المسابح محترفون . هناك من يسعى لشراء المسبحة ،وهناك من يسعى لسرقة المسابح . يذكرون عند كل خرزة واحدة من الخرزات أسم الله ،وأحياناً لا يذكرونه ،الأصابع تتحرك ،الألسنة و الشفايف تدور في أجواف الفم ،تدور في التجاويف ،أصابع اليد اليمنى تتحرك في كل الإتجاهات ،تتحول نحو الجهة اليسرى ، يطقطق المسبحة شفعاً ،يطقطق المسبحة وتراً ،يطقطق المسبحة ثلاثاً ثلاث ،يطقطق المسبحة إثنتين إثنتين ،يعيدها و يعدها ،يصل إلى ما قبل النهاية و ينسى عدّها ،يعدّها و يعيدُ عدّها . في الطريق يفعلُ بالعد ’،في الباص يعّد بالفعل . في مجلس العزاء يستمع إلى تلاوة القرآن ،يتوقف عندما يجودُ المقرئ في التجويد و يصعدُ في المقام قبل القرار،يقوم يرمي المسبحة بطقطقة قوية و صلبة و سريعة ،يفركها بين راحتي يديه و يصيح … الله ,… الله … بارك الله بيك… يا … شيخ …
*****
يجلس على المقهى ،ينظر في وجوه العابرين و يطقطق مع المطقطقين ،يتذكر وصايا أمّ البنين و يطقطق …. يصقع لسؤال مرق كرمحٍ من جنب خاطره في التوّ و يطقطق :
لم وجدت المسبحة …؟!
متى خلقت المسبحة لأول مرّة ..؟!
سيجد الجواب أمامه غابة من الألغاز و الأحجيات والأزقة ضيقة الجوانب ,المتقاطعة و المغلقة . السؤال نفسه و كأنه ينبطق على : أيّ الأصقاع زرعت نبات البامياء لأول مرّة في التأريخ مثلاٌ …. سيضحك منك القوم و يهزأون كعادتهم ،وسيقولون الشيء الكثير و سيتقولون , ما بال صاحبنا يسأل عن السبحة و عن البامياء وعن الكبّة النيّة و عن السفوف و عن عرق السوس ..؟!
تمر هندي
ما بال صاحبكم لا يسأل عن التمر هندي و من أي بلاد الهنود اتانا …أ قبل قدوم الإنكليز مع التمر أم بعد ما أعلن غاندي ثورة الملح مثلاً..؟! سينكفيء الناس على بعضهم ساعة يجّد ّالجّد ،سيهربون إلى دواخل جلودهم وقت ما يستحق عليهم طلب الجواب ,سيبصبصُ الناس من بواطن الألحفة والبطانيات ومن ثقوب الشراشف ومن تحت الأسرّة ، كأنهم يسترقون النظر إلى منكرٍ فاحشٍ ،سمعوا من غيرهم أنه ملعون و مشمئز و بغي و فساد و سوء خلق … لكنهم كانوا في غاية التلذذ والمتعة و الإنغرام و الحرقة للحصول على المزيد منه و لسان حال دواخل واحدهم يقول : زدني من هذا الفحش فحشا فقليل منه يكفيني زاد الساعة و لا تقول لأحد … إستر على ما واجهت …! عاد صاحبنا في مواجهة سؤال صاحبكم : يا إلهي ماذا كان و لا صار وما إنفك إذا ما وجدت الاقوام السالفة و المؤتلفة أن السبحة لم توجد بعدُ..؟!
ماذا كانوا سيفعلون وهم جالسون بدون طقطقة ..؟
بل و كيف وفي أيّ التجاهات ستذهب الأكف و أصابع اليد اليمنى وما عساها أن تقول لموازيتها في اليد اليسرى وفي أي التجاه ..؟
كم مرّة صادف أن نسيتُ السبحة دون أن أحملها معي إذا ما غيرتُ هدومي ،ولم تكن السبحة من ضمن الحاجيات المفروض تواجدها وفيها علبة السيكاير والمقدحة ..؟ طبعاً و من دون شك و لابدّ للوقت من أن يتوقف ،بل قل أن يتعثر ،بل زد قولاً على قول أنه سيمضي ثقيلاً و متثاقلاً و بطيئاً وعصيباً و مريضاً وخسيساً و من دون معنى …! عاد صاحبكم في مواجهة صاحبنا: يا إلهي لماذا صار للسبحة من مثل هذا السلطان ..؟! ترى ماذا يود ُ الرجل الأوربي والرجل الامريكي والرجل الياباني أن يفعلوهُ من دون أن يحمل واحدهم في يده السبحة..؟! يا ترى ماذا يفعل الرجل الهونغ كونغي بدون سبحة أو حتى مسبحة ..؟! كيف سيقضي أولاء الرجال الأجنبيون أوقاتهم في ساعات التعزية و العزايم و الفطور وفي ساعات طهور الاولاد وفي ساعات جلسات النهوة و الديّة والكصّة أبكصّة وفيساعات الفصل و العزل ..؟! أسئلة كان لا بُدّ من أن يجد كتّاب التأريخ و موثقوه لها حلاّ …و كان لابد من أن يعثر لها الآثاريون على أدلةٍ جنائية و تحريضية بشكل أختام و قراطيس و مظاريف و مومياءات … أعمدة من الكرانيت … وقبور من الأهرامات .. وعربات مجهزة للحرب بخيولها وأسودها ملفوفة بعشرات اللفّات من المسابح و السبح …!
دخل شخص ثالث من الفضوليين في مواجهة صاحبنا و صاحبكم : كيف سيقدر الفرنسي على التجوال في شارع الشانزليزيه ويمتع أعالي أسقف عيونه في مزايا إرتفاعات برج إيفيل من دون طقطقة السبحة على وفق أعلى درجات الطقــــطقة ..؟!
— تعساً لهم سكنة قارة امريكا اللاتينية من كاراكاس و حتى هافانا و هم لم يجربوا حمل السبحة و لا طقطقة السبحة و لا إكتشافها في أي يومٍ من الايام ولم يتعلموا طريقة لفّ الخيط على الخرزة … أوبالعكس ..!
ما بال كريستوفر كولومبس لم يحمل معه أطناناً من السبح أمهات الكراكيش من الصندلوز ومن الشيح ومن الكهرب …؟! قال المتقولون أنه حمل معه الخرز و البلول الملون و المنقوش إلى سكان البلاد الأصليين ،لكنه لم يكن يكنيها بالسبحة قاتلة الوقت أو قاتلها على حدّ السواء …فخسر الرهان الأعظم و ربحناه…!
يقول الخبير الجالس في دكان ملاصقة لسوق الأطراقجية في سوق الفراوي من جهة شمال غرب و تقابل دكان أسماعيل أبو الخناجر ومحل أبن صلاّوي من جهة الشرق وبالقرب من مقهى سوق الخيل :
مسبحة اليسر تقشر جلدها من مثل ما تفعله الأفعى بجلدها تماماً . عليه صار خبراء يونسكو المسابح ينصحون بإلباسها مسامير من فضة كي لا تتساقط مثل أوراق الخريف ،وأكمل الخبير قائلاً : لذلك صارت ثقيلة في جيب الجاكيت أو البنطرون …!! فضجّ الخلق في باب الطوب بالتكبير والدعاء للخبير بالموفقية و الصحة و العوافي وطولة العمر على فتواه ،ثم قام واحد من زبائن السوق الدائميين بضرب الدرباشة و ادخل الخنجر في بطنه في جهتها اليمنى ليخرج من لغده في الخد الأيسر ،وفي نهاية حدّ رأس السيف الخارج خيط أحمر وفي رأسه كركوشة وفي طرفي الكركوشة شكة خرزات تعد خمساً و ثلاثين …
جنّ الليل
هدأت العامة ،وقام رجلٌ ختيار فعلّق المسبحة على مسمار في الجمبر ،دهن ضارب الدرباشة موضع الغرز بلعابه ومسد عليه فانغلق ،أخفض دشداشته و ذهب إلى أهله ،جنّ الليل و عزلت المحلات و الدكاكين وأغلق أهل البازار ،ولم يبق سوى البصوانجي والسكارى و الجمبازية و الحرامية و ضرابي العب و المحتالين و القجغجية و الصبيان من صباغي الاحذية والمكادي الذين يحتضنهم بعد المساء خان حاج أحميد ….
قالت : لا تحمل مسبحة اليسر إذا ما نزلت إلى باب الطوب ،إحمل الكهرب أو الشيح . ثم سرعان ما تراجعت : لا لا تحمل الكهرب أو الشيح خوفاً عليهما كلتيهما من السراق أو من الضياع و الفقدان ،إحمل مسبحة الباغة الرخيصة …أخاف على أصابعك من مسبحة اليسر فهي تسبب الحساسية ،والحساسية تؤدي إلى مرض الإرتعاش ، أخاف على جيب بنطرونك من أن يتمزق … أوصيك لا تضع يدك في جيب البنطرون و تطقطق المسبحة وأنت تسير في الشارع أو تتجول في الأسواق ، فقد يفسرها الظنانون على وفق أبعد مدى مما تتصور فهم سيئوا الطباع و التفكير ،يتصورون بنظرهم المريض أنك تلعب بأشياء أخرى … وهذا لا يليق بك فأنت سيد قومك و متقاعد وتقرأ في أمهات الكتب من كل الانواع و الألوان …قالت : لا تتأخر …أسمعت ..؟!
قلتُ : سمعاً و طاعةً ,إلاّ أنّ النزول إلى المدينة بواسطة الباص أبو البرغي فيه بعض التنغيص ،وأنت ترين شكل السائق وجهرات السكن و الركاب من مختلف الفصالات والأرناك ،يجثم فوق وجوههم القهر بالقناطير المقنطرة ،وفوق قهرهم تجلس رؤوس ناكصة إلى الأرض،أكل الدهر عليها و شرب ،بل جلس فوقها و أناخ بكلكله …
قالت : لا تتأخر …هل فهمت قصدي..؟!
قلتُ : أنا يا سيدتي في عطلة صيفية…
قالت : لا تتأخر كثيراً في تجوالك في سوق العطارين ،ففيه من كل وصفةٍ دواء … وفيه من كل قطرٍ أغنية ،فيه من الحاجيات ما يأخذ منك الايام و الشهور ،ينفد عمرك و ما في جيبك و لا ينفد ما في الكواني … فالمراكب في كل يوم و في كل ساعة و في كل دقيقة تنزل الاحمال وتصبها صبّاً في ميناء البصرة … ترى العجب العجاب في سوق الهنود …إنتهت أعمار دول و حكومات و لم ينته ما في سوق العطارين …كل مستورد يصيبه البوار والأنقطاع ،في أزمنة الحروب و الحصارات ،عدا سوق العطارين فهو دائم في ديمومة .. يقول أهل الخطوة أنّ هذا رزق العباد …قالت : لا تتأخر يا رجل البيت … لماذا لا تسمع كلام وأهلك و أهلي وأهل المدينة قالوا في الأمثال : إسمع من الأكبر ،واسمع من الأصغر … ثم عد إلى رأيك …
قلتُ: يا ستي أنا في عطلةٍ ربيعية…قالت : لماذا لا تسمع كلاماً مجرباً بإذنٍ صافيةٍ ولو مرة واحدة في حياتك ..؟قلتُ : نحن اليوم في عطلة نهار الجمعة ،لابد لي من أن أنزل إلى أسواق المدينة ففي النزول بركة كما يقولون …إذن لا بدّ وأن أتأخر ،هذا طبيعي جداً ،ثم إنّ الامر ليس بيدي ،الأمر خارج عن سيطرتي ،الأعمار بيد الله ،المكتوب لا ينمحي ،الله هو العالم مما في القلوب وهو علاّم الغيوب .


















