المگر.. آهات سومرية – ياس الشمخاوي
قالوا في الحب ولم ينتهِ قولهم بعد … حياة مليئة بالألحان العذبة الشجية التي ينشدها المحب وهو يتوضأ من ماء القلوب وعصاراتِ الشجن ويتسبّح بأحلى التراتيل وأقواها على مرّ الزمن. الحب الحقيقي: شعور يولد بين عاشقين في لحظة تفاهم، بدا يسمو بعفتهِ وشفافيتهِ، متعاليا عن مطالب الجسد وشهوات النفس. ومازالوا ينظمون الأشعار في الحب، ويكتبون الدواوين بمدادِ الروح، عن سعادتهِ وشقائهِ وخلودهِ، وحتى عن لحظات موته لو شاء القدر. كلُّ حرفٍ فيهِ مقدّسٌ، مثل دَيْر الراهبات، وكلّ آهةٍ فيهِ، لحنٌ شجيّ مثل نَوْحِ الحمامات. قصائد العشقِ كلها قيس وليلى، وأغنية المگ?ّر واحدة من دموع ليلى في محراب آلهة الحب، كأنها لوح من رُقم الطين تفيض حزنا من قلبِ شاعرٍ سومري غادر الحياة، إلاّ أنَّ ترانيمَ عذاباتهِ لم تزلْ تُتل? نشيدا في معابد الزقورات.
محطات الاذاعة
رائعة المگ?ر، من روائع الأدب الشعبي، للراحل زامل سعيد فتاح، أحد شعراء الأغنية السبعينية التي هاجرت محطات الإذاعة منذ زمن بعيد كطائر السنونو، حيث لم يبقَ لها مكانٌ في ساحة المتطفلين على الفن والنغم الأصيل، بين تفاهات (صديقي باگ محفظتي، وأمَّك على البير). ولأغنية المگ?ّر حكاية وآهات سومرية، بطلاها عاشقان متيّمان، رقيقان كروحَيْ فراشة، فارسان بلا جواد يمتطيان أحلام الصبا والطفولة، يشكوان الهموم لأغصانِ الدفلة، وأشجار الصفصافِ على ضفافِ نهر الغراف.
هناك … بين بساتين مدينة الشطرة وأزقتها الحالمة، حيث ولد المتيمان وعاشا سويّا متعة الوصال ورهبة اللقاء ومرارة الفراق. من تلك الأماكنِ، بدأت حكاية حبٍ ولحن خالد، تحت ظلال النخيل تارة، وضوء القمر أحيانا، لكن شاءَت الأقدار أنْ تنتهي رحلة الودادِ بمأساة الفراق والنوى بين الحبيبين لظروفٍ قاهرة. وشاعرنا الراحل قد سطّرَ لنا جُزءا من تلك المعاناة بدموعٍ سخينة وأحزانٍ لا تنتهي عن لحظات وداعِهِ الأخير، وهواجس حبٍ قد ضاع بين قسوة التقاليد، وصرامة الأعراف.
مشيت وياه للمگ?ّر أوَدْعنّه …
مشيت وكل كتر منّي اِنهدم بالحسرة والونَّه.
والمگ?ّر هو الاسم التراثي لزقورة أور، التي تبعد بضعة أميال عن مركز الناصرية، وإلى جانبها تقع محطة القطار، المكان الذي عَزَمتْ حبيبة الشاعر على السفر منهُ إلى محافظة البصرة مع عريسها الذي أرغِمَتْ عليه.
يبدأ الشاعر عتابهُ مع نفسهِ والأشياء، شاكيا بلواه وحيرته للقطار والليل والرمال، حيث لا سبيل لتهدئة القلب بعد هذا الرحيل.
على الرمله.. الرمله … ضوه الگمره.. الگمره
يناشدني وأنشدَنّه ..
أگلَّه تروح… وگليبي، بعد بيمن أهيدنَّه !؟
بچه ودموعي لاگنَّه … بَعد.. وعضاي زتنَّه.
وما حيلة العاشق سوى أنْ يتوَسّل (الرَيل)، قطار السفر، أنْ لا يذهب بعيدا عنهُ بحبيبتهِ.
صاح الريل وآنه وياه … يعت بيَّه وعتبنَّه..
ذمه برگبتك خلني، فرد مشوار أشوفنَّه..
ولك يا ريل لا تبعد … خَذت ولفي، وأريدَنَّه.
كان القطار قاسيا معه، ولم يصغِ لنداءاتِ قلبِهِ الموجوع، فعاد يائسا بخاطر مكسور، وعَبراتٍ يرافقها الشوق والحنين الى صور الذكريات الجميلة، وأماكن اللقاءات القديمة.
ورد للناصرية ردود مخنوگ بألف عَبْرَه..
يراويني النهر موگاف حُبنه وديرة العشره..
پگلّي أصبرْ، شهر ويعود..
والمفطوم شيصبره!؟
كانت المگ?ر بحق لوحة فنية رائعة، جسَّدتْ مشاعر الحب النقي الشفاف بريشة أديب عراقي تربَّع على عرش الأغنية لعقود من السنين. وقد جاءت حكايتها الواقعية متكاملة بصورها الشعرية، ومؤثرة إلى حد بعيد على مشاعر المستمع وذائقتهِ الفنية والموسيقية؛ لأنَّ ملحنها الكبير (كمال السيد) اِستطاع أنْ يختار الطبقة الصوتية الملائمة لأجواء القصيدة المشحونة بالوجع والحزن، ذلك الصوت الفراتي الأصيل، صوت الأرض، الفنان ياس خضر.