المهندس المثالي والإعلامي المبدع – نصوص – محسن جبار العارضي

عكاب سالم الطاهر.. السياسي المخضرم

المهندس المثالي والإعلامي المبدع – نصوص – محسن جبار العارضي

ظهيرة يوم السبت الموافق 7 / شباط / 2015 م ، ونحن بانتظار افتتاح حفل التكريم الذي أقامه منتدى الصيد الثقافي في نادي الصيد العراقي للمبدعين من الباحثين والكتاب والأكاديميين العراقيين الذين ساهموا بإلقاء المحاضرات النصف شهرية لعامي 2013 م،2014 م من على منبر قاعة بابل،احدى منشآت نادي الصيد العراقي ، وإذا بالباحث المتميز ،المهندس والإعلامي المبدع ،الكاتب عكاب سالم الطاهر يقدم لي على سبيل الاهداء ،كتابه الجديد الموسوم (على ضــــــفاف الكتابة والحياة … الاعتراف يأتي متأخراً) وحالاً تسلمت الكتاب شاكراً له هذه الالتفاتة الكريمة واضعاً الكتاب على صدري إشارة مني على حبي وتقديري واحترامي لهذا الرجل الذي ما انفك يواصل نشاطه البحثي والإعلامي بالرغم من تجاوزه العقد السابع من عمره المديد ،الذي ندعو الله مخلصين ان يكون مقروناً بالصحة والعافية له ولجميع المبدعين العراقيين الذين كانوا ومازالوا يصرون على تقديم مصلحة الوطن على ما سواها التزاماً منهم بالمعايير الوطنية  التي من ثوابتها وضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعــتبار.

ولعلي لا ابالغ  اذا قلت اني وجدت نفسي وأنا اتصفح الكتاب (وبالرغم من كل ماكتبته عن التاريخ السياسي للعراق المعاصر) تلميذاً في مدرسة هذا السياسي المخضرم الذي أكبرت فيه العصامية التي قلما يجدها المتابع عند الكثيرين من اقرانه ،فضلاً عن الاصرار الذي  لايعرف المستحيل على نيل شهادة البكلوريوس من جامعة بغداد/كلية الهندسة- قسم الميكانيك،بالرغم من كل الظروف التي احاطت به منذ قبوله في الكلية عام 1961 م وحتى تخرجه فيها عام 1971 م متخطياً جميع العقبات التي واجهته بما فيها المطاردة والتوقيف والاعتقال لأسباب سياسية .ومع هذه وتلك الوضع المالي الصعب الذي كان يعاني منه والذي اضطره ان يعمل مساءاً لتوفير مستلزمات الحياة الكريمة له ولمن كان بمعيته اولاً ، ولمواصلة الدراسة في الكلية صباحاً ثانياً.

ولكن ،ولكي تكون  الصورة اكثر وضوحاً عن انطباعاتي تجاه استاذنا الطاهر اقول :لم اصدق نفسي وأنا اقرأ مذكرات هذا الرجل الذي تقلد مناصب هامة في الدولة العراقية وجاب المعمورة شرقها وغربها ممثلاً لها بمهام رسمية ، ان تكون طباعه بتلك السمات التي عرفتها عنه وانا التقي به في مجالس بغداد الثقافية. طباعا يغلب عليها الهدوء الرصين ودماثة الخلق والكياسة والصراحة واحترام الآخر ( صغيراً كان ام كبيراً ) والتواضع الجم الذي لم يكن منفصلاً يوماً ما عن قوة الشخصية .

نعم .. لقد قرأت المذكرات بوقت قياسي وأستمتعت بها ايما متعة ، لانني وجدتها تتحدث عن التاريخ السياسي للعراق الحديث المليء بالمفاجئات منذ الخمسينيات من القرن العشرين وحتى الاحتلال الامريكي للعراق في 9/4/2003م  وما تلاه من أحداث كان من تداعياتها هجرة صاحب المذكرات الى سوريا الشقيقة مجبراً،  حرصا منه على حياته التي قد تطالها شظايا العنف الطائفي والتكفيري الذي خيم على البلاد ما بين عامي 2006 و2009م نتيجة التدخلات الخارجية بالشأن العراقي .. هذه التدخلات التي وجدت من يتعاون معها في الداخل ( من الذين باعوا ضمائرهم للشيطان ) على تنفيذ ما تصبو اليه من مشاريع أقل ما يقال عنها انها من تدبير الاحتلال ، الذي ما برح يمهد لمشروعه التقسيمي من خلال الدعوة الى فدرلة العراق على اسس قومية وطائفية ، يُخاف منها على وحدة العراق ارضاً وشعباً وسيادة .

وعود على بدء، ولكي ننصف هذه القامة العراقية المعطاء ، دعونا نقول ان من حق الطاهر علينا .. لابد من صميم واجبنا ان نفخر به وبكل ما انجزه من مشاريع كان الاحدث مافيها الاصدار موضوع البحث ، الذي وجدته فيه ( وبعد القراءة المتمعنة ) يمتلك اذناً مرهفة وعيناً نافذة وقلما يكتب وضميراً مسؤولاً، كما وجدته عاشقاً للوطن وشغوفاً بالعمل البحثي والاعلامي ، والى جانب هذا وذاك ، فلقد كان الطاهر ذا ثقافة عامة وتخصصية ساعدته على تخطي محنة النقل التعسفي في الميدان الوظيفي مرات ومرات .وهذا ان دل على شيء انما يدل على ان الطاهر كان مكافحا بالعمل الميداني الذي يُكلّف به زاهداً بالمناصب والامتيازات  ، يدفعه الى ذلك حبه لوطنه والوظيفة التي يُكلف بها بصرف النظر عن العناوين وما تعنيه ، لا لشيء الا لكونه وكما عرفته عن قرب رجلا طيباً ، بسيطاً، سليم النوايا .. رجلاً يتمتع بقدر كبير من التواضع كما أسلفت .

كان الطاهر يدعو الى التآخي والوحدة الوطنية وتطبيق قاعدة عفا الله عما سلف ، ولعله يقترب بذلك من القائد الافريقي نلسون مانيدلا الذي نجح في تطبيق ما يعتقده مناسباً لمرحلة العدالة الانتقالية في الجنوب الافريقي بعد تفكيك النظام العنصري أواخر القرن العشرين .

لم يكن الطاهر في حرج يوماً ما عندما يعلن انه معجب .. لابل متأثر بأسلوب هذا الكاتب او ذاك ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، وبالرغم من الاختلاف الفكري الذي كان قائما بينه وبين الكاتب الصحفي ( القائد الشيوعي ) الساخر عبد الجبار وهبي ( ابو سعيد )، نراه يعلن ومن خلال مذكراته انه معجب ومتأثر بهذا الكاتب الذي طالما امتع قراء جريدة اتحاد الشعب في العهد الجمهوري الاول بإسلوبه الساخر والناقد في آنٍ واحد .وهذا الاعتراف من لدن استاذنا الطاهر لايعني ضيقاً في الافق انما يدل على العرفان بالجميل لمن تعلم منهم في مدرسة الحياة اولاً ،وايمانا منه بأن الانسان .. أيُّ انسان ومهما بلغ من درجات الرُّقي يبقى تلميذا يبحث عن اسباب العلم والمعرفة حتى آخر لحظة من حياته ثانيا .

وبالاجمال يمكن القول ، ان اعترافات الطاهر ، وحتى لو كانت وكما يقول (جاءت متأخرة ) الا انها غاية في الاهمية لأنها تنم عن صدق وصراحة هذا الرجل الذي ابرز ما في هيأته الهدوء والابتسامة الدائمة . اعترافات كان الاكثر اثارة فيها محطة الانتماء ، التي كانت وكما جاء في المذكرات السبب في معاناته منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي .

ولكنني وفي هذا الجانب بالذات استميح الاستاذ الطاهر عذراً قبل ان اقول ..نعم  لقد كنت صريحاً في اعترافاتك ، ولكنها لو كانت اكثر صراحة لكانت الفائدة اعم واشمل . ولكانت اكثر انسجاماً مع ما ذكرته في ص 338 من قول للروائية الانكليزيه الفائزة بجائزة نوبل للآداب عام 2007 م ومفاده: (ان الكاتب ملكية عامة ) واستدركت لتقول : ( ولان الكاتب ملكية عامة عليه ان يكشف لجمـهوره “قرائه” وقائع تجربته الحياتية ومدى انعكاس ذلك  على تجربته  الكتابية  بكامل تضاريسها) وتعقيباً على مضمون هذا الاستدراك أقول : بما ان استاذَنا الطاهر يؤمن بأن الكاتب ملكية عامة ، فالافضل ان تكون المذكرات كامله وشاملة وصريحة بعيدة عن التلميح تارة والتصريح المغلف تارة اخرى ، وان يسمي الاحداث ورموزها بمسمياتها ، لاسيما  التي اصبحت جزءاً من التاريخ ،حتى لاتكون المعلومات التي وردت في الصفحات (80، 82، 88،95، 101، 156، 198، 199، 210، 217، 223، 296) مبهمة وتحتمل التأويل وتُدخل القراء (لاسيما الذين لم يعاصروا الاحداث) في دوامة لها اول وليس لها آخر.

أخيراً وليس آخراً ،لابد لي من الاعتراف الصريح بأن مذكرات استاذنا الطاهر شدتني اليها، بحيث لم ازل اقرأ واقرأ حتى انهيت  ما عزمت على قراءته في وقت قياسي. ولأننا نقرأ حتى نتعلم مِن مَنْ هم اكثر علماً ودراية منا ، فلقد كانت المذكرات وكما قلت غاية في الاهمية. ولكن الذي ورد في الصفحات (311، 334، 339، 345، 351، 352) كان الاكثر تأثيراً واليكم ماورد في تلكم الصفحات:

ففي ص311 ورد النص  الآتي : ولان بعض المراجعين لمديرية بلدية احدى المحافظات العراقية كان شامتاً بموظف الاستعلامات ، لذلك  سأله أحدهم : وينك إتكول المدير يسمع كلامي nاشو حتى ماسلّم عليك ؟ ! عندها  أجاب موظف الاستعلامات المـــسكين  قائلاً : شِنْسَوّي …هذا المتوفر بالإفريقية ؟ ! وأشعر الآن ان هذه المقولة الذرائيعة بقيت وتبقى سارية المفعول ..؟! انتهى كلام الطاهر . وأضيف أنا عبارة  (الى ان  يقضي الله امراً كان مفعولاً).

وفي ص 334 توقفت كثيراً عند نصيحة الطاهر لصديقه الاستاذ عادل الدلي، الذي قال وهو يتحدث عن الاستاذ الطاهر مانصه: (وحين بدأت الكتابة بإشرافه كنت اتوقف بعد كل سطر اكتبه واعود الى مراجعته فيعترض قائلاً: “اترك ماكتبته واستمر في كتابة اسطر جديدة  حتى يكتمل الموضوع” وصرت حين اكتب موضوع الانشاء اتقيد بنصيحته ، وهي “ان استمر في الكتابة والمراجعة عند الانتهاء” )

 وفي صفحة 339 وعند الحديث عن ثنائية الهندسة والكتابة وفي محاضرة للطاهر في ديوان آل حيدر الثقافي /الناصرية ، تحدث قائلاً : (لم الجأ للكتابة هرباً من الهندسة لانها صاحبتني منذ الصغر،  ولم الجأ للهندسة هرباً من الكتابة لأنها تحصيل  أكاديمي اعتز به ) . ثم اردف قائلاً: ( ان الكتابة تعطي ،فهي تدفعنا للقراءة ، ولا كتابة  بدون قراءة .الكتابة في المآل الاخير توصل الى شهرةٍ ما ، مهما كانت مساحتها ، انها مسؤولية ، ولابد ان يدفع الكاتب  الثمن لممارسة هذه المسؤولية            .

وفي ص345 وفي حوار له مع الصحفي السوري ابو طالب البو الحية قال الطاهر في جواب له على سؤال مفاده :هل من حق الكاتب ان يجعل النص حراً لاحدود تقيّده ؟ أجاب : (النص ليس حراً في المضمون اولاً  ، ومن ثم في الصياغة ثانياً ، أنا مع الكتابة المقيّدة بضوابط (ولاأقصد  بالضرورة ضوابط الانظمة ) ثم اختتم اجابته بما يلي : (اذن ما يعجب القارئ  هو احد القيود المفروضة على النص الكتابي).

وفي معرض تقييمه لكتاباته انطلق الطاهر من قاعدة كلهم اولادي .هذا هـــــــو موقفي من جميع كتاباتي . ولكن حتى الاولاد قد يكون هناك العزيز و الأعز ، وربما يكون آخر العنقود هو الأعز !!.

وفي ص 351  وفي رده على الذين  يقولون  بأن العراقيين لا يميلون الى الحرية  بل بالعكس  يفضــــــلون الدكتاتورية والـــــــفردانية  تحدث قـــــائلاً : (هذا القـــــول فيه تجني ومبالغة ، لا يوجد شعب يفضل الفردانية ، ولكن الفوضى شيء والخيار الديمقراطي المقترن بالأمان شيء آخر ، أظن ان العراق يحتاج الى “الحاكم القوي العادل”) .

وفي ص352 وفي معرض رده على سؤال مفاده : [ لو طُلب منك ترتيب المفردات الآتية ( حق التفكير ، حق ابداء الرأي ، حق التعليم ، حق الانتخاب ، حق تقرير المصير ) لتكون منهج الحرية في العراق  فكيف سترتبها من حيث الاهمية برأيك ؟ ] أجاب قائلاً : ( ماعدا “حق تقرير المصير”  فأن بقية المفردات تنطلق من خط شروع  واحد وتسير بخط متواز ٍ وهي مكملة “تفاعلياً ” لبعضها ، اما “حق تقرير المصير” فهو الآن  وفي المدى المنظور خطر تقسيمي).