المقدادي يعيد تشكيل الخريطة الإعلامية – عبد الامير المجر
في ثمانينات القرن الماضي، بدأت اقرأ للدكتور كاظم المقدادي، الذي كان يراسل الصحف العراقية من باريس، حيث امضى فيها اربعة عشر عاما، وتعلم لغة اهلها، واطلع على معالمها الثقافية واثارها وحياتها الثرية الخصبة. فباريس عاصمة الثقافة العالمية ، ومقر اليونسكو وملتقى المثقفين في العالم. والعيش فيها طويلا، يترك اثره بالتاكيد على شاب طموح، يمتلك موهبة اعلامية، وعطش معرفي، سيرويه بتعلم الفرنسية، التي صار يطل منها على ثقافات متعددة وينهل من معارفها المختلفة .. حصل المقدادي على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الشهيرة، واختص بفلسفة الاعلام، الذي بات لغة العصر الحديث، والقوة التي تتحكم بالمزاج العالم للشعوب وتوجهاتها .. قبل ايام، انتهيت من قراءة كتابه القيّم ( الاعلام الدولي الجديد وتصدع السلطة الرابعة) الذي صدرت طبعته الاولى في العام 2013 عن دار اسامة في عمان/ الاردن.
بصراحة، لم اكن اتصور اني سابحر من خلال هذا الكتاب، في عالم الاعلام الحديث، واسراره ورحلته الطويلة المضنية، منذ اكثر من قرن ونصف، ومراحل تطوره وابرز مؤسساته، وايضا اساليب توظيفه السياسي وغير السياسي، ودوره في الاحداث الكبرى التي غيرت مصائر الشعوب، لاسيما في القرن العشرين الذي شهد تحولات كبرى، وكان للاعلام الدور الابرز في تكييف الامزجة وصناعة الراي العام في حينه.. اقول، وبصدق، كنت وانا اقرا، اشعر وكإني اتجول بين الازمنة الماضية واعيد اكتشاف الكثير من التفاصيل التي ربما قرانا عنها في سياق قراءتنا للتاريخ، لكن بنكهة مختلفة تماما، لانها قدمت على طبق انضجت محتوياته يد استاذ اعلام متمكن حقا.
ضم الكتاب اربعة فصول، بدا الاول باستعراض شيق لتاريخ الصحف في العالم، لاسيما في اميركا وفرنسا وبريطانيا والمانيا واليابان وبعض الصحف العربية البارزة، وكانت رحلة مشوقة، لانه لم يستعرض التاريخ بطريقة جافة، بل باستحضار مناخ مرحلتها والظروف التي اسهمت في صنعها والمعوقات التي واجهتها، واليات النجاح التي اتبعتها وتفاصيل كثيرة، مثيرة للفضول، تعرفت عليها للمرة الاولى، وقد كنت وانا اقرا، اشعر وكإني لم اعرف هذه المؤسسة من قبل، على الرغم من ان اسمها يطرق سمعي واسماع الملايين يوميا، اي ان المقدادي استحضر من خلالها تاريخ الشعوب، ملاحقا ايقاع الحياة وقتذاك، بتقنياتها وارهاصات نهضتها واحتداماتها السياسية .. ثم ياتي الفصل الثاني الذي خصصه للصحف الاستقصائية، وقد كان في تقصية لرحلتها المثيرة، كإنه يحاكي استقصائها للاحداث التي تناولتها! وقد جاء هذا باسلوب كتابي خال من التكلف وبعيدا عن الترهل والجفاف الاكاديمي، بل كانت الجمل تنساب بلغة رشيقة ومقتضبة ومشبعة لفضول القارئ الذي يزداد مع استمراره في القراءة، او هذا ما حصل معي حقا..
وجاء الفصل الثالث بعنوان (الصحافة الاستقطابية)، مستعرضا للعديد من وكالات الانباء العالمية، مثل رويترز، واسوشيتد بريس، ووكالة الانباء الفرنسية، ووكالة انباء الصين، ويونايتد بريس ، وانتر سيرفس، ووكالة تاس السوفيتية ، ووكالة انباء الشرق الاوسط، وكذلك الاذاعات العالمية المختلفة مثل ال بي بي سي ومونت كارلو وصوت اميركا ومن ثم القنوات الفضائية الاجنبية والعربية المختلفة. وكانت فعلا، رحلة استعراضية مليئة باسباب التشويق المختلفة، فضلا على كونها رحلة ثقافية، تضيف للقارئ معلومات في غاية الاهمية عن منابر اعلامية كبيرة، لعبت دورا في حياتنا، من دون ان نعرف عنها الكثير الذي يجب ان نعرفه، سواء مما نعتقده مكشوفا، او ظل مخفيا، ولان هذا يجب ان يكون جزءا من ثقافة اي مثقف او مهتم، يتلقى زادا اعلاميا وثقافيا، منقولا بواسطة هذه المؤسسات التي باتت مرآة العالم المتجددة باشكالها ومضامينها ايضا.اما الفصل الرابع فكان بعنوان (الاعلام الجديد .. طغيان الاتصال)، وفي هذا الفصل، تتجلى خبرة المؤلف في رصد المؤسسات الاعلامية الحديثة، وكيف اصبح عالم الاعلام مابعد الانترنت، واسباب تصدع السلطة الرابعة، او التي ظلت تسمى هكذا، وربما مازالت، لكنها اليوم تواجه تحديا غير مسبوق، بفعل طغيان الاعلام الالكتروني وسقوط الحواجز التي كانت بين الدول والشعوب ..لعل اكثر ماشدني الى الكتاب، هو تعرضه لسير شخصيات اعلامية كبيرة، مثل مردوخ، صاحب اكبر امبراطورية اعلامية في التاريخ، وكذلك شخصيات اخرى، تركت بصمتها وتركت خلفها مؤسسات كبرى، وقصة نجاح وتفان من اجل رسالة الاعلام واهوائه ايضا! واستعراضه لقضايا كبيرة مثل فضيحة ووترغيت، وقضايا اخرى متعددة، جاءت في سياق التطرق للصحافة الاستقصائية ودورها في حسم ملفات كبيرة، مازالت ساخنة في ذاكرة البشرية . اعترف بان هذا الكتاب، يصعب عرضه، لان كل فصل فيه يستحق ان تتوقف عنده طويلا، لما يحتويه من غزارة في المعلومات، بالاضافة الى رؤية المؤلف واحكامه المعرفية ايضا، بوصفه مختصا وذا خبرة، مايجعل القراءة مزدوجة الفائدة، لاسيما لدارسي الاعلام والمهتمين به، لانه يقدم لهم ارضية معرفية لاغنى عنها، اختزلت جهدا بحثيا كبيرا وواسعا، يستحق التحية. وعلى الرغم من اهمية الكتاب، لم ينتبه اليه احد من المعنيين في تطور الاعلام وبروز الاتصال.