المستشرقون أول من تبنى الدعوة للكتابة المحكيّة

اللغة العربية بين الفصحى والعامية

المستشرقون أول من تبنى الدعوة للكتابة المحكيّة

 أحمد كاظم نصيف

ما يسترعي الانتباه في مسيرة الأدب العربي الحديث، هو ظهور المناداة لمشروع الكتابة باللغة المحكية منذ ستينات القرن الماضي، لكن هذا المشروع واجه رفضا شديداًمن قبل المعنيين باللغة العربية ما أدى إلى تراجع الأراء التي نادت به، بيد أن هذه الدعوة لاستخدام اللغة المحكية أو لغة الحياة اليومية تظهر بين الحين والاخر من قبل دعاة الكتابة كل ما ظهر جيل جديد؛ هؤلاء “الكتاب”ربما قدتأثروا بقراءة الأدب المحكي، وهو لايتعدى دواوين (الشعراءالشعبيين وبعض من المسرحيات الشعبية)؛

 وهذا الأدب المكتوب باللغة العامية كما يطلق عليه في الاعم، لايفهم منه سوى القليل من الذين يتكلمون بلهجات أخرى، أو لنقل بعبارة أكثر دقة، من يقرأ هذا الأدب هم من يتكلمون اللهجة المكتوبة نفسها، وهذا ما أكده أستاذ اللسانيات الباحث الدكتور محمد البكاء عبر إجابته عن سؤال يتعلق بالدعوة لمشروع الكتابة باللغة المحكية، حيث قال: هذا بعض ما يتهدد اللغة من أخطار .. وعلى فرض تمّ الأخذ به، ففي العراق مثلا، أي لهجة تعتمد، لهجة أهل البصرة، أم لهجة أهل الموصل، أم لهجة أهل بغداد ؟ وكل لهجة يصعب على غير أهلها فهم الكثير منها، وهذا تشتيت للغة وتمزيق لكيانها، ثم كيف تقرأ كتب التراث لاحقا من الأجيال القادمة ؟! ولذا لم يكتب لها النجاح وماتت في مهدها”(1)، هذا من ناحية، ومن أخرى قد يكون لوعي الكاتب واهتمامه بقضايا وواقع مجتمعه جعله يقترب من اللغة المتداولة يوميا، وقد يريد أن يؤكد التزامه بالواقعية من خلالها، بيد أن اللألتزام بالواقعية لا يدفع الكاتب ( في النثر كان أو فيالشعر ) إلى استعارة مفردات غير بليغة.

هذا الأدب المحكي أو بالأحرى (الشعر العامي) إشتهر في مصر أكثر من سواها، وبرز فيه شعراء كبار، مثل فؤاد حداد، صلاح جاهين، بيرم التونسي، أحمد فؤاد نجم، عبد الرحمن الأبنودي، وأخرين، وكذلك في العراق كتب بعض الشعراء باللغة العامية وصدرت لهم دوواين، منهم مظفر النواب، وعريان السيد خلف، وكاظم اسماعيل كاطع، وذياب كزار، وزهير الدجيلي، وكتبوا أيضاً الأغنية، والمسرحية الشعبية؛ لكن هؤلاء بالرغم من نجاحاتهم ورواج دواوينهم لم ينادوا بمشروع الكتابة باللغة المحكية، كونهم يدركون جيداً أنهم يكتبون بلغة خاصة ولغرض خاص، هو الشعر العامي؛ أضف إلى ذلك أمر مهم للغاية، إن كل الأدباء العرب شعراء كانوا أم روائيين أو مسرحيين، وكل من ولج الكتابة، لم يفكروا يوما بالدعوة للكتابة باللغة المحكية؛ بل حرصوا على الارتقاء بها، وما ميزهم هي أساليبهم اللغوية الرصينة وحرصهم على إستخلاص مصطلحات وعبارات بلاغية أنيقة (المصطلح البلاغي اللغوي)، الذي يبرز جمال لغتنا العربية التي تتصف بكونها مهذبة ومرنة وطيعة وشاعرية.

كيان متكامل

إن أول منْ تبنى الدعوة إلى العامية وتناول اللغة ككيان متكامل، ونادىبها وروج لها، هم بعض المستشرقين، ذلك كونهم لا يجيدون اللغة العربية الفصحى؛ ووجدت صداها عند بعض الكتاب والباحثين العرب، مقابل الدعوة إلى التخفيف والتيسير على متعلمي العربية، ومنهم من نادى بالإستغناء عن حركات الاعراب؛ وبعد إنتهاء دور الإستشراق في خدمة اللغة العربية، أو بعبارة أخرى، بعد إكتفاء المستشرقين بما ينفعهم فيما يعتمدون عليه بدراساتهم ويحتاجونه بعملهم، لأغراض متعددة قد تكون دينية أو تحليلات سياسية، أو أغراض إحصائية، فهم بذلك لا يتعدون كونهم مؤرخين، بمعنى إن لغتنا العربية لا تعني المستشرقين بقدر عنايتنا بها؛وهناك أيضا من يستسيغ الحوار في القصة أو الرواية باللهجة المحكية، وذلك بدعوة أن لا نحملال قصة أكثر مما تحتمل خاصة وإنها قدتتنا ولشخصيات ذات ثقافة محدودة،وكذلك في السير الذاتية قد يلجأ الكاتب لاستذكار حوارات أو (جملة معينة) وينقلها كما هي لأهمية الدقة المقصودة بها،وقد يندر حقا وجود بديل لغوي لها؛ يضاف إلى هذا إن الإعلام لايخلو من مثل هذه الدعوة بحجة التبسيط على القارئ أوالمتابع (لا سيما في المقالة اليومية)، لكن هناك صحف كثيرة تفرد صفحات تعني بالآدب الشعبي؛بيد أن التبسيط والوضوح ليس بحاجة إلى إقحام مفردات من العامية،بل ما تحمله من دلالات قابل للصياغة التي تمنحها كيانها الأدبي الذي يقربها من اللغة؛ حيث إن هناك فرقا كبيرا بين اللغة التي يستخدمها الانسان في حياته اليومية وبين لغة الكتابة والشعر؛ وإن هذه المفردات والألفاظ (العامية) في حال استخدامها ستزيد اللغة صعوبة وتعقيدا وارباكاً، قد لا يكون خطأ أو خطيئة في استخدام المفردات والمصطلحات العامية، ولسنا ضد استخدامها ولسنا معها بالوقت نفسه،ولكن الناحية اللغوية والبلاغية وحتى الفنية، تكون ركيكة ومضطربة، كون المصطلح العامي قد تتعدد أنواعه ومعالمه وأغراضه، وبالتالي تنوع مفهومه؛ ولكونه غير محدد لغويا، وغير عميق الدلالة، لم يترك أثراً، وقد يكون غامضاً، وليس سوى إضافة أفقية للنص قد يسيء للغة أكثر مما تنفعها، ” ومع هذا كله فان عبارات مثل ” الكلام المحكي ” أو ” لغة الحياة العادية ” أو ” لغة الناس اليومية ” تحتاج إلى وقفة متأملة، لأنها تبدو غائمة، وغير واضحة تماماً، أيراد منها توجه الشاعر إلى لغة الناس المتداولة التي تنبثق عن حياتهم وشؤونهم اليومية؟ ليجعلها مادة قصيدته اللغوية، وكيف يأتي له ذلك، ومثل هذه اللغة ليس لها حظ كبير من الجمال، وصلتها بلغة الكتابة الفنية واهية، لأن لغة الكتابة، وكتابة الشعر بالذات لابد أن تكون أكثر اشراقا وصفاء وذات قدرات خاصة على تحمل المعاني والرؤى التي يمتلكها الفنان ويحاول التعبير عنها بشكل فني متميز، أم يراد بتلك العبارات لغة العصر الأدبي الجديد،الذي اتسعت فيه المفردة وتمكنت أن تكتسب مدلولات معاصرة ليست بعيدة جدا عن فهم الانسان الذي لا يمتلك ثقافة لغوية عالية، ان هذا الافتراض هو الأقرب الى المنطق، أو الى ما يراد لنا أن نفهمه من مثل تلك العبارات”(2)

وفي منتصف الستينات من القرن الماضي برز أدباء عرب من مصر، ولبنان بالذات، في المناداة لهذه الدعوة، وروجوا لها، ولا سيما يوسف الخال وسعيد عقل، فيوسف الخال أراد أن يضفي شرعية لهذا المشروع بدعوته التي أطلق عليها (اللغة العربية الحديثة)، بل كان يريد التخلص من اللغة العربية الفصحى على حد قوله ! لكن رغم هذا لم تجد هذه الدعوة من يدعمها، وأعتبرت دعوة تخصه وحده فقط، وقد أتهم على أثرها بالتمرد على اللغة، وهناك إتهامات أكثر خطورة وجهت له، منها، إنه كان يعاني من اللغة العربية؛ ومنها أيضا ليس باستطاعته التخلص من لغته العامية (المحكية)، وليس له منهج معين يعتد به؛ أما سعيد عقل صاحب دعوة (اللغة المحكية لغة حية، واللغة غير المحكية لغة ميتة) فقد قيل عنه الكثير، كونه معلم اللغة وعرابها في بلده (لبنان)، وعندما تقدم بمشروع اللغة اللبنانية معتمدة على الحروف اللاتينية؛ واجه معارضة شعبية ورسمية على حد سواء، على اعتبار إن اللغة هوية وإنتماء.

وعند استخدام لغة الحياة اليومية ودخولها على اللغة الفصحى، ستكون مزيج لغة أشبه بالاسطورية أو السوريالية غير محددة السمات والملامح؛ وقد يقتصر دورها على تأدية دورايضاح معنى ضيقا لمجمتع معين وبسيط، والدعوة الى استخدام لغة الحياة اليومية ليست جديدة ” وانما هي جزء من معطيات الحركة الرومانسية في الأدب العالمي، فعلى خلاف وجهة النظر الكلاسيكية التي تعتد بأسلوب الطبقات الارستقراطية وتقسم الألفاظ الى نبيلة وغير نبيلة كما هي حال طبقات الشعب مثلاً وترى أن لغة الشعر الحق والنموذج الصادق للشعر الصحيح يتمثلان في لغة الملك والحاشية والنبلاء(3)،على خلاف هذا قبل الرومانسيون كل الكلمات، حتى التي تبدو عامية أو مهملة(4)”، وهذه المفردات ( المهملة ) تشوه اللغة وتجعلها واهنة وركيكة وضعيفة ومترهلة، وتفقدها الكثير من معانيها؛وعلينا أن نتحاشى دقائق هذه المفردات التي يدركها واحد، ويغفلها الكثير، وبما إننا لا نستطيع فهم الأدب ووظيفته الاجتماعية وخصائصه الفنية دون معرفة اللغة نفسها،فقد تغيرت كثير من فنونه بعد أن تغيرت أسماؤها، نتيجة دخول مسميات والفاظ عامية عليها، ففقدت بذلك هويتها وغرضها ومعناها،” واذ كانت الالفاظ والمفردات وحدة بناء فن القول، فاللغة لا تحمل أية صفة قبل تناولها في العمل الادبي “(5).

كان هناك كتّاب في الأدب العربي الحديث أرتقوا باللغة وبلاغتها،كون الكاتب مهمته تنقية اللغة العامية اليومية المحكية، ليمنحها جمالا وخصوصية ويوظفها توظيفا أدبيا، ونالوا شهرتهم،وترجمت أعمالهم إلى لغات عديدة وانتشر نتاجهم الأدبي بفضل اللغة وتفاعلهم معها،بيد إن ترجمة اللغة المحكية قد تكون مستحيلة؛ كون الترجمة من لغة إلى لغة أخرى، وليس من لهجة إلى لغة أخرى ؛ واللهجات ( اللغات المحكية ) لم ترتق إلى مستوى اللغة، ولم تمتلك مقوماتها، وليس لها كيان، ولم تخضع لقواعد النحو والصرف، وبالتالي فهي لهجات معينة لمجتمعات معينة، ولايمكن لها أن تنقل أداب أمتها بأمانة إلى أمة أخرى، حتى إن كثير من المترجمين فضلوا عدم ترجمة نصوص من لغات حية، تجنبا للمشكلات التي لابد أن تنشأ عن الترجمة، فما بال ترجمة كلمات مهملة ؟وكيف يؤثر أدبنا بالأمم الأخرى، وكيف تتم ترجمته إن كان مكتوباً ومنقولاً بلغة مثخنة بمفردات والفاظ ومصطلحات عامية لايفهم منها حتى ابناء اللغة الواحدة إلا القليل ؟ ” إن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر المقارنات فقد ظهرت علوم المقارنة في كل ميدان وحقل، فهناك علم الاديان المقارن، وعلم القوانين المقارن، والتربية المقارنة، وعلم التشريح المقارن، إذ لا يمكن فهم موضوع، حق الفهم والتعمق فيه دون تسليط أضواء أجنبية عليه والنظر اليه بالمقارنة إلى مشابهاته ومناقضاته في الحقول التي تمت إليه بصلة “(6).

الهوامــــــش

(1)     الزمان، العدد (4639 في 24 تشرين الاول 2013).

(2)     د . محسن اطيمش، دير الملاك.

(3)     د. محمد غنيمي هلال، دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده.

(4)     تشارلس مورجان، الكاتب وعالمه، ترجمة د . شكري محمد عياد.

(5)     د.عمران الكبيسي، لغة الشعر العراقي المعاصر.

(6)     د. صفاء خلوصي، الآدب المقارن في ضوء الف ليلة وليــــلة/الموسوعة الصغيرة /189.