علاء الأسواني في شيكاغو
المزج بين الرؤية السردية والمكان المؤثّر – نصوص – حمدي العطار
أرتبطت تاريخيا بعض المدن بالاحداث الكبيرة ، وهكذا هي شيكاغو هي في مخيلة شعوب العالم والحركات السياسية وبالذات اليسارية كانت تؤشر الى مناسبة (عيد العمال العالمي) الاول من أيار ،ففي سنة 1886 تجمع عمال شيكاغو مطالبين بجعل وقت العمل 8 ساعات يوميا ،فتح رجال الشرطة النار على المتظاهرين ليكون هناك تضامن عالمي امتد من ذلك التاريخ الى يومنا هذا بين جميع عمال العالم،بهذه الخلفية التاريخية اليسارية وبمعرفتي للروائي (علاء الاسواني) وعمارته (يعقوبيان) كان الحافز لقراءة رواية شيكاغو الصادرة عام 2007 عن دار الشروق ،وتضم الرواية 40 فصلا بواقع 453 ورقة توزعت على مجموعة من الشخصيات تقريبا بالتساوي لأثبات اهمية المكان (شيكاغو) كما اثبت الكاتب اهمية (يعقوبيان) وليشرح شخصيات روايته نفسيا واجتماعيا وابعاد تلك الشخصيات التي تجمعهم مهنة (الطب) كما هي مهنة الروائي وكونهم في مدينة أمريكية ،وفي قسم الهيستولوجي …علم الانسجة”- كلية الطب -جامعة الينوى ،وتعد رواية الاسواني ((شيكاغو)) رواية شخصيات تخضع بشكل كبير لرؤية السارد وأرائه السياسية محاولا طرح المكان مدينة- شيكاغو- كعنصر مؤثر في البناء الفني للاحداث والشخصيات .
معان ومفاهيم لمدينة شيكاغو
في روايات المكان يحاول السارد أن يبين اهمية المكان على الشخصيات تبدأ الرواية في أستعراض (المكان) على حساب الشخصيات ،ففي رواية شيكاغو كان الاسواني حريص على الاستعراض التاريخي لمفاهيم ومكانة شيكاغو قبل ان يستعرض الابطال في الرواية ،وكان ذكيا جدا حينما يقدم اولى هذه الشخصيات (شيماء محمدي) مع الذاكرة الجمعية لسكان شيكاغو وتشاؤمهم من الحرائق على خلفية ما حدث سنة 1871 ! ومن المعاني والمفاهيم والاحداث يسترجع الاسواني اصل كلمة شيكاغو والتي تعني (الرائحة القوية) وسبب التسمية لأن الهنود الحمر سكان شيكاغو الاصليين كانوا متخصصين بزراعة البصل (الذي تسببت رائحته النفاذة في هذا الاسم) بالاضافة الى هذا الاسم المشتق لغويا هناك تسميات اخرى يذكرها الاسواني ولكل تسمية سبب “ملكة الغرب” لأهميتها وجماليتها،و “مدينة القرن” لتوسعها المدهش ،و “مدينة الاكتاف الكبيرة” اشارة الى ارتفاع مبانيها الشاهق وكثرة العمال بين سكانها، ومدينة “سوف” أشارة الى الطموح الذي يدفع الأمريكيين الى الهجرة أليها بحثا عن مستقبل أفضل،و”مدينة الضواحي” اشارة الى 77 ضاحية تحيط بالمدينة ، وبعد أن ينتهي الاسواني من استعراض شيكاغو يبدأ في الفقرة الثانية من الفصل الاول بتقديم اول شخصيات الرواية (شيماء محمدي) وليس هناك افضل من تقديمها وهي تتسبب بأشعال النار في شقتها بسبب “المسقعة الاسكندرانية”
تنوع السرديات واللجوء الى المونولوج الداخلي
يحاول السارد في الفصل الثاني ان يزخ بمجموعة من الشخصيات المؤثرة في الرواية وايضا من بوابة المكان (قسم علم الانسجة) التي يدرس فيها مجموعة من طلاب البعثة المصرية الى شيكاغو ،واذا اقتصر الفصل الاول على استعراض مفصل للبطلة شيماء فأنه يتناول في هذا الفصل برغم من صغر حجمه بالتعريف البسيط بالشخصيات التالية (طارق حسيب،أحمد دنانة ) كأسماء فقط ، اما (ناجي عبد الصمد) الطالب المختلف عن الجميع بسبب انه يريد ان يحصل على الماجستير والدكتوراه معا بينما باقي المبعوثين توجههم الحصول على الدكتوراه ! ولأنه لا يعمل كأستاذ في الجامعة بسبب ثوريته ومعارضته لنظام مبارك ،يرفع هذا الطالب دعوة قضائية للحصول على البعثة الى شيكاغو وعلى قسم الانسجة في كلية الطب – جامعة الينوى ،يستوجب ان يجتمع القسم للتوصل الى قرار قبول او رفض الطالب الثوري – ناجي عبد الصمد- وهي مناسبة للتعرف ليس على اسماء خمسة من اساتذة قسم الانسجة فحسب بل صفاتهم وخلفياتهم خاصة الاساتذة المصريون (الدكتور صلاح والدكتور رأفت) واللذان يدور بينهما حوار من اجل بيان موقفهما من (ناجي) وبنفس الوقت يستعرض السارد موقفهم السياسي من مصر ونظام الحكم ومن الاسلام السياسي وموقف امريكا من الارهاب في هذا الحوار الذي يكشف طريقة تفكير الشخصيتين ،يقول رأفت “المصريون يحصلون على الماجستير أو الدكتوراه ليس من أجل البحث العلمي،وأنما من أجل الحصول على ترقية أو عقد مجز في بلاد الخليج” اما صلاح بعد ان يتهم رأفت بالمبالغة يقول ” كلامك عنصري ..العنصرية هي الاعتقاد بأن أختلاف العنصر يؤدي الى أختلاف السلوك والقدرات الانسانية .. هذا التعريف ينطبق على كلامك عن المصريين .. والمدهش أنك نفسك مصري! كما ضم النقاش والتعريف بالاساتذة الامريكان وما يهمنا هو – جوان جرهام – وهو من الشخصيات التي تلعب دورا في احداث الرواية.
جاذبية نهاية كل فصل
يحاول الاسواني ان يمسك بتلابيب القارئ من خلال لعبة نهايات الدراما المشوقة فمنذ الفصل الثالث وهو ينهي كل فصل بموقف او حدث يجعل القارئ يحزر ما سوف يكون عليه مصير الشخصيات وتطورات الاحداث وهو اسلوب قد استمده الاسواني من الدراما التلفزيونية حين تكون نهاية كل حلقة التي تخلق الحيرة لدى المشاهد وتجعله ينتظر بشغف حلقة اليوم القادم وعند القراء ما عليهم الا متابعة القراءة السريعة للوصول الى الفصل الذي يكمل ما انتهى اليه الفصل السابق والذي اختار الاسواني ان يتوقف عنده،، ففي الفصل الثالث يقدم لنا بعمق شخصية طالب البعثة (طارق حبيب)،فبعد ان يصف طريقة طارق في البحث العلمي وبرنامجه الصارم في التعامل مع وقته ودراسته والتحصيل وجديته الزائدة عن اللزوم يبدأ الاسواني بالاثارة حينما يتحدث عن رفاهية طارق حسيب (صينية البسبوسة) ولديه أيضا ساعة الترفيه تنقسم الى قسمين (مصارعة حرة وفنطازيا) وللعنف المفرط في المصارعة (يصفق ويقفز من فرط النشوة) “وبنهاية المباراة يسقط طارق على فراشه مبهور الانفاس والعرق يتصبب منه كأنه هو الذي خاض المصارعة” وبعد أنقضاء بهجة المصارعة تحين لحظة المتعة السرية اللذيذة ،وهذا يوفره له القرص المضغوط الذي ما ان يضعه في الكمبيوتر حتى تظهر له “نساء فاتنات رشيقات شقروات لهن سيقان وأفخاذ ناعمة لذيذة،وأثداء من أحجام متنوعة غاية في الروعة ولهن جميعا حلمات مهتاجة نافرة يصيبه مرآها بالجنون …ولا يلبث النساء والرجال أن يتناكحوا بمنتهى الانسجام ،فتعلو أصوات الغنج والشخير والتأوهات الخليعة ،وتتركز الكاميرا على وجه المرأة وهي تصرخ من فرط اللذة وتعض شفتها السفلية ..ولا يستطيع طارق أن يتحمل كل هذه الاثارة أكثر من دقائق معدودة ،يندفع بعدها عدوا الى الحمام وكأنه يجتاز سباقا أو يطفئ حريقا،يقف امام الحوض ويفرغ لذته،وشيئا فشيئا يهدأ ويستعيد توازنه ،ثم يأخذ حماما ساخنا ويتوضأ ويصلي “
السلبية لشخصيات الاسواني
في رواية شيكاغو هناك العديد من الشخصيات المأزومة التي يقدمها الروائي بقسوة وهو يستعرض تاريخها الشخصي وصولا الى نهايتها المحتومة في الرواية ،ونتلمس الاسهاب والتفصيل في فصول الرواية عند استعراض هذه الشخصيات بينما كانت نهاية هذه الشخصيات في الفصول الاخيرة متسارعة الايقاع،في الفصل الرابع يطرح السارد لنا شخصية الدكتور (رأفت ثابت) الذي اطلعنا على بعض افكاره العنصرية ضد المصريين برغم من انه مصري ،لكنه مصري ناقم لأن عبد الناصر امم مصانع الزجاج التي يملكها ابوه ! وهو يشعر بالغضب التاريخي على كل ما يمت الى مصر ولم يرض حينما قرر القسم قبول الطالب المصري (ناجي عبد الصمد) وينتقل اسلوب السرد الى المونولوج الداخلي عندما يحدث نفسه “المصريون لا يصلحون للعمل في أماكن محترمة لأن عيوبهم كثيرة وفادحة : الجبن والنفاق،الكذب والمراوغة والكسل،عدم القدرة على التفكير المنظم، والعشوائية والفهلوة” وحينما يريد ان يذكر اصله لمن يسأله يقول (ولدت في مصر ،وهربت من الظلم والتخلف الى العدل والحرية ) وبعد أحداث 11 سبتمبر كان – رأفت – يجاهر بأرائه ضد العرب والمسلمين قائلا “من حق أمريكا أن تمنع أي شخص عربي من دخول أراضيها حتى تتأكد من أنه شخص متحضر ،لا يعد القتل فرضا دينيا” هذه الشخصية السلبية يضع لها السارد نهاية مأساوية بموت ابنته (سارة) نتيجة تعاطيها جرعة قوية من المخدرات بعد ان تترك البيت وتعيش مع صديقها الامريكي الفنان التشكيلي المدمن!
اسلوب السرد الذاتي
هناك ثلاث مستويات من السرد اعتمدها الاسواني في روايته شيكاغو ،مع الاحداث الماضية يكون السرد التاريخي الموضوعي،وعن الحاضر هناك السارد بضمير الغائب العارف كل شيئ عن الشخصيات والاحداث واضاف الاسواني السرد الذاتي من خلال مذكرات “ناجي عبد الصمد” وهناك اشارة في بداية الرواية “الصفحات والفقرات المطبوعة بالحرف الأسود هي ،طبق الأصل، مذكرات ناجي عبد الصمد التي كتبها أثناء الرحلة” فهل في هذا يريد الاسواني ان يجعل القارئ يعتقد بأن الرواية فيها جانب حقيقي متمثل بهذه المذكرات خاصة وان شخصية ناجي عبد الصمد الثورية المعارض يمكن ان تشابه شخصية الروائي !؟ وفي هذه الاعترافات او المذكرات يطرح السارد وجهات نظر فكرية ومواقف متناقضة لشخص كان معاديا لأمريكا ليساريته وهو الان يعيش ويدرس فيها “انا الان في امريكا التي طالما هاجمتها وهتفت بسقوطها واحرقت علمها في المظاهرات .. أمريكا المسؤولة عن افقار وشقاء ملايين البشر في العالم..أمريكا التي ساندت اسرائيل وسلحتها ومكنتها من قتل الفلسطينيين وانتزاع أرضهم..أمريكا التي دعمت كل الحكام الفاسدين المستبدين في العالم العربي من اجل مصالحها ..أمريكا الشريرة هذه أراها الان من الداخل ويلح علي السؤال :هؤلاء الأمريكيون الطيبون اللذين يتعاملون مع الغرباء بلطف ،الذين يبتسمون في وجهك بمجرد أن تلقاهم ،الذين يساعدونك ويفسحون لك الطريق أمام الأبواب ويشكرونك بحرارة لأقل سبب ،هل يدركون مدى بشاعة الجرائم التي تقترفها حكوماتهم في حق الانسانية”؟ شخصية ناجي عبد الصمد هي الاخرى شخصية مأزومة برغم من ثوريته ينغمس في ملذات ممارسة الجنس ويعاشر فتاة يهودية (ويندي) وعندما يقرر مواجهة مبارك في زيارته الى شيكاغو بحقيقة نظامه الفاسد والدكتاتوري يتهم بالارهاب وينتهي الى السجن!
أنتهازية المتدين
يستعرض السارد واصفا شخصية “أحمد دنانة” رئيس لأتحاد الدارسين المصريين كونه يجمع بين المتناقضات العربية والاسلامية ،هو أنتهازي وبخيل “ملامحه مصرية ريفية،وزبيبة الصلاة المثلثة تتوسط جبهته،شعره مجعد يغزوه المشيب ،رأسه ضخم ونظارته سميكة مستديرة من طراز “كعب كوبايه”زجاجها يميل الى الزرقة قليلا يعكس نظرات عينيه الماكرتين في دوائر متداخلة كثيرا ما تربك محدثيه..المسبحة لا تفارق يده”هو طالب فاشل قضى سنتين ليكمل دراسة اللغة الانكليزية ،تزوج من مروة وكانت تقرف منه ومن العنف الذي يصيبها وهو يمارس معها الجنس،أجبرها على مد يده لزوجته للحصول شهريا على الف دولار من ابيها الغني،تدني نفسه بأن يطلب من زوجته ان تجامل (صفوت شاكر) مسؤول المخابرات المصرية في السفارة لتحقيق مصالح مما يدفعها الى الهروب من شيكاغو والرجوع الى مصر وطلب الطلاق.
عدم الجدوى والانتحار
في الفصل السادس يستعرض السارد حالات الكآبة والوصول الى حالة اللاجدوى من هذه الحياة العبثية الجامدة،حتى الجنس يصبح عند الدكتور (محمد صالح) ليس له بريق من السعادة وهو يعجز عن ممارسته مع زوجته الامريكية (كريس) ،محمد صالح ترك مصر وحبيبته (زينب رضوان)في بداية السبعينيات والاجتماعي اتهمته حبيبته بالجبن ،سافر الى امريكا وبمرور الزمن يفقد توازنه بأضطربات نفسية ،تصحو وطنيته ويوافق ان يتلو خطاب المعارضة بحضور مبارك لكنه يتراجع في اللحظة الاخيرة ويقرر الانتحار وهي شخصية أخرى لا تنفع معها النجاح المهني والاستقرار المادي والعيش في اكثر الدول تقدما ،يكسب كل شيء لكنه يخسر نفسه.
الشخصية الامريكية في الرواية
ركز الاسواني كثيرا على شخصية (جون جراهام) وذلك لكونه معارضا للسياسة الامريكية وله ميول يسارية قد تتشابه مع الروائي وحتى مع بطله الثوري (ناجي عبد الصمد) ويكشف هذا الحوار مع ناجي أراء جراهام بالسياسة الامريكية “يعيش ملايين المواطنين في اغنى بلد في العالم.. هذه المرأة البائسة في رأيي أشرف من كثير من الساسة الأمريكيين ..أنها تبيع جسدها لتطعم أولادها،في حين أنهم يوجهون السياسة الخارجية الأمريكية من أجل أفتعال حروب للسيطرة على منابع النفط،ويبيعون خلالها أسلحة تقتل عشرات الألوف من الأبرياء حتى تنهمر عليهم الأرباح بالملايين! ” اما تقييم جراهام عن العلاقات الجنسية في امريكا فهو يقول :- اذا اردت ان تتعرف الى امراة في امريكا ،فيجب ان يتم ذلك من خلال خطوات محددة وكأنه أشهار لشركة تجارية : يتعين عليك -اولا- أن تقضي وقتا في الحديث معها،وأن يكون حديثك مسليا ومضحكا،،وثانيا:يجب ان تدعوها الى شراب على حسابك ،وثالثا:تطلب منها رقم تليفونها الخاص،ورابعا: تدعوها الى العشاء في مطعم فخم،وفي النهاية تدعوها لزيارتك في البيت ،عندئذ يعطيك العرف البورجوازي الحق في أن تنام معها،وفي أية خطوة من هذه الخطوات تستطيع المرأة أن تنسحب ،فأذا رفضت المرأة اعطاءك رقم تليفونها او دعوتها للعشاء يكون معنى ذلك انها لا ترحب بالعلاقة معك ..اما أذا قطعت معك الخطوات الخمس فمعنى ذلك أنها تريدك.
اضطهاد الاقباط في مصر
يرى الاسواني ان وجود الاقباط في مصر هو حقيقة يجب ان يتقبلها المصريون ويتعايشون معها لذلك هو يطرح اشكالية الاقباط في مصر من خلال شخصية (كرم دوس) وهو طبيب قطبي هاجر الى امريكا بسبب أضطهاده في جامعة عين شمس ،ويدور هذا الحوار بينه وبين ناجي عبد الصمد حيث يقول كرم:الاقباط مضطهدون في مصر ،يرد ناجي:المصريون جميعا مضطهدون ..النظام في مصر مستبد وفاسد..وهو يضطهد المصريين جميعا ،مسلمين واقباطا ،يرد كرم:هل تقصد ان الاضطهاد في مصر سياسي وليس دينيا؟ يرد ناجي:المشكلة في رأيي ليست بين المسلمين والأقباط،وانما بين النظام والمصريين،
لقد كان كرم محاربا من قبل رئيس قسم الجراحة العامة الدكتور عبد الفتاح بلبع مسلما متشددا يجاهر بكراهيته للأقباط كان يؤمن بأن تعليم الأقباط الجراحة لا يجوز في الاسلام لأنه يمكن الكفار من التحكم في حياة المسلمين! وفي تخريجة غير موفقة من وجهة نظرنا يجعلنا الروائي نقتنع بأن الصدفة التي يستحيل حدوثها في الحياة الواقعية اذ ان رئيس قسم الجراحة عبد الفتاح بلبع يمرض بالقلب ويحتاج الى عملية جراحية صعبة ،لا يوجد في العالم ألا دكتور كرم القطبي ان يعمل له العملية!
عودة الى المكان كبؤرة تأثير
بعد ان ينغمس الروائي في تحليل شخصياته المتعددة يأخذ نوعا من التوقف مرة أخرى عند شيكاغو المكان حينما يمهد لذهاب رأفت الى حي الزنوج لزيارة ابنته سارة وهي تقيم في شقة صديقها المدمن وتكون هي الاخرى قد ادمنت المخدرات ،لنرى وصف الرواية لهذه البؤرة المكانية من جانب آخر “منذ أنشئت شيكاغو لم تنقطع هجرة الزنوج اليها ،مئات الألوف هربوا من العبودية في ولايات الجنوب،جاءوا الى شيكاغو يدفعهم حلم أن يكونوا مواطنين أحرارا لهم كيان وكرامة ،التحقوا بالعمل في المصانع ،وعملت زوجاتهم خادمات في البيوت وجليسات أطفال،وسرعان ما أكتشفوا أنهم أستبدلوا قيود العبيد الحديدية بقيود أخرى غير مرئية لا تقل قسوة”هي أذن استبدال أستغلال عنصري بأستغلال أقتصادي مغلف بالعنصرية وفي طرح تفاصيل تاريخية حول اوضاع الزنوج في شيكاغو موثقة بالتواريخ ((1900، 1919،1966،1984 )
حيث يصل السارد الى “شمال المدينة يضم احياء وضواحي راقية تسكنها نخبة من البيض يحققون واحدا من اعلى معدلات الدخل في امريكا اما الجنوب الاسود فيصل فيه الفقر الى مستويات يصعب تخيل وجودها في امريكا :تنتشرالبطالة والمخدرات وحوادث القتل والسرقة والاغتصاب ويتشوه كل شيء حتى مفهوم الاسرة فينشأ كثير من الاطفال السود في كنف الام بعد هروب الاب او قتله او سجنه،هذا التناقض الصارخ بين عالمين هو ما دفع عالم الاجتماع جريجوري سكايرز ليف شيكاغو (ليست التناقضات العديدة التي تحملها شيكاغو ما يميزها لكن ما يجعلها مدينة متفردة انها تحمل تناقضاتها دائما الى الذروة) منطقة اوكلاند حيث يقطن الزنوج يتعرض رأفت الى عملية تسليب قبل ان يصل الى الشقة التي تعيش به ابنته،هنا وفي مواقع أخرى من الرواية هناك خرق لتابو الجنس وهي طريقة تتعلق احيانا بزيادة جرعة الاثارة لزيادة عمليات الترويج والتسويق وزيادة المبيعات علما ان هذه الرواية قد صدرت منها العديد من الطبعات واطلع عليها ملايين القراء،لنرى الاسواني في تصوير مشهد اباحي بالكلمات هي اشبه بتصوير واضح بالكاميرا حينما يتلصص الاب رافت ليرى ابنته تمارس الجنس مع صديقها ((.. انحنت عليه مدت يدها وفكت سوسه البنطلون، ثم أخرجت عنقوده وتأملته بشهوة ،أدارت لسانها حوله عدة مرات ،ثم بدأت تمتصه وقد أغمضت عينيها بأستمتاع))
رجل الامن والمخابرات في الرواية
لا يوجد لدى الاسواني من هو أسوأ من رجل الامن والمخابرات الذي متهن التعذيب وأنتزاع الاعترافات الملفقة لزج الناس الشرفاء والطنين في أقبية السجون المظلمة وصور السارد هذه الشخصية المريضة نفسيا بالشكل التالي”استحدث الضابط الشاب صفوت شاكر نهجا جديدا في العمل ..فبدلا من الضرب والكهربة كان يلقى القبض على زوجة المتهم او امه او اخته اذا كان اعزبا ثم يأمر جنوده فيخلعون ثياب المرأة قطعة قطعة حتى تصير عارية تماما ،ويبدأون في العبث بجسدها امام زوجها الذي سرعان ما ينهار ويعترف بكل ما يطلب منه)) لقد نجح ببراءة الاختراع وكسب ود مسؤوليه لذلك صعد السلم الوظيفي بسرعة الصاروخ “لقد ظل يحرز النجاح تلو الآخر حتى عين مستشارا في الخارجية -مسئؤول المخابرات المصرية في السفارات المصرية- عمل في سفارتنا في غانا ثم طوكيو وأخيرا واشنطون” كان لوجود هذه الشخصية لها التأثير السلبي على طالب الطب الفاشل ومسؤول الدارسين في شيكاغو (احمد دندنه) الذي يرعى تغطية فشله من اجل الاستحواذ على جسد زوجته مما يدفعها الى الهروب والرجوع الى مصر،اما تأثيره على (ناجي عبد الصمد) فهو قد اوصله الى تهمة الارهاب وزجه في المعتقل ،يريد الاسواني ان يقول اين ما وجد رجل الامن وجد معه الغدر والخيانة والعذاب
الخاتمة
رواية شيكاغو رواية تتصف بالوصف للمكان وللشخصيات والاحداث ،اما برنامج السرد فكان حافلا بأنواع متعددة من السرديات لعل ابرزها السيرة الذاتية لشخصية ناجي عبد الصمد،ورؤية السرد لجميع الشخصيات ،والمونولوج – الحوار الداخلي- والحوار الثنائي المفعم بالافكار والنقاشات السياسية والعاطفية، كما وصلتنا بشكل جلي رؤية الاسواني التي اسقطها على الواقع الذي تولد في ذهنه ، فنيا أستخدم الرؤية من الخلف كما يعبر عنها (جان بويون) ويقصد ان – الراوي يعلم معلومات عن الشخصية أكبر من معلومات الشخصية نفسها – بصمة الاسواني واضحة على جميع الشخصيات وكان بودنا لو أستخدم الاسواني (الرؤية مع) ويطلق عليها الرؤية المجاورة تعني – معرفة الراوي لا تزيد عن معرفة الشخصيات لأنفسها -،نجح الروائي في الاخبار والاظهار واعلنت الرواية عن نفسها ، الرواية تحولت الى مسرحية فرنسية واهتم القراء والنقاد بها كثيرا لجرأتها السياسية وما تضمنته من ايحاءات جنسية ! والتساؤل المهم هل تجاوزت من الناحية الفنية رواية شيكاغو رواية الكاتب الاولى يعقوبيان؟ الاجابة من وجهة نظرنا كلا!!


















