محمد الأحمد
ربما مرّ بها العشرات من الصحافيين الكبار، واعطوا تقريرهم المُفَصَلْ عن تلك البلاد التي خرج من رحمها “جوزيف ستالين”، ولكنهم لم يذكروا كما ذكر الصحافي الحصيف “أحمد عبد المجيد” بانها قد قاومت كل المِحَنْ التي مرت بها، وبقيت محافظة على هويتها العميقة، وارثها الثقافي العظيم. فالمرور يتطلب ارثاً ثقافياً شخصياً، لان الصحافي المقتدر عندما يبتغي المرور عبر مدينة “القوقاز”.. حتى يتسنى له قراءتها بعين ثاقبة، يتطلب منه كشفاً دقيقاً عن تفاصيل ثناياها الخبيئة، خاصة تلك الجوانب التي تكون في خلفية المشهد الذي يراه السائح العابر، فثمة تفاصيل أكثر اهمية، تختفي وراء الصور الظاهرة، مثلما النصوص البليغة تخفي وراءها نصوصاً، اخرى، بمعانٍ اكثر عطاءاً. ذلك المرور لن يتحقق الا عبر عين مثقف حريص على كشفها كمدينة ثقافية، لها بطانتها عبر التاريخ، وينعكس على سمات المدينة من خلال مساحات جغرافيتها الموازية لمساحاتها المعرفية. ولابد ان يكون العابر خلالها مدركاً بغيته بدقة سطوره. “ولا يحصر النص في المعنى الواحد الثابت، وانما يؤكد على ثنائية المعنى، اي انه يفترض ان الكلام له معنيان احداهما المعنى الظاهر، والاخر هو المعنى الخفي أو المستتر، أو الباطن “. فبات يتخطاها بعمق حساس ليكشف الى قارئه مدى ما امتد بصره في المدى العميق، حيث كشف عن ذلك الباطن الذي ليس من السهل كشفه بيسر. فغالباً ما تكون القراءة الدقيقة لتلك المدن مفتاحاً لبوابة فهم المكان بعد الوصول اليه، والمدينة لها من العمق التاريخي العميق، حيث كانت “القوقاز/ القفقاس” في التاريخ مقراً للصراعات السياسية والعسكرية والدينية والثقافية والعمليات التوسعية عبر القرون. يوم كان إقليم “إيروان”، و”نخجوان” في ما وراء القفقاس كإقليمين حدوديين من الدولة “القاجارية” يرزحان تحت راية العلم الفارسي، وبقيا حتى بداية القرن التاسع عشر، وبعد صراع دامي اقتطعت الإمبراطورية الروسية المنطقة من مخالب “القاجاريون” القساة، ووفق معاهدة “تركمانجاي” سنة 1828م، فقد أَلحَقَ البلاد وعبادها المزيد من الاهوال، والكوارث، والغزوات المدمرة. اذ تمكن كتاب “جورجيا.. لؤلؤة القوقاز” من ان يصف لنا تلك البلاد، دون ان يفوت على القارئ، اي تفصيل، وكأنما يأخذه في تفاصيل مشوقة، (ان النظر الى مشهد الكنسي الشاهق يوحي بالهيمنة المطلقة، فيما يوجد معادل آخر لا تبدو المصادفة فيه غير محسوبة، وهو مبنى الاتصالات الذي ينتصب برجه الشاهق فوق قمة جبل مقابله تماماً- ص34).. كأنما اراد القول بانهما اعلى سلطتين في البلاد، فبرج الكنيسة رمز لسلطة الدين، وبرج الاتصالات رمز سلطة المعلومة، فجاء الكتاب محققاً متعة المثابرة للقارئ، حيث لم يكن قراءة سياحية فيها ملاحظات ذكية بل جاءت لغرض المقارنة بين بلده “العراق”، و”جورجيا” كأنما تقول ليت بلدي ان يكون فيه تلك المساحة الاجتماعية المتماسكة، ليعبر ازمته الإقليمية، التي حشر فيها ليس لسبب واحد، كالطمع بالبترول وثرواته الطبيعية العديدة التي يمتلكها، ولكن موقع العراق الجغرافي، جعل البُغاة يعملون جاهدين لتحقيق مكسب الأرض، على حساب شعبه، والصراع عليه لبنية مسيرة اطماعهم الكبيرة. تلك المقارنة المشفوعة بمعرفية دقيقة. كأنما وظيفة الفن هي اعادة الاكتشاف، عبر دقة النظرة الثاقبة الى الاشياء بهدف تحريك الذهن الانساني، ووجدانه، حتى ينتفض على سلبيته. ربما استنكاه البهجة للتعامل مع عالم جديد، والتي نستشعرها عند مواجهة الجمال، والاستمتاع به.. هي من اعلى درجات الحكمة التي يمكن ان يصل اليها الانسان. كأنما بوصف العنوان الجانبي للكتاب “انطباعات صحفي عراقي عن أرض الينابيع الساخنة”، اعادة اكتشاف لقراءة واقع ثقافي ذا صلة وثيقة بعصر التحولات الكبيرة على تلك الارض حيث بدأت الديانة المسيحية.. بإطاحة المجوسية، نتيجة لاعتناق جورجيا وأرمينيا المسيحية)، لوقوع المنطقة ما وراء القوقاز بعد ذلك لحكم العرب بعد الفتح الإسلامي لفارس، فحافظت “أرمينيا” وغالبية “جورجيا” على مسيحيتهما، وقام الملك الجورجي “ديفيد البنّاء” بإخراج المسلمين من المنطقة. فلم ينس الكاتب المقتدر اثر تلك الصراعات العنيفة، ويكشف سلبياتها على طبيعة المجتمع، باحتجاج واضح، وكأنما كان يقرأ “أنثروبولوجيا” الشعب الجورجي، ويواصل مقارنتها بدقائق اجتماعية كانت تلحق به، في بلده “العراق”، لأجل تدوينها. بقلم كاتب يتمتع بموهبة فذة في الوصف التفصيلي، كأنما اراد له ان يكون في سرد روائي متين، ووعي حاد تجاه ما يختار من الصور التي اراد وصفها، فوصفها بدقائقها معطياً اياها متعة كبيرة. “النثر بناء معماري فني حي، وليس مجرد زخارف على الهامش فيظهر الخيال بوصفه علامة ثقافية على جسد الطبيعة، اذ ان الخيال وان كان يستمد مادته او صوره المادية من الطبيعة؛ الا انه يتعامل معها على نحو يتجاوزها فيه اذ يشعر بنوع الألفة والحميمية ازاء الصور الطبيعية التي تتميز بثراء الاشياء ” فـ(حرمان يجعل العربي عموماً مستعداً لقطع الاف الكيلومترات للظفر بإمرأة-ص25).فاكتمل على اعادة قراءة لما يحدث في عراق اليوم، من سلبيات ادارية، وما آل اليه الدمار المتتابع الذي يتقصد البنية الانسانية العراقية بكل رموزها، فـ(كم تتحمل الدول من تبعات او اثار الانهيار؟ فاذا كان نسيجها متيناً امكنها تجاوز المحنة بحكمة عقلائها ووضوح الهوية الوطنية لمن يتولون مسؤولية وضع الامور في نصابها او تعديل مسارات الاعوجاج، قبل الانحدار الى الهاوية-ص 43).. كأن تلك الانطباعات عن ارض الينابيع الحارة هي (عودة) العراقي بالنظر الى ما آلت ايه اوضاع بلده، فتلك الاخطاء ادرجت امامه، (فالجبال مكسوة بأشجار الصنوبر والبندق، خلافاً لما هو سائد مثلاً في جبال كردستان العراق التي تمتد كسلاسل وتشمخ في سموات المدن، الا انها تبدو جرداء تعوزها الرعاية- ص 38).. انه لم تكن رؤية بلاد اخرى فالخيال الادبي هو ايجاد الواقع بالكلام، هو الرسم بالكلمات.. كما يؤكده “غاستون باشلار”..
كائن بشري
ولعل التاريخ المتشابه للكائن البشري يعيد للأذهان، اهم النقاط التي جعلت من “جورجيا” بلاداً سياحية، واعتمدت في معظم ايرادها على السواح العابرين.. ففي السابق قد (اُحتلت المنطقة بعد ذلك من قبل السلاجقة، العثمانيين، المغول، الممالك والخانات المحلية، مرة أخرى فارس، حتى قدوم الاحتلال الروسي. وأستسلموا سريعا لروسيا ليضعوا شمالي القفقاس بين فكي كماشة في الحرب “الروسية/ الشركسية”. واستمرت المجازر حتى وقعت معاهدة سلام بين “روسيا” والمملكة “الجورجية” الشرقية “كارتلي كاخيتي” معاهدة “جورجيفسك” عام 1783م، ثم توحدت ما وراء القوقاز في كيان سياسي واحد مرتين خلال الحرب الأهلية الروسية (جمهورية جنوب القوقاز الديمقراطية) من 9 أبريل 1918 حتى 26 مايو 1918، وتحت الحكم السوفياتي (جمهورية ما وراء القوقاز السوفيتية الاشتراكية) من 12 مارس 1922 حتى 5 ديسمبر 1936م). في العصور الحديثة، كان ما وراء القوقاز ساحة قتال بين الإمبراطورية العثمانية، إيران وروسيا، حتى تم احتلاله أخيراً من قبل روسيا. فكانت “جورجيا” الشهيرة ببساتين انواع الاعناب، والمنتجة لأطيب انواع النبيذ، فهي ذاتها التي انجبت الرجل الفولاذي، والذي حُنِطَتْ جثته بجانب جثة “لينين”، والذي قد عاش في منزل مساحته لم تتجاوز (40)م، وبقي كمتحف مهمل يؤوبه من يدرك قوة ذلك الرجل الذي قضي عمره متجهم الوجه، وهو الذي نقل الاتحاد السوفييتي بقوة بحكمته من حال الى حال آخر اكثر تماسكاً، وشحن بلاده بمعامل عظيمة مصدرة لمعظم ترسانات اسلحة الى العالم الثالث، جامعا تلك الدويلات تحت جنحه، ورهن اشارته. كذلك الموسيقى الجورجية (تكتنز ارثاً رائعاً من الموسيقى والغناء)، التي تمتاز، بسرعة الايقاع، واستخدام الآلات النحاسية النفخية، هي اكثر فخراً عندما وهبت الى البشرية “آرام خاتشادوريان” مؤلف موسيقي أرمني، ولد في تبليسي وتوفي في موسكو. نشأ في عائلة تعشق الموسيقى الشعبية، وترعرع في مجتمع قوقازي مشبع بالتقاليد الشعبية الموسيقية الذي اعطى اجمل المقطوعات الموسيقية، وتجعلها البلاد التي لا تنسى.. من أشهر مؤلفاته (غايانيه, سبارتكوس، رقصة السيوف)، (ان هذه اللغة هي القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع القلوب والعقول ويحول بغير وقوع توترات نفسية، فالعالم يستطيع ان يتفاهم دون حواجز، اذا ما اختار الموسيقى لغة اليه- ص 37). ويمكن ان نقول بان للكتاب حسنات اخرى عظيمة قد اعطتها جملته البليغة “الحل يكمن ليس بالانتظار؛ بل بالغوص في الأعماق والذهاب الى قاع المدينة-ص 61″، فخلف الشوارع الحديثة تقبع ملايين البيوت الفقيرة الآيلة للسقوط.