حواضن تتجدد ونماذج من أصول ضاربة في الحضارة
اللغة العراقية وإبتعاد السردية
شوقي كريم حسن
تمهيد اولي
اولا :ـــ اجد الزاما عليّ أن اوضح عن هذا الموضوع الذي يبدو مثيرا للجدل انما يحاول الاشارة الى وجود لغة مساندة الى اللغات العراقية الأخرى ولا يريد ان يعزل اللغة العراقية عن اخواتها برغم عدم تسليط الضوء على هذه اللغة او ثمة من يعتقد انها تستند على الحرف العربي مثلها مثل الكثير من الغات التي استخدمت الحرف العربي ولكنها طوعته لمجموعة قوانينها وتصويتها وإشاراتها ألدلالية لااريد ان اقلل من اللغة العربية وقيمتها او ادعو الى شطبها او الامتناع عن استخدامها ، فهذه لغة القرآن الكريم، وبهذا فهي لغة السماء، ولايمكن ان تمنع اللغة العربية وجود لغات اخرى تستند اليها او تاخذ من منابعها ، ونحن نعرف ان اللغات الحية تاخذ من مثيلاتها مثلما تعطي الى لغات اخرى، لكني ومن خلال مبحثي هذا حاولت الاشارة والتنبيه الى حقيقة ان ثمة لغة عراقية، لغة تشبه الكلدانية العراقية، والكردية بشقيها العراقية، والمندائية، والاشورية ، والتركمانية، وغيرها، لغة تعتمد المقومات والالفاظ الخاصة وهي تمتد الى عمق عميق في التاريخ، وقد ظلت متاصلة في وجدانية ناطقيها برغم ما لحق بهؤلاء الناطقين من محاولات التشويه او النداء بأن تلك اللغة انما هي جزء من اللغة العربية، او ان بعض منها فارسية الاصل او تركية.
وقد قال البعض بهندية بعض الكلام، ولااجد ثمة ضير في هذا ما دمنا نعمل ضمن قواعد الاستمرار الحضاري وانتقال اللفظ ومقابله من زمن الى اخر ومن وطن الى اخر مع بعض التعديلات والاضافات سواء في المعنى ام الدلالة، وهذا ما مرت به لغتنا العربية عبر تاريخها الطويل، فلقد تعطلت بعض معاني القرآن الكريم من خلال عدم الاستخدام وظلت اسيرة التفاسير والكلمة معناها، ومثل هذه الاشارة لاتضعف اللغة بل تجعلها اشد تماسكا ودفاعا عن وجودها الانساني وهذا ما فعلته العربية، اذ اعتمدت على الجديد الوافد ، او الجديد المبتكر شعبيا، او المتبنى وهو الاتي من الاخر دون المساس باصولة، وهذه واحدة من اهم مميزات اللغة العربية وأسباب نجاحها وديمومتها، ولو ظلت تعتمد على اللفظ القرآني، لوجدناها تنحسر الى اكبر حد يمكنها الانحسار إليه ، ولسوف اعود الى ما تعني اللغة العراقية تحديدا، ولم احاول اثارة مثل هذا الامر الان؟ اثمة ضرورة فكرية او نفسية تجعلني اقوم بهذا البحث المضني والجميل معا، وأنا العارف ان هناك من يعارض، بل ومن يحاول اسقاط فكرتي بكاملها تحت باب ان الدارجة العراقية ليست بلغة، ولهذا اشير الى ان المصطلح المستخدم واضح الابعاد والدلالات ، لا اعني باللغة العراقية العامية المأخوذة من العربية والمحرفة بعض الشيء لضرورات النطق او التصويت او الرمز والدلالة، بل ثمة لغة لها مصادرها التاريخية، ووجودها الحي، وأن انحصرت عند جهتي العراق الجنوبية والشمالية تحديدا، اي بين مدينة البصرة جنوبا وسهل نينوى شمالا، وهذه اشارة الى ان اللغة العراقية تعمقت ونشأت في كنف الحضارات السومرية والبابلية والاشورية، وأنها ظلت تقاوم تلك المتغيرات المتتالية ، ما قبل الفتح الاسلامي، حيث وجود الدويلات المحمية بوصايات فارسية ، ورومانية وغيرها، وعند هذا الحد اود ان اطلق السؤال الذي قد يثير بعض الجدل، والحقيقة هذا ما اريد فعلا وارغب فيه، كانت دويلات الغساسنة والمناذرة وسواها تعتمد اللغة العربية بمحدودية زمان ومكان هذه الدول، وكان مركز الحكم الفارسي في المدائن يستخدم اللغة الام اي الفارسية القديمة، وليس ثمة اثر في جنوب العراق يشير الى ان سكان الاهوار وتوابعها قبل تأسيس البصرة والناصرية وواسط وفيما بعد العمارة كانو ا يتحدثون العربية، وما كان عرب الاهوار تحديدا حتى بداية الفتح العربي الاسلامي قد عرفوا العربية كما عرفوها فيما بعد، والاشارة هنا الى ان عرب الاهوار الممتدة عبر مساحات مكانية تشكل نصف مساحة الجنوب العراقي ما كانت ترتبط بتلك البلدان بتجارة او استخدمت كأسواق للتبضع والاتجار ، بل كانت محميات مكتفية بذاتها تعتمد مصدرين مهمين هما الزراعة وصيد الاسماك وتوابعه، حتى اننا نجد الكثير من الحكايات والتواريخ تشير الى ان سكان الاهوار كانوا لايقربوا القرابين للإلهة دون السمك والشعير والحنطة، وهما غلال الجنوب حتى الان، والسؤال ماهي اللغة التي كان يستخدمها اولئك الاجداد، وماهي اثارها ان وجدت كلغة ظلت مستخدمة لمئات السنوات ان لم نبالغ ونقل لآلاف السنوات، هل ضاعت مثلما ضاع سكان الجنوب بعد الفتح الاسلامي، ام ثمة انهزامات داخلية جعلت الشخصية الجنوبية تنكمش الى الداخل دون ان تدافع عن ذاتها العامة فراحت تدريجيا تتبنى دون ان تقصد وترغب اللغة الوافدة مع القرآن، بحكم تعلقها الحلمي بالخلاص الرباني الذي وفره القرآن للفقراء اكثر مما وفره لغيرهم، وأهل الجنوب العراقي ، ومنذ جلجامش الذي لم يترك ولدا لابيه ولا بنتا لامها اكثر اقوام الارض تعرضا للجوع والفقر والفاقة والامراض والفتك المنظم وغير المنظم ، وبهذا الانصهار الذي حدث بهدوء وبطء ضاعت اللغة الجنوبية العراقية التي كان يستخدمها الاجداد تالدا عن تالد، ام انهم فعلا كانوا يستخدمون لغة العرب او الفرس او غيرها، وهذه الاحتمالات لا يوثقها التاريخ ولم اجد ثمة من يقف عندها اطلاقا.. اين يمكن ان نجد الحقيقة اذن، وما الذي يمكن ان نفعله لتوضيح مقاصد الغياب او التغييب المقصود لهذه اللغة التاريخية التي اخذت الحرف العربي مثلها مثل غيرها من اللغات التي طالها الفتح واندمجت تحت لواء الحضارة الاسلامية واصبحت جزء منها ، بل هي الجزء المنتج للعقل وجدله والفنون والاداب واصول اللغة والفقة الاسلامي، اين يمكن ان نجد بقايا تلك اللغة العراقية القديمة، اللغة التي كانت سائدة دون ان تتمكن اللغات الاخرى الاستحواذ عليها وابادتها؟ هذا هو المدخل الذي يجب ان نتوافر على وجوده من اجل الوصول الى الغاية الاساس.
اللغة بوصفها وعاء حيا
اللغة تعرفيا، هي مجموعة اصوات اشارية تتحول الى تصويت لفظي يعطي لهذا التصويت معاني متعارف عليها.. وهذا التعريف الذي اتبناه شخصيا دون الاستناد على مصادر تعرف اللغة واصولها، اجد فيه الاقرب الى غاياتنا البحثية الان؟
في الجنوب العراقي، مثلما في سهل نينوى وتوابعه ثمة لغة تشارك الحياة العراقية العامة وجودها رغم محدودية المتكلمين بهذه اللغة، لكنها موجودة ومؤثرة وفاعلة، ولاتزال تدافع عن وجودها الارثي بقوة الانتماء الى عراقيتها وان استندت في بعض دفاعاتها على اللغة العربية والقرآن الكريم وسواهما، لكنها تتخذ من المعاني الملفوظة غير تلك المعاني التي تأخذها اللغة العربية ، معاني تشعر معها بعمق تاريخها واصولها، ولسوف اترك سهل نينوى قليلا، لانه يثير الجدل المعرفي فعلا، واتجه صوب الجنوب العراقي ، وتحديدا صوب اهوار ميسان والناصرية والبصرة ، ما الذي يمكن ان نجده هناك ؟ ثمة اقوام اختلطت اجناسهم، حتى غدوا بلون سمرة الطين، واخضرار مساحات الماء، ادمنوا العزلة ، واستساغوا وحدتهم الجغرافية، حتى ان اكثرهم يعيش ويموت دون ان يخرج من الهور طوال عمره بل اتخذ سكان هذه المدن اماكن لدفن موتاهم اسموها ( اليشن) واليشان تل مرتفع يتخذ مقبرة، وقد وجد الاثاريون الكثير من اللقى والاشارات داخل هذه المقابر، وهذه اشارة الى ان تلك اليشن امكنة استخدمت منذ قديم الزمان، وأن اسمها ظل مستخدما منذ العصر السومري حتى الان دون ان نجد له جذرا في اللغة العربية او اللهجات العربية فيما بعد، وتعني كلمة ( يشان ) المرتفع، او البعيد او الباقي، فلم لم يأخذ سكان هذه الاهوار اسما اخر من العربية مادامت قد اخذت منهم الكثير من العادات والتقاليد، لابد وان هناك توابع جعلت هذه الكلمة تواصل رحلتها عبر التاريخ دون ان تجد لها مكانا واضحا في القواميس العربية، وان وجدت بعض الاشارات فانما هي اشارات خجلة لا تبوح بالمصدر وتوابعه وتاريخيته، من اليشان اود الانطلاق بكم الى رحاب 5200 كلمة قاموسية حية لاتزال حتى الان تستخدم في هذه الارض وقد اتسعت استخداماتها بعد الهجرات المتتالية الى المدن لتاخذ ابعادها النفسية داخل هذه الذوات المهاجرة، بل وتؤثر في بعض مسارات اللغة العربية دون ان تجرأ اللغة العربية على تحويلها الى بطون قواميسها مثلما فعلت مع الكلمات الاتية من الاخر نتيجة استخدام العلوم والتكنولوجيا، ظلت هذه الكلمات الرديف الامثل، والوافي للتعبير عن ذات الاهوار وجنوبية الصوت، عملت هذه الكلمات عملتها في الذات الجمعية العراقية، حتى ابتدع اصحاب اللغة العربية لفظا يؤطر وجود هذه الكلمات ، واقنعونا بأن ثمة كلمات عامية، وهي المتداولة وقداخذت من اللغة العربية وتحورت ولوي عنقها مع الايام، والمتابع لهذه الكلمات يجد انها لاتخضع للجذر الثلاثي الذي تعتمده اللغة العربية في اكثر مواضعها، ولا تعتمد التصريف الذي تستخدمه العربية في الماضي والمضارع والامر، بل ولا تستند الى قاعدة الافعال الشاذه في اللغة، اذ لاتخضع ا لى الفعل الرباعي او الخماسي برغم قلته، فمن اين جاءت هذه الاصوات، وكيف ظلت تلاحق افوهنا الجنوبية حتى الان؟ لابد وأن ثمة سر في الامر، سر يتوجب ان نصل اليه من اجل استكمال وجودنا الوطني العراقي الحقيقي دون المساس بالوجودات الانسانية المرافقة الاخرى. في اللغة لابد من ان يكون اللفظ معتمدا على امر مهم وهو وجود اللفظ الى جانب المعنى وبينهما الاشتقاقات المأخوذة لتوضيح الدلالات المستخدمة، شرط ان تطابق هذه الدلالات الاصول العاملة واظهار ما بقوة القول من فعل لهذا عملت الاشتقاقات بكثافة داخل العقل الانساني العربي، واللغة العراقية ظلت تمكن مستخدميها من نفسها بقوة الاستمرار غير ابهة بأقفاص المعاجم التي صارت الان تعيش بنصف قلب ونصف رئة، ونصف لسان، لقد ماتت مئات الكلمات داخل تلك القواميس، ولم يعد ثمة فائدة من وجودها الحياتي وأخذت العربية اللفظ الاجنبي بحروفه لتصيغه صياغات عربية وتسمية تلطيفا التعريب ، والامثلة كثيرة جدا، واعتقد انها لاتحتاج الى كثير من البحث ، يقول ابو حيان التوحيدي في كتابه ( الهوامل والشوامل) نحن ايدك الله لانترك البحث عن المعاني في اي لغة كانت ، وباي عبارة حصلت، والعربية شأنها شأن سائر اللغات تقتبس المعاني وتولفها حتى تصبح جزء منها.: وما أعني الألفاظ مختلفة باختلاف اللغات وان كتبت بذات الحرف وصورته كما هو الحال في الفارسية والكردية والهندية وغيرها ، واعتقد ان هذا المفهوم ينطبق تماما على اللغة العراقية المستخدمة في الجنوب حتى الساعة ، وقد طورت هذه اللغة معاني الفاظها لانها حاولت الدفاع عن ذاتها الاجتماعية اولا ومن ثم اظهرت حرصها الثقافي بعد ان وعت مهمة وجودها التاريخي ، ولا اعتقد ان قاعدة اختلاف اللسان تنطبق على ما هو مستخدم في هذه الرقعة الجغرافية لان الفاظ كل لغة حية حياة خاصة بها ، وعلاقتها ببعض اللغات المجاورة ربما تكون بعيدة او قريبة بحسب حساسيتها الاجتماعية والثقافية، وقد حددت اللغة العراقية وجودها الاستمراري من خلال الفعل الصوتي فقط بعد ان انهزم المصوتون لفظا باتجاه اللغة العربية وصارت معقل معارفهم وتدويناتهم لعدم قدرة اللغة الام الاخذ بزمام المبادرة لضيق القاموس المستخدم وعدم التعاون من اجل تطويره مثلما حدث مع القاموس العربي الذي صار يلغي ويستقبل كل ما هو جديد، لماذا ابتعد السارد العراقي عن استخدام تلك اللغة.. بل واعتبرها احيانا عن عمد او بدونه لا تشكل اهمية لدية برغم انها تسكن اطماره الارثية وانه قادر على احياء موروثاتها وجعلها داخل انساق السرد، مستفيدا من وجودها داخل انساق السرد الشفاهي في جنوب العراق،؟ الاجابة تبدو عسيرة، وتشكل ارتباكا نفسيا لدى الكثير من الكتاب الذين يمارسون السرد، لانهم اعتقدوا ان هاتيك اللغة انما هي من الملفوظ الدارج الشعبي، وان لا يصح التعامل معه بوصفه معينا لغويا قائما بذاته، وهذا ما اعابه نجيب محفوظ على من سبقوه من كتاب القصة فراح يستخدم الدارجة المصرية بخليطها الفرعوني والعربي، وقد رسخت هذه التجربة لدى المتلقي المصري والعربي الكثير من الالفاظ غير العربية والمنحدرة من اصول فرعونية مصرية، ولا اجد ان في ذلك ما يعيب ، مادام محفوظ قد فهم لعبة القص واراد توسيع قاموسه الاجتماعي الاقرب الى النفس الاجتماعية المصرية الشعبية، وقد افادت الاحياء الشعبية وموروثاتها نجيب محفوظ فائدة جمة، قد يحسدة الكثير عليها، حتى تمكن اخيرا من ان يحول رواياته الى ما يشبه التاريخ الاجتماعي لمصر والاحياء التي اتخذها مكانا لمنطوقاته السردية، فيما ظل الكاتب العراقي منذ النشأت الاولى حريصا على عدم الاقتراب من اللغات الاخرى او حتى متفهما دورها النفسي داخل السياقات الاجتماعية فراح يتابع الازقة والاحياء الشعبية ليسقط ملافظة العربية الفصيحة على لسان الفقراء والمعدمين والاتين من القرى البعيدة والارياف، وصارت السردية العراقية تبتعد عن فكرة تلقي الشارع، لانها انساقت بكل ثقلها وراء الاراء التي ترفض التعامل كتابة مع غير الملفوظ العربي المصدر متصورة ان الاستخدمات الغوية الاخرى قد تسيء الى اللغة وتضعف القص، وهذا ما تعرض له فؤاد التكرلي ، حين قدم ( الرجع البعيد) الى دار الرشيد لغرض طبعها، فما كان من الخبير الا ان كتب( انها مكتوبة باللهجة العامية، وانها تسيء الى الغة العربية وتنحط باللغة الى ما لانرغب،) ولم ينتبه ذاك الرقيب وهو قاص متميز الى ان التكرلي انما اراد تقريب الدارج المفهوم للحفاظ على روح الشخصيات وكنوناتها الاجتماعية، حيث بدأت الرواية بجملة اشكالية ، جعلت مترجمة الرواية فيما بعد تقف عن هذه الجملة وبعض من الحوارات التي بدت امامها وكانها طلاسم مبهمة( عابت هل الشكول) ولو حاولنا تحويل هذه الجملة اليوم الى العربية الفصيحة لوجدناها غريبة تقف خارج السياق القصصي، ومع هذا الانعزال تمت الابتعادات، واقتربت اللغة العراقية من عزلتها السردية التامة، وقد سيطرت بعض المفردات من هذه اللغة على ما اسميناه الشعر الشعبي عزلا، محاولين عزل الشعبي عن اللغة العربية، واسقاط اللغة العراقية الام بين براثن العيب والانقاص، هل ثمة شعر شعبي والاخر غير شعبي.. هل كان المتنبي مثلا شاعرا غير شعبي لانه كتب باللغة العربية، وهل كان الجواهري برغم تعقيداته الجملية المأخوذة من بطون القواميس شاعرا غير شعبي، ام ثمة دلالات اخرى، انساقت اليها فعالياتنا الابداعية دون ان ندري؟ الامر لايحتاج الى كثير فهم ، ولا الى كثير من التأمل، كل ما نحتاجه، البحث في قاموس اللغة العراقية، معرفة سياقاتها التاريخية ومدى رضاها واندغامها داخل النص السردي وخاصة تلك السرديات التي تتناول الجنوب بكوارثه واليات موته وجنونه، من المضحك جدا ، ان يخاف السارد من نقل شطر من بوذية او تحويله الى اللغة العربية، ليظهره وكأنه ثوب الامبراطور، فارغ من تكوينه ومعانية الجمالية والدلالية، ومن المضحك ان تجعل الفلاح الذي يسكن الاهوار يقول ـــ حسنا تعال نتحاور؟
ومن غير المفيد ان تجعل المرأة الريفية التي ادمنت التفخيم والحزن ، أن تقول ـــ ماالذي تريده مني .. انا لاارغب فيك؟
والحزن يلف ارواحنا حين نقرأ هذا الحوار المصنوع بقصدية اللغة العربية دون البحث عن البديل العراقي ـــ امي هل انسكب الماء؟ ….. لكم تبدو الحياة داخل النصوص السردية مضحكة حقا لانها لاتنتمي الى حقيقة الوجود وتعيش فصاما مثل ذاك الانفصام الذي يعيشه الكاتب العراقي نقسه فصام يومي، يتحدث بعراقيته، وينام بعراقيته، ويغازل اجمل الاناث بعراقيته، ولكنه وعند لحظة الانهمار، يهرب الى اللغة العربية، التي تحاول تطويع ذاته من اجل الانتصار عليه، معلنا عجزة، وانكساره، بل وربما ضياعه النفسي ايضا، وثمة من ينادي في اعماقه ــــ هذا ليس أنا.. بل هناك عن عراقيتي اخر يجب البحث عنه واسترداد وجوده الانساني، ليس ثمة في الجنوب، فلاح واحد يقول عن الكاع، وهي هنا غير مفردة القاع التي تعني السقوط والانفلات، بل الكاع بوقعها الموسيقى ، الارض، واذا ما قالهاالبعض فهي خارجة عن سياقاته اليومية ، او هي دخيلة عليه نتيجة مؤثرات بيئية واضحة ، لماذا يخاف السارد العراقي الرجوع الى ذوات شخصياته الحقيقية..؟ لماذا يظل معلقا واياهم في وسط زحمة اقوال قد لاتؤسس لوجودهم الابداعي، ولربما هذه واحدة من تلك الهفوات الكثيرة التي ابعدت الادب العراقي عن متلقيه وجعلته اسير النخب الصالونية الخاصة، غابت ملامح ما يمكن ان نسميه الادب الشعبي العراقي، مثل ذاك الادب في امريكا الاتينية وفرنسا، وتركيا ، ادب لايعيش فصاما بينه وبين لغته ، لكم ان تتصوروا غربة هذا الحوار داخل رواية عراقية ــــ ((ايها الرجل ماذا تظن ،هل انا صنم لايشعر ، كي تتركني متى ما شئت ،وتعود الي متى ما رغبت ، ان قيدتني التقاليد وبقيت الى جوارك ، لن تجبر روحي على الخلود في سجنك ،سنوات من التجاهل هل تعوض عنها امسية واحدة زائفة واحدة ابدا… اعذرني(( فكرت رنين )) لقد اتيت متاخرا .. ذلك القلب الذي حاول سنين عديدة كسب ودك ،كف عن المحاولة الان وما عاد يشكل فرقا عندي ان احببتني ام لا انك فقط رجعت متأخرا ) تلك غربة ما بعدها غربة، وضياع الذات المتلقية وسط ذات لاتنتمي اليها وهذا ما لم يحدث قط عند كتاب العالم في مجال السرد، نجد التطابق بين الشخوص المقدمة سرديا، والمتلقي الذي يعرف ان الكاتب ينتمي اليه ، مثلما تنتمي الشخصيات التي تحاول ايصال كمية البواعث والرسائل الجمالية اليه، اذن كيف يمكن ان نردم هذه الهوة العميقة الغور، وليس امامنا غير مسارين لاثالث لهما البته، مسار البحث عن اللغة العراقية الحقيقية بكل موجوداتها الارثية، وهذا لايعني اهمال العربية او تركها ، ولا يعني الغور عميقا فيما نسميه الدارجة العراقية خطأ، فلقد استخدم الطيب صالح في موسم الهجرة الى الشمال، كل التوصيفات السودانية وقد نجح واذهلنا واثار الكثير من الجدل حول اهمية هذا الاستخدام، فيما فشلت روايات اخر ولم تستطع تقديم ذات الموضوعه لانها ابتعدت عن واقعها الحقيقي ومنها رواية سهيل ادريس ( (الحي الاتيني،)) لم كل هذا ، ؟ اما الامر الاخر فيبدو صعبا للغاية ومستحيل التنفيذ لانه يخص المتلقي ، والتلقي حجر العثرة في الشارع العراقي منذ زمن طويل حيث اهمل جيل الرواد هذا الامر وراحوا يحاولون جر المتلقي اليهم دون المعرفة المسبقة بانشطار الذات العراقية بين لحظات التلقي وفهم الرسالة ولحظات العيش الحقيقية ، لقد نجح ( يشار كمال) في روايته ميميد الناحل ، حيث تحولت الى نص شعبي شفاهي فيما بعد لانه استخدم التركية اليومية، التركية التي يريدها الفلاح والعامل والمثقف التركي، وهذا هو المطلوب ، ان ينتبه السارد العراقي ، اذا ما اراد النجاح ان يهبط من علياء نزواته الابداعية من اجل احداث المتغير الجمالي لدى متلقية!!
اللغة .. والاستخدام… والحديث
منذ زمن ليس بالقليل، وأنا اتابع الافواه في مدن الانحدارات الجنوبية، وعند اولئك الذين ابقتهم السنوات من اجل الدفاع عن حقيقة وجودنا العراقي،ولم تخفهم الحروب ولا الاوجاع فظلوا يهاجرون ومعهم لغتهم العراقية الخاصة، تلك اللغة التي لم تنقرض ابدا لان ثمة حواضن تتجدد ولسوف اقدم لكم نماذج غير تلك التي اخذتها العربية من اصول سومر وبابل واشور، واستحوذت عليها قرآنيا حتى صارت الجزء الحي والمهم منها، وهذا حق طبيعي مفتوح امام اللغات، ولكني اجده مغلقا بكاملة امام اللغة العراقية ، بالكامل، لقد استخدم الشاعر مظفر النواب، لانه عاش وسط الاهوار لزمن بعض مفردات تلك اللغة ودلالاتها ومساراتها الوجدانية، فتحولت قصائد النواب، في لحظة ما الى طلاسم لايمكن حتى لكبار مثقفينا حلها، واستخدامات النواب لهذه المفردات المنتقاة من اللغة انما كان توظيفا اثاريا ليس غير، ثمة الكثير من الادهاش في الصور البلاغية تتوافر عليها اللغة العراقية، ولايمكن نقلها او تحديث جمالياتها التأثيرية حين نهم جدلا تحويلها الى اللغة العربية مثلا، فكيف الامر مع اللغات الاخرى التي تريد معرفة تلك الانثيالات الشعرية التي شكلت الوجدانية الارثية للعراق كاملا فيما بعد، يبدو ان النواب كان فطنا، وكان عارفا ان هذه اللغة لسوف تقربه من متلقيه، مثلما تميزه بين اقرانه الذين اضاعوا خطواتهم بين ما نسمية الدارجة العراقية او الشعبية التي دمغت الشعر العراقي بدمغة لايستطيع الخلاص منها ابدا، الشعر شعبي بطبيعته وطبعه، المتنبي كان شاعرا شعبيا، تتناقل الدواوين والاسواق شعره، ولوركا شاعر شعبي، لاتزال اسبانيا حتى الان تردد ما كتب في الحواري والشوارع والبارات والمسارح الكبيرة، ومثله رسول حمزتوف، وغيرهم كثير، ونحن نعتقد حتى الحظة ان شكسبير، اعظم كاتب مسرحي انجبه التاريخ، في الوقت الذي ترى فيه لندن واحد من كبار كتابها الشعبيين الذبن قدموا الفهم الانكليزي اللغة، برغم الاشارة الى ان ثمة انشطار في اللغة الانكليزية يشبه هذا الانشطار الذي نعيشه، اظن لقد وصلت الى المشكلة الحقيقية، مشكلة استخدام لغتنا الام ، الجميلة لتكون رديفا لما نحن عليه، دون الانتباه الى ما يقوله النقاد وغيرهم من المدافعين عن سلامة اللغة العربية، واقولها صراحة، ان عليهم ان يدافعوا عن الوافد من الاخر اما العراقية فهي لغة تأخذ من العربية حرفها وتعطيها بعدا نفسيا ودلاليا اخر، فيما تظل الكلمات الاتية من الاخر تتوافر على ذات المعاني لانها عصية على الاندغام الكلي مع العربية، الحقيقة العلمية تقول ان ما ورد في القرآن الكريم من افعال رباعية هي ثمانية افعال فقط، فيما تعتمد اللغة بكاملها على تصريف ثلاثي وهذا ما يقوله الرازي وسبويه وابن جني وابن قتيبه الذي قال ان استخدام لفظ رباعي من غريب الافعال ( وسوس.. حصحص.. عسعس،، دمدم، زلزل ، زخرح ،، كبكب ، وبعثر ) هذا كل ما موجود في اللغة العربية، فيما توجد في اللغة العراقية من الافعال التي احصيناها حتى الان 5200 فعل ، لابد ان نورد بعضها ، ونفتح باب البحث على مصراعية امام السارد العراقي مـــــن اجــــــل اكتشاف مــــــا خفي عنا ولايزال مستخــــدما حتــى الان .
حرف الباء، بحلق.. بحرث .. برجم… بربخ.. برمك.. بركس .. برطل وغيرها وانا هنا اوجز الكثير
حرف التاء:ــ ترتخ، تركم ، تلتل ، تمبل ، تكتك ، تنحّ ، تلفس، تنحر
حرف الثاء ، تعول ، ثغبر،
حرف الجيم :ــ جرجر، جكجك ، جربز ، جرذم ، جكنم .. جنبد ، جندل / جعمر، جعمص ، جبجب ، جلفظ ، جعن.
حرف الخاء :ــ خرخش، خردل خنفس ، خشخش ، خشش ، خلبص ، خربص، خنجر ، ، خربط خنزر ، خرمش ، خنخن .
حرف الدال :ــدرعم دستر دسمل دعم دعمث دربن دهرب دعبل وغيرها
حرف الذال :ــ ذبذب..
حرف الراء :ــ ربرب رندج رصرص رعبل ركرك رسمل رغرغ رمرم
حرف الزاي :، زاغل زحلف زنبر زعبل زغلط زربن زامط زقزق زنجر زنجل زحج زقنب زلوت زنكن زوبل
وان تابعتم معي باقي حروف الهجاء العربية لسوف تجدون الكثير منها وهي مستخدمة بشكل حي وحقيقي . والسؤال الذي اود اثارته ، ما الذي يمنع السارد العراقي، والشاعر العراقي، من استخدام تلك اللغة الخاصة الى جانب اللغة العربية، ؟!! اثمة مانع انساني ، ام تراه الخوف من ان يقال عن النص انه غارق بشعبيته مثلا،؟ ليقل القائل ما يقول ، فهذه لغة حية بحسب القوانين اللغــــــوية العالمية لانها تجــــاوزت الحــــد المقبول دوليا لتصنيف اللـــــــغات وهو 2500 كلــــــمة فقط .
اكرر ثانية ان هذه الاشارة لاتعني ابدا الدعوة الى اهمال لغتنا العربية، ولاتعني محاولة تجنبة اللغة، او حصرها في تلك المفردات ، وان كنت اجد ان ليس ثمة من مانع يمنع فقد كتب احد كبار الكتاب رواياته من خلال لغة لاتتجاوز عدد الفاظها الالف لفظ فقط وهي محاولة منه لاحياء روح التاريخ وعظمته؟ وايجاد بدائل قد تكون موجودة في اللغة العراقية هي غير موجودة في اللغة العربية التي تزاد بعدا عن منابعها تحت ضغط المنتج العقلي الصناعي والتجاري والسياسي ، بديل من لغة ساندة تحبذ الام وتقدس حضورها الجميل دون اعلان موت الاقدم الحي !!
المصادر
المعجم الفلسفي … ج 1 الدكتور جميل اصليبا
مختار الصحاح .. الامام الرازي طبغه 1965
– بعض ماهو شعبي وهو فصــــيح .. عمود اسبوعي ليوسف نمر ذياب مجلة الف باء
التراث الشعبي والتاريخ .. فهيم عبسى السليم
– متابعات شخصية للمحكي في جنوب العراق وسهل نينوى الاشوري
– ملحمة جلجامش .. الاستاذ طه باقر
– قاموس اللغة السومرية.. دار الشوؤن الثقافية العامة
– الرجع البعيد رواية فؤاد التكرلي …. وغيرها.



















