العودة إلى ما قبل أوسلو
عبد الحسين شعبان
هل ستفضي المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية “الجديدة” إلى إعمال مبدأ تقرير حق تقرير المصير، باعتباره ركناً أساسياً من أركان القانون الدولي المعاصر، وحقاً مركزياً من حقوق الشعوب، في منظومة حقوق الإنسان، ولاسيّما الحقوق الجماعية الثابتة وغير القابلة للتصرف؟
السؤال ظلّ مطروحاً منذ اتفاقيات أوسلو العام 1993، ولاسيّما بوصول ما سمّي مرحلة الحل النهائي إلى طريق مسدود، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، (العام 2000) وقد دفع القائد الفلسطيني ياسر عرفات حياته ثمناً لعدم التنازل عن القدس وعن حق العودة وقيام الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة والقابلة للحياة، وذلك بعد حصار استمر قرابة ثلاثة أعوام، حيث قامت السلطات الإسرائيلية، باستخدام جميع الوسائل لتصفيته بما فيها ما تردّد من دسّ سمّ إليه؟.
لم تبق دولة في العالم تمارس العنصرية سوى “إسرائيل” كسياسة ثابتة إزاء الشعب العربي الفلسطيني، حيث تواصل تنكّرها لحقوقه العادلة والمشروعة، ولاسيّما لحقه في تقرير المصير، وهو ما أكّده مؤتمر ديربن حول العنصرية العام 2001، فبعد إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي هيمنت فيه الأقلية البيضاء على البلاد ما يزيد عن ثلاثة قرون ونيّف من الزمان في إطار استعمار استيطاني إحلالي عنصري، أجريت أول انتخابات لكل الأعراق والإثنيات وعلى أساس صوت واحد لمواطن واحد، وفاز نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الذي يمثل الأغلبية السوداء في العام 1994. ولعلّ تقرير المصير المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، باعتباره أحد المبادئ الآمرة في القانون الدولي والمعروفة باللاتينية بـ Jus Cogens أي الملزمة، كان قد أصبح رديفاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 والمعروف بقرار تصفية الإستعمار الكولونيالية، الصادر في 14 كانون الأول (ديسمبر) العام 1960.
وكان قد انعقد في الجزائر (العاصمة) مؤتمراً بمناسبة الذكرى الـ 50 للاعلان العالمي لتصفية الاستعمار (الكولونيالية)، وقد حضره نخبة متميّزة من زعماء وقادة حركات التحرر، إضافة إلى أكاديميين وباحثين ومفكرين كان لي شرف حضوره والمساهمة في تقديم بحث عن ديناميكية حق تقرير المصير، ومثلما كان صدور القرار العام 1960 حدثاً بارزاً، فإن انعقاد المؤتمر بعد 50 عاماً كان حدثاً هاماً أيضاً، للمراجعة والنقد واستشراف آفاق المستقبل.
قاعة قصر الأمم التي انعقد فيها المؤتمر، لها تاريخ عريق أيضاً، فهي التي شهدت تسليم الرئيس كنيث كواندا رئاسة القمة الأفريقية للرئيس الجزائري هواري بومدين في شهر أيلول (سبتمبر)1973، وهي القاعة ذاتها التي جمعت شاه إيران محمد رضا بهلوي ونائب الرئيس العراقي حينها صدام حسين خلال القمة الأولى للبلدان المصدّرة للنفط، حيث توّجت الوساطة الجزائرية، ولاسيّما جهود الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة (وزير الخارجية حينها) بالنجاح.
وصوّرت الكاميرات آنذاك عناق ” الأخوة الأعداء” مع الاعتذار لكارامازوف، حيث تم التوصّل إلى توقيع إتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 بين العراق وإيران، والتي أدت إلى إنهاء الحركة المسلّحة الكردية حينها مقابل تنازلات قدّمها العراق إلى إيران، في شط العرب بقبول خط الثالويك، لكن تلك الإتفاقية بذاتها أصبحت نقطة توتر جديدة تُضاف إلى العُقد التاريخية بين البلدين، وهي ما تزال محطّ أخذ ورد، ونقاش وجدال ونزاعات وحروب قاربت أربعة عقود من الزمان، ولعلّ فصلها الأكثر مأساوية كان الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، التي تعتبر من تداعياتها عملية غزو الكويت العام 1990 وانفلات أمن الخليج والحرب على العراق واحتلاله العام 2003.
بدأ الرئيس كنيث كواندا عميد رؤوساء الدول الأفريقية خطابه بأغنية راقصة، صفّق لها الحاضرون طويلاً، ولاسيّما إيقاعها وحركاتها، وبعدها وجّه كلامه الى الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلاّ الذي كان يجلس بمواجهة منصّة الخطابة، قائلاً: نحن ساهمنا بتحرير أفريقيا، وذلك بشيء من الحنين والكبرياء والرومانسية الثورية.(ولعلّ تلك المناسبة كانت آخر ظهور علني وفي محفل دولي للرئيس بن بيلا قبل رحيله).
ومن الجدير بالذكر إن صدور الاعلان العالمي كان مناسبة تم استلهامها لاحقاً بصدور قرارات من الأمم المتحدة حول السيادة الدائمة للدول على مواردها الطبيعية، ولاسيّما القرار الصادر في 14 كانون الأول (ديسمبر) 1962 برقم 1803 (الدورة السابعة عشر) والقرار رقم 3281 في 12 كانون الأول (ديسمبر) 1974 (الدورة التاسعة والعشرون) بخصوص حقوق وواجبات الدول الاقتصادية وغيرها.
لقد طرأت على الساحة الدولية خلال السنوات الخمسين ونيّف سلسلة من التطوّرات السلبية والإيجابية، وأهمها لموضوعنا مشاركة الأقاليم المحتلة سابقاً، والتي أصبحت دولاً مستقلة وأعضاءً في الأمم المتحدة، في تحقيق أهدافها، تلك التي لا يمكن إقامة سلام عالمي من دون مشاركتها الفعّالة، وذلك طبقاً لقرار الأمم المتحدة 566 في العام 2010، وهو الأمر الذي يواجه المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية الأخيرة، على الرغم من الرحلات المكوكية لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي زادت على العشرة إلى الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل استمرار التعنّت “الإسرائيلي” وعدم الإقرار بحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني ووضع العراقيل والعقبات أمام قيام الدولة الوطنية باستمرار بناء المستوطنات وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية بجدار عنصري وضم القدس الشريف عاصمة الدولة الفلسطينية إلى “إسرائيل” باعتبارها عاصمة أبدية لها، لاسيّما بإعلانها عن الدولة اليهودية النقية، ناهيكم عن التنكر لحق العودة والتحكم بالمياه وعدم تحديد الحدود وغير ذلك.
إن استذكار صدور قرار الأمم المتحدة 1514 مناسبة لاستعادة دور الأمم المتحدة في الستينيات وما بعدها، وخصوصاً في ظل توازن القوى الدولي وصعود نجم حركات ودول التحرر الوطني، التي كان من أبرز قادتها جمال عبد الناصر (مصر) وجواهر لال نهرو وأنديرا غاندي لاحقاً (الهند) وجوزيف بروز تيتو (يوغسلافيا)، وبانضمام ماتسي تونغ وهوشي منه وكاسترو صعد دور حركة عدم الانحياز في العام 1961، لاسيّما بعد مؤتمر باندونغ التاريخي الذي انعقد في العام 1955.
لقد أسهم صدور القرار 1514 في تحريك الضمير العالمي، مثلما شكّل منعطفاً تاريخياً في تطوير الاطار القانوني لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإنْ كان هناك إلتباساً وجدلاً بين مفهوم الشعب People ومفهوم الأمة Nation ومفهوم الدولة state وفيما إذا كانت الأقلية تشكّل شعباً؟ وهو الأمر الذي تم استدراكه بعد يوم واحد في 15 كانون الأول (ديسمبر) 1960، فصدر قرار جديد من الجمعية العامة الذي قدّم خيار الاتحاد الاختياري أو الارتباط بدولة مستقلة، للأقاليم غير المحكومة ذاتياً أو غير المستقلة.
وإذا كانت الأمم المتحدة قد أنشأت تيمور الشرقية بقرار من مجلس الأمن، وأفتت محكمة العدل الدولية في لاهاي بأن انفصال كوسوفو لا ينتهك قواعد القانون الدولي وتأسست دولة جنوب السودان بعد استفتاء شعبي، وحظيت بعضوية الأمم المتحدة، فإن تأكيد مبدأ حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني ينبغي أن يقترن بإجراءات عملية ترغم “إسرائيل” على الإقرار به والعمل بموجب القرارات الدولية، التي تمثل الحد الأدنى من حقوقه، ولاسيّما القرار 242 والقرار 338 وقبل ذلك القرار رقم 181 لعام 1947 الذي أنشئت بموجبه “إسرائيل”، وهو ما ينبغي التمسك به فلسطينياً، مثلما ينبغي على الأمم المتحدة أخذه بنظر الاعتبار، كجزء من وظيفتها ومعطىً أصيلاً من ميثاقها وأهدافها، وكي لا تذهب الجهود سدىً، بالعودة إلى المربع “صفر”، أي إلى ما قبل أوسلو.
{باحث ومفكر عربي