العائد إلى البيت العتيد

العائد إلى البيت العتيد
حزم أمتعته متفقدا بعض الهدايا ورسالة لا زالت بين يديه يتفحصها بين الحين والحين وأحيانا يقلبها كأنما يريد أن يتأكد بما ورد فيها وشبه ابتسامه تدور على شفتيه ؛وقف يتأمل تلك الوجوه التي اعتاد عليها وشاركها حياتها وطعامها وحتى مشاعرها …ابتسم له احد المارة قائلا له
-كأنك على سفر …سوف نفتقدك
ارتعشت كل أساريره وكاد يبكي أن بين هؤلاء الناس من امتلك كل أحاسيسه ومد ّله يد المساعدة وفتح له أبواب بيته فهو عندما استقر به المقام في الرقعة من العالم لم يكن يملك إلا بعض الأوراق النقدية التي جمعها بشق الأنفس فعندما أراد أن يودع أهله وبعض معارفه والذين امسكوا دموعهم خوفا عليه من الحزن وهو على سفر بعيد التفت اليهم قائلا
-أنا اعتذر منكم أجمعين …أنا لا أطيق أصوات المفخخات إنهم يصنعون منا قطعا من جحيم لا يطاق.
ثم تابع كلامه وبحزن شديد ..أحقا هؤلاء يعرفون الحياة ؟يريدون نشر العدل والمساواة والأمان بين الناس (طز) إنهم أنفسهم يذبحون الحياة .
كان شريط الذكريات يمر أمام عينيه مثل فيلم سينمائي استحوذ عليه أيام صباه كان الخوف يعتريه بين تارة وأخرى وهو يقف على ذلك المربع الفواح بعطر الورود وعبق الشاطئ القريب من موقع سكناه ..ربما هم يخدعوه ..عندما يقولون برسائلهم المتكررة …إن الحياة عادت الى مجاريها…امسك بحقيبته الصغيرة بقوه كأنه لا يريد أن تطير من بين يديه عجبا أنا لست في منطقة باب الشرقي تحرك نحو الأمام تقدم خطوة بعد خطوة أراد أن يمتحن إرادته كأن شيئا يجره الى أعماقه المشوشة ..ياه يا للوعة الماضي …يقولون لماذا تفر من البيت العتيد؟أنا لا اعرف كيف أصبح وكيف أمسي ؟ كنت أرى الناس مثل وحوش كاسرة لماذا اختلف الناس؟ كانت كل الصور تبدو لي قاتمة وكيف أنسى ذلك المنظر المرعب والأذرع والرؤوس وحتى سلال الخضروات وأشياء أخرى تطير في الهواء مدجنة بالصراخ والعويل ثم رايتهم مسرعين يكرفون الجثث ويغسلون الدماء كانوا يتساقطون مثل أوراق الخريف ينهزمون يختبئون كالجرذان في أي جحر يرونه وكان الخوف يمشي في الطرقات ..كيف أذن سأعيش هنا واقضي سنين عمري ؟كنت أفز الليل بطوله على صوت دوي أو صوت مروحية مع إنني كنت احترق من الحر فاهرب الى سطح الدار الذي صار مسكونا بشياطين المقذوفات والصواريخ العابرة المقبلة من المجهول .
نظر اليه سائق الاجره وقال له .(هل أنت بخير يا سيدي؟)كان صامتا لا يجيب كان ينظر من خلال نافذة السيارة وهي تنطلق مسرعه تخترق تلك الأشجار الباسقة والحدائق الغناء وتلك الوجوه المبتسمة وكاد يصرخ من الأعماق ليقول
-أي بيت بيتنا ؟لماذا لا يكون بيتنا مثل هذه البيوت؟
استقل الطائرة وهو ينتظر الوصول الى البيت العتيد على أحر من الجمر كان سواق الاجره ينتشرون وكان البعض منهم من بيته العتيد وصاح عليه احدهم (أنا هنا يا أخي أنت من بيتنا العتيد) اعتصرته الآلام وتململ في مكانه كمن تملكه الخجل انه يراهم ينتشرون في بقاع الأرض وكان يقول (يا للعار).
جلس متوجسا في مكانه بتلك السيارة الفارهه وهي تتوجه نحو البيت الكبير وهو ممتلئ بمختلف المشاعر الجياشة منها والخوف الذي ينتابه من قطاع الطريق جلس بينهم وكانوا صامتين كالحجر عيونهم تتحرك مثل عيون أبو بريص كان متحجرا في جلسته وكانت عيونه تتلصلص الى أمام وعلى الجانبين وكان يلعن أفكاره السوداء بين الحين والحين ثم يخرج رسالته يفتش بين السطور عن الحقيقة .
-أحقا إن الأمان يعم البيت العتيد؟
كان يضحك وبدون أن يدري سألته امرأة وبشزر …هل هناك ما يضحكك؟ كان صامتا مثل تمثال حجري وقد أكلته الحيرة ماذا يجيب هذه التي نطقت أخيرا سمع السائق يقول (لقد وصلنا ولله الحمد).
كانت الشوارع زاخرة بالمتأففين والمنزعجين والغاضبين إنهم لا يبتسمون أنهم مثل قطع تتحرك يمينا وشمالا كان العرق يتصصب منه وهو ينساب على رقبته وعينيه أراد أن يحتمي بالظل كانت الارصفه تختنق بالحاجيات والباعة…
-البيت العتيد لا يتبدل ولا يتغير
كان سائق الاجره ينظر اليه من خلال المرآة أراك تريد أن تقفز من السيارة؟رد عليه (إنني اختنق) وفجأة تطايرت الرؤوس والأذرع والأرجل وكان نصيبه رأس طفل مشوي على الطريقة الهندوسية ارتج رفي مكانه وانسكبت دموعه على وجنتيه وظهرت عليه كل علامات الحزن المستديمة …
اخرج الرسالة من جيبه وبدأ يمزقها بصورة جنونية ثم انهزم راكضاً يجر خلــــفه كل تلك الساعات التي أحياها في الديار الغريبة وكان وحش الموت يتقافز على أرصفة الشوارع وفوق الحوادث.
عبد صبري أبو ربيع – بغداد
AZPPPL

مشاركة