الشاعر الكبير باع السكائر على قارعة الطريق – نصوص – عمر فيصل
لا زلت أذكر يوم طلب منا استاذنا الكبير الدكتور عبد الوهاب الرامي، الخبير الإعلامي، حينما كنت طالبا في سنتي الرابعة بكلية الصحافة في المملكة المغربية، انجاز بورتريه عن أديب أو كاتب، فلم أجد أقرب لي من والدي ومعلمي الأول فيصل عبد الحسن.
فحاورته وأنجزت البورتريه، وقدمته إلى أستاذي د.عبد الوهاب الرامي الذي كان مشرفاً على الصحافة المكتوبة آنذاك، وحصلت على درجة جيدة، ولم أنشر البورتريه لأنشغالي بإعداد بحث التخرج والتدريب في اذاعة ميدي 1 بطنجة شمالي المغرب.
كما أن أديبنا الكبير الأستاذ فيصل عبد الحسن، لم يشجعني على نشر البورتريه بالرغم من نشري للعديد من المقالات، الريبورتاجات، الحوارات، التقارير الصحفية في الصحافة المغربية، كجريدة العلم، أخبار اليوم، جريدة القدس الدولية وجرائد عراقية أخرى عندما كنت طالباً، وكان الكاتب فيصل يطلب مني دائماً تأخير النشر حتى أتخرج، وتكتمل لدي الصورة عن الموضوع الذي أرغب بالكتابة عنه.
فما تعلمته طيلة سنوات الدراسة في مهنة المتاعب بكلية الصحافة في المغرب، أن نكون على دراية، ومعرفة شاملة بالمكتوب عنه، ومسؤولية عميقة بما نكتب، وأن يكون لنا أكثر من مصدر موثوق نستند عليه في الخبر، وهذا ما عملت به عند كتابتي للبورتريه الخاص بالأديب فيصل عبد الحسن، فعندما حكى لي الأستاذ فيصل، ما أخبره والده حينما أنهى دراسته الثانوية بتفوق بالفرع العلمي، وكان وقتها حائراً في ما يختار، فيما إذا يدرس الأدب في الجامعة أم يواصل دراسته في العلوم؟ هنا أخبره والده قائلاً، “إن الأدب لا يطعم خبزاً في الوطن العربي، وذكره بمصير بدر شاكر السياب، أكبر شعراء الحداثة في العراق، الذي أُلقيَّ بأثاث منزله في الشارع، لأنه لم يكن يملك ثمن كراء دار الموانىء في المعقل، وكانت الحكومة مغتاظة من شعره الثوري المندد بها دوماً، وكذلك الشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي كان يبيع السجائر على الرصيف ليكسب لقمة عيشه، ومات وهو لا يملك داراً يسكنها بل في دار مؤجرة سرعان ما ألقى مالكها مخلفات الشاعر البسيطة الى القمامة، حين لم يجد المال لتسديد أجرة الكراء”.
فكل ما كتبته في هذه الفقرة من البورتريه يا أستاذ شكيب كاظم، تأكدت منها من الكاتب فيصل عبد الحسن، الذي حكى لي قصة والده عبد الحسن حاجم، الذي كان يعمل حينها في الموانئ، ورأى بأم عينيه ما آل إليه أثاث بيت السياب، حين ألقي به إلى الشارع بعد انتهاء فترة الإنذار بإفراغ الدار لساكن جديد من موظفي الموانئ.
ليس هذا وحسب، فهناك من المقربين جداً الى شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب، من أكد صحة هذا الخبر، أبنته غيداء التي كانت طالبة في كلية الهندسة، ودرست مع الأديب فيصل عبد الحسن في السنة الثانية بجامعة البصرة من عام 1975، إذ روت له الحادثة نفسها، وما فعلته إدارة الموانىء مع عائلتها، من إفراغ تعسفي للدار التابعة لإدارة الموانىء العراقية في المعقل.
إذن الخبر مؤكد من جهتين جهة شاهد عيان هو والد المحاور ” عبد الحسن حاجم “، وجهة أخرى “غيداء” وهي أحد المقربين لصاحب الشأن ابنة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب.
وفيما يخص الشاعر معروف الرصافي وقضية بيعه للسجائر على ناصية الطريق، وقريباً من منطقة تمثاله الحالي القريب من ساحة الميدان، وأستدانته لما يأكله وما يحتاجه من لوازم العيش الضرورية فهي واقعة، رواها الأستاذ خالد القشطيني في أحد عواميده في جريدة الشرق الأوسط، بعددها 10579 الصادر يوم الخميس 15 نوفمبر عام 2007، وهو أيضاً شاهد عيان، إذ قال، “أول من يرد منهم الى ذهني هو معروف الرصافي الذي كنت أراه وأنا صبي صغير يقضي وقته لابساً الغترة والعقال، جالساً على حافة الطريق في الأعظمية، لا يدري من أين سيأتيه عشاء اليوم. فبالضبط كان كثيراً ما يتوقف طعامه على ما يجود به الكرام من الجيران. كانت السكائر شحيحة في تلك الأيام، أيام الحرب العالمية الثانية، واعتادت مديرية التبوغ العامة على توزيعها بالتقنين. ويظهر أن مدير المؤسسة كان من عشاق شعر الرصافي فأستغل سلطته وخصص كمية لا بأس بها من السكائر المقننة للشاعر الكبير، الذي سارع بدوره الى بيعها بالسوق السوداء ليقتات من فرق السعر”.
ولا عيب في هذا أبداً، فالعمل مهما كان بسيطاً، فهو يشرف الإنسان، ويزيده شرفاً “بيعه السجائر ” حين يزاوله شاعر كبير بقامة الرصافي، فهو دليل قاطع على رفضه التملق للحكام ليحصل منهم على أعطياتهم ومنحهم، وبقيت رقبته سامقة لا يذلها لمن هب ودب على كراسي الحكم والمسؤولية.
aوفيما يخص أستدانته الطعام، أشار خالد القشطيني الى ذلك في العمود نفسه، فذكر أن شاعرنا الكبير كان يستدين من عطار معروف في الأعظمية اسمه جمعة العطار، وقال فيه الرصافي شعراً هجائياً حين كثر دينه، وامتنع العطار من بيعه السلع الغذائية بالدين، إذ قال بحقه
عجباً لأهل الأعظمية كيف لا / يرضون جيرة جمعة العطار/ جاورته زمناً وكان جواره / في منتهى الإنصاف، شر جوار”.
أما بالنسبة لكتابة الكاتب عن نفسه التي وردت في مقال أستاذنا شكيب كاظم فهي واردة، لكنها مستهجنة برأيي المتواضع، فبالرغم من أن هناك من قام بفعلها من الأدباء الكبار كالايرلندي جورج برنارد شو، الذي اعترف في أحد الحوارات التي أجريت معه، قال : “أنه كان يكتب مقالات شنيعة عن نفسه وأدبه وينشرها في الجرائد بأسماء وهمية لمجرد إثارة القراء، وحثهم على الأهتمام بما كتب من مسرحيات وكتب، وكان غرضه إشهار اسمه ككاتب مـــــهم “.
ومما تقدم أشكر الأستاذ شكيب كاظم أهتمامه بالبورتريه الذي كتبته عن أديب عراقي مهاجر منذ عشرين عاماً من وطنه العراق في زمن قبيح، وهو أحد أزمنة قبييحة لأدباء وفنانين ومثقفين عراقيين كبار سبقوه كمحمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي “عاشا في سورية ودُفنّا في دمشق “وزكي الجابر “عاش في المغرب وهاجر إلى أمريكا ومات ودفن فيها ” والفنان التشكيلي خالد الجادر عاش ثلاثين سنة في المغرب ودفن فيها، وسعدي يوسف ” الذي لا يزال يعيش في بريطانيا “وخليل شوقي ” الذي توفي مؤخراً في هولندا “، وجواد الشكرجي وبهجت الجبوري ” الذي هاجر إلى امريكا قبل شهور قليلة” و” فؤاد التكرلي ” الذي توفي في الأردن ودفن في عمان، وغيرهم، وغيرهم، واعتب عليك يا أستاذ شكيب كاظم أن تتهم الصحفيين بسقوطهم في الأخطاء الشنيعة، والطلب منهم التروي في كتابة الخبر، وتشكك في كاتب البورتريه، وكان عليك أن تبحث قليلاً وتستقصي بعض المقربين لشعرائنا الكبار، لتأكيد الخبر وتبيان صحته، لذا سهلت عليك البحث، وقدمته لك على طبق من ذهب، واتمنى أن يضيء ردي بعض العتمة عما عاشه كتابنا العراقيون الكبار، من دون ان ترعاهم حكومة عراقية أو مؤسسة اجتماعية منبثقة من الخدمات العامة في المجتمع، كما في المجتمعات الغربية، التي يؤسسها أغنياء وتجار كبار لتعيين المبدعين، والمتميزين في أيام ضيقهم وعوزهم ومرضهم، وتتعامل معهم بحب واحترام حتى يغادروا عالمنا إلى عالم الخلود.


















