قصّة قصيرة
الشاعر البائس
يعقوب أفرام منصور
أربيل
كنتُ أحد الذين إستوقفتهم أكداس الكتب بمنظرها المغري، المنضّدة على رصيف أحد الميادين المزدحمة، أمعِنُ النظر فيها، وأقرأ العناوين، وأطالع السطور، بحثًا عن فكرٍ نَيّر، وخيال سامق، وشعور زاخر، وبيان ساحر فتناولتُ كتاب ( تهذيب الأخلاق) لإبن مسكويه، و (ديوان الكاظمي)، ونقَدتُ الكتبي ثمنهما.
وانتَحيتُ جانبًا، أُقلّب صفحات الكتابين، فأحسستُ أنّ شابًا منتصبًا بمحاذاتي يتابع الحسرات والزفرات بشكل إسترعى انتباهي من غفلتي وشرودي. فصرتُ أسترق النظر إليه بين هنيهة وأخرى. وألفَيتُه يرنو إلى الكتب المعروضة كاللهفان الظامئ، والحَرّان العاشق، وعلى وجهه غلالة من كآبة وهم، وشبح من إملاق وعَوَز؛ تلوح عليه أمارات السقام ودلائل السأم. وقبل أن أهمّ بالإنصراف، وجدتُ صاحبي ينحني ويمدّ يده إلى كُتَيّب موسوم (الفؤاد الكليم). فوقف يقلّب صفحاته، ولمحتُ عبرتين تتدحرجان على خدّيه.
إستغربتُ الأمرَ، واستحوذ عليّ شعور مكين، ما عُدتُ معه أستطيع مبارحة المكان، وألفيتُني أمدّ يدي إلى المجموعة نفسها، فأتناول الكتاب عينه الذي أبكى صاحبي. فوجدتُه ديوانًا صغيرًا متواضعًا، يُستشَفُّ منه عاطفة دفّاقة، وشعور أصيل، وخيالٌ طليق، كقوله يخاطب قلبَه : ـ
فاضت ينابيع الأسى، يا كليم
مُتْ يا شهيدَ الغدرِ متْ ، يا حليم
وقوله : ـ
فيا أيها الأشجان ،رفقًا بمُقلتي
ويا أيها الأحكام ، عُذرَكِ، رحماكِ
ويا أيها الأحزان، لِينًا بأضلُعي
بيُمناكِ داوّي، مثلما جنت يسراكِ
فظننتُ في صاحبي تحرّقًا إلى اقتناء بعض الكتب، لكنّ ذات اليد لا تُسعفه على ذلك، والتفتُ إليه قائلاً: ” ما لي أراكَ حزينًا باكيًا لهيفًا ؟” فجفلَ كأعفَرٍ ساهِم، وهمّ أن ينتًبِذَ لولا أن ربتُّ على كتفه الواهية برفق، وقلتُ : أتودّ ابتياعَ هذا أو غيرَه فلا تقدر؟ أجاب : بَلى …بِي نَهَم ومجاعة عُظمى. لكنني شريد، غريب، تائه في هذه المدينة . إني من أقصى الجنوب، وهذا ديواني، لا أملك منه نسخة لنفسي. قد هدّني السَقَم، وضعضع أركاني؛ وأحالني العشق والهوى والضَيم إلى حطام وهيكل من عظام …هجرتني شر يكة الحياة بعد أن تجشّمتُ الصعاب والعقبات لِنَيلِها، وبعد صدّي الذئاّبَ عنها، إلاّ أنها فرّت مع طفلي الوحيد، ولاذت بأكناف رجل لئيم خسيس كالذئب طبعًا؛ يتعيّش على التهريب. ومن يوم هجرانها، ما عُدتُ راغبًا في العمل الذي كنتُ اتكسّب منه. وغدوتُ زاهدًا في المباهج، مولعًا بالهم والأشجان، مسرِفًا في الحقد، مُصِرًا على الصمت حتى انقضاء الأجل. لقد تبدّد أملي في الحياة، وراح عزمي، وخارت إرادتي، وفؤادي يغصّ بالألم. قصدتُ هذه البلدة المترامية أطرافها، إبتغاء العيش، وليس معي غيرَ مئة نسخة من ديواني الصغير هذا وبعض دُريهمات. فكنتُ أبيع نسخَ ديواني لأتبلّغ باللقمة. وها انتذا تراني بالأسمال والرتوق، قد نفدت كل النسَخ، فغدوتُ لا أحتفظ حتى بنسخة لي. لا مأوى أركن إليه، أبيتُ الليالي في الجامع أو في الحدائق، والحياء يمنعني عن مدّ يد الإستعطاء. فإلامَ هذه الحال؟! ما أشقاني في حالي وأحزاني! لِمن المشتكى سواك، يا ربّ العباد؟! رحماكَ اللهمّ !
فتصدّعت جدران قلبي ، تألّمًا عليه، وانشغلتُ بما هو فيه، علّي أستطيعُ إسعافَه وانتشالَه من وهددة البؤس وقرارة اليأس. فاستوقفتُه واقتنيتُ كلّ نسخ ديوانه القليلة الجاثمة على الرصيف، وخاطبتُه قائلاً : ” إصغِ… هذي نسختك، وهذي نسختي، وما تبقّى لك ـ تسع نسخ، يمكنك بيعها، لتتبلّغَ بها برهةً من الزمن حتى يفرج الله عليك، وييسّر لك أمرك. إقلع عن الهمّ واليأس، ففتكهما بكيانك أمضى من السموم. واقصد بعصَ دُور الطباعة للعمل فيها في تنضيد الحروف الرصاصية (لينوتايب) ، فقد يحالفك الحظ، ويُكتب لك الفلاح، وتعيش العيش الشريف، وإن كان ساذَجًا.” وزوّدتُه بتوصية منّي إلى دار من دُور الطباعة، وبعنواني، ثم انصرفت .
إستدرتُ بعد خطوات، فلمحتُه ما زال واقفًا كالمشدوه مبتسمًا، كأنه غير واثق ممّا جرى، أفي يقظة أم في منام؟!
تصرّمت سنون على لقائي ذلك الشاعر المعدَم البائس، فنسيتُ كلّ شيء عنه، وسلوتُ ديوانه الصغير وقصائده، لكنه لم ينسَني. فحمل إليّ البريد ذات يوم, كتابًا أنيقًا منه، يضمّ بين دفّتيه إضمامة فوّاحة من شعرِ عبِق الأنفاس، شجيّ الأنغام، وقد وسَمَه (نشائد الأمل)، وعلى صفحته الأولى هذا الإهداء بخطّه:ـ
إلى من انتشلني من وهدة اليأس
وعلّمني كيف أقارع البؤس
إلى الذي لا أنسى صنيعَه….
وغِبّ أيام، إهتبلتُ سانحةً، وقصدتُ دار الطباعة التي أرشدتُه إليها قبل سنوات، بغيةَ الإطلاع على حاله، والإستفسار عنه ، والنحدّث إليه، فأعلموني إنه قد قضى قبل يومين فقط إثرَصعقةٍ كهربائية، داهمته أثناء لمسِه بعض عجلات وعتلات الماكنة الطباعية. فأطرقتُ واجمًا. ولما سألني أحد زملائه :” ما حاجتك عنده، وما علاقتك به؟”، أجبتُه بصمتي، وعَبرتي بين أجفاني،وقبل انصرافي واجمًا ملتاعًا، قال لي زميل آخَر من زملائه : أنظر… لقد ألصقنا صورته على هذه الماكنة … ! وطفق ينشج.
ولما بلغتُ الشارع العام، هدأتُ قليلاً، وخطرفي خاطري بيت أبي العلاء المعّري القائل : ـ
فإن أستطعْ ، في الحشر ، آتِكَ زائرًا
وهيهاتَ لي يومَ القيامةِ أشغالُ !


















