الشاعرية والذكاء

حتى هذه اللحظة ونحن غارقون بمتاهات الضلالة الشعرية ومراوغاتها وكثرة المنتسبين اليها من الدخلاء، لم نفعل منهج اكتشاف الذكاء الشاعري من خلال الضربات الشعرية القادحة، التي يتفرد بها هذا الشاعر ن أو ذاك عن  غيره، ولذلك ساهم هذا الاتجاه في تشجيع واستفحال عوامل التغييب التي ألقت بضلالها على كثير من الفطاحل والفحول والعمالقة، فأخرجتهم وحرمتهم من حق المشاركة في معيارية التفاضل  الكفائي، او  الإبداعي، عن دراستنا المنهجية لسيرة الشعراء وظروف حياتهم ظلت قاصرة، بل تخلفت الى ماوراء الوراء مسافات بعيدة، الى الحد الذي صارت فيه الموهبة الشعرية تزدوج بموهبة نقدية محايدة لإزاحة هذا الستار الصفيق الذي ظل يأكل من جرف الأصالة والتفرد  لااحد يختلف مع احد على قوة ذكاء المتنبي الشعري، او قوة حدسه المتوقد، وهذا الكلام او الحكم له وجهان : احدهما استقرائي (دراسة الجزئيات لاستنباط حكم عام)، والآخر استنباطي ( استخراج النتيجة من مقدماتها)، ا\يلتقيان في مركزية صحة الإستنتاج، فالذي قال :إن المتنبي ذكي، عليه أن يبرهن ذلك من خلال شعره وشاعريته، وعليه ان يتبع منهجا علميا في صياغة البحث، ذكاء شاعرية المتنبي من خلال دراسة شعرية محايدة، ترتب  درجات سلمه الذكائي، فهو حين يقول :

ومن نكد الدنيا على المرء

ان يرى عدوا مامن صداقته بدُّ

ذكي شعريا بدرجة معينة  ..وحين يقول :

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرامها الاجسامُ

افهو هنا ذكي بدرجة ذكاء اخرى، وحين يقول:

إذا غامرت في شرف مروم ِ

فلا تقنع بما دون النجوم

وهكذا يتم ترتيب ذكاء شاعرية المتنبي، ابتداء من أول قصيدة قالها، مرورا بأوجع قصيدة اختنق بها، وصولا إلى آخر قصيدة قتلته، لكن علينا أن نبحث عن الشهادة الأخرى لشدة ذكاء المتنبي الشاعري، وهذا البحث يجب ان يكون مكرسا بشكل خاص للبحث عن الوثائق المدرسية الأولية التي حصل عليها المتنبي، عندما كان طالبا أوليا في الكتاتيب التي تلقى تعليمه فيها آنذاك، فهي خير شاهد على توقد ذكائه وتفرده، وإذا أردت ذكاء ابي تمام، فما عليك إلا أن تتناوله من خلال قدحاته التي لم يرتق لها غيره في مثلها، حيث يقول :

وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ

لديباجتيه فاغترب تتجددِ

فإني رأيت الشمس زيدت محبة

ان ليست عليهم بسرمدِ

وقد تحمل بعض القصائد نبوءة الشاعرالتي تدلل على قوة ملكته، كقصيدة السياب التي يقول فيها (مامر عام وليس في العراق جوع)، تدلل على صحة هذا الخبر، وكذلك قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد المشهورة في حب الحسين (ع) التي يقول فيها:

تدور علينا عيون الذئاب

فنحتار من أيها نحتمي

فهي تؤكد صحة هذا المعنى، بما يعيد إلى الأذهان مقولة ( التاريخ يعيد نفسه)، وإذا مانقلنا هذه النظرية الى حاضرنا اليوم، فهي أسهل تطبيقا، لوجود تلك الوثائق المدونة، ولإستمرار عناصر الإتصال المعرفي والتسلسلي من وإلى، ولكننا حتى هذه اللحظة، لم تثرنا، أو تهمنا هذه القضية، وإنما بقينا نخبط خبط عشواء، فإذا مابرزت الينا عبقرية العصر المتفردة متنبيا، أو ابا علائيا، او إمرئ قيسيا، أو أحمد شوقيا، أو جواهريا، او حافظ نيليا .. واجهناها بأسلحة دمارنا الشامل، وقلنا هذا يسرق (ان يسرق فقد سرق اخ له)، ثم تقولنا أكثر فقلنا: هذا يقول الشعر، ولكنه ليس بشاعر، اوإنه يقال عنه شاعر لانه يحتفظ بمفاتيح (مجرشة الشعير)، والسبب اننا لاننتمي الى منهجية البحث العلمي المحايد، وانما  ننتمي الى مائدة التطفل النقدي  والبحثي .. لقد جربت تطبيق هذه النظرية سرا على (س) من الشعراء المتفردين فوجدت انه حاز على تفوق الأول منذ الابتدائية، وطيلة حياته الدراسية، وكان ذلك محفوظا بالوثائق التي لاتزور ولا تؤول، ثم اكتشفت ان هذا الـ (س) لو لم يات بال 100:100، فهو ابتكر وجاء بمئة بالمئة، فوق المئة بالمئة، ولكن المعيار  المعول عليه تغابى عن رؤية هذه الحقيقة، والعجيب ان العقول النخرة حتى هذه اللحظة لاتريد الخضوع إلى تطبيق هذه المنهجية، لأنها لاتريد أن يسحب البساط من تحت أقدامها فتهوي في قاع سحيق.

رحيم الشاهر

مشاركة