السكينة
رجارد آدمز
ترجمة: عبد الصاحب البطيحي
بعد أن لمح فيلب السكينة الملقاة بين الشجيرات الصغيرة حدث التغيير في حياته. انتقل ذهنه من الخيال الجامح الى الممكن المرعب.توقف، حينذاك، واستدار برأسه ليخطف نظرة عجلى، بعدها، تراجع الى الخلف قليلاً ـ حملق فيها، ظلَّ هكذا إذ كان عليه أن يتيقن من أنها ليست بوهمٍ.
أجل، كانت حقيقية، ولبرهةٍ بدت شكلا وحيدا قادراً على اختراق طوق رعبه الكئيب المسيطر. وقبل ذلك، كان ادراكه المرعب وطيف الألم البدني،شديد القسوة، يهيمنان على افكاره، يمثلان سلطةً قسريةً لا مفر منها. بدا الأمر كما لو أن شريطاً من الأفكار يراوده، يتكرر، بدايته كلمات ستافرد الأخيرة التي تفوه بها يوم امس:
” وبالتالي سأراك في المكتبة بعد إداء صلاة ليلة الغد. حينئذٍ لا تجد مَن تقدّم له الشكر سوى لنفسك. ” . كلمات بدت قضبان قفصٍ يطوقه. اعتبرها ذهنه شفرةً تشير الى طرد ستافرد له والى سجنه الخاص. أخلد الى السكون فتوقف سير تفكيره، لكنه سكون لم يدم طويلاً ، عاد بعده الى ما كان عليه من التفكير، فمنذ تعيين ستافرد بموقع ” التلميذ المفوض الرئيس للدار ” غدا فيلب ضحيته المفضلة، ليس كما يرى بعينه بل كذلك كما يرى جميع الناس. كان جونز يقول: ” لا يحبك ستافرد أبداً، أليس هذا صحيحاً ؟ ” ويضيف براون: ” أتقدر أن تُعيب موقفه منك ؟ ” ويروح الأثنان في غمرة الضحك. تتراكم اساءات ستافرد طوال الفصل، تتجلى سلسلةً من العقوبات الصغيرة، تتوجها عقوبة الضرب في دار الكتب. كان الألم شديداً —أشدّ مما كان يتحمله من قبل، بدا الآن واضحاً بانه سيتكرر. استلقى على فراشه ليلة البارحة لكن شقًّ عليه النومُ. لم يقدر على تناول فطوره، لم يقدر على تناول غدائه، لكنه لم يقدر أيضاً أن يخبر أحداً بذلك ما عدا جونز وبراون . هاهو الآن، اخيراً، يسير وئيداً منفرداً في وسط الغابة الرطبة خلال احدى امسيات العطلة، هاهي المدية تفجرت الآن في افكاره التي تهاوت ثم توقفت، تمثلت في ذهنهبتلك التي يشاهدها الناس في التلفاز، بتلك التي يتخلى كثير من الناس عنها الى الشرطة. انحنى، التقطها، كانت بطول قدم،نهايتها حادة جداً، وهي في غمدٍ رائعٍ. إنبثق الآن الخيال الجامح. جنح مباشرةً الى الشفرةِ. قوةٌ غامضةٌ وضعتها امامه، قوةٌ تأمره باستعمالها. كان دائم التمتع بالخيال الجامح: خيال الأنتقام، خيال الجنس، خيال السلطة الطاغية. وهو يعيش عزلةً بعيدة الغور مع تلك الخيالات. هناك صوتٌ آمرٌ مطالبٌ. متى وأين ؟ يا الهي، ينبغي علي استعمالها عند منتصف الليل، ولا أحد بمقدوره كشف — فجأةً، توقف سير تفكيره. وبطريقةٍ متأنيةٍ غيّر افكاره. لكن على الرغم من ذلك الجهد، عاودته افكاره السابقة كشيء لا مناص منه. بطبيعة الحال، لن يوظفها لتلك المهمة، أليس كذلك؟ إذن، ما الذي سيحدث إن قام بالعمل ؟لفترةٍ وجيزةٍ فقد قدرة التصور. مع ذلك ظلّ أمر واحد واضحا: سيكون هناك صخبٌ هائلٌ، اشدّ ما يكون على الإطلاق. لكن افترض أن لا احد بقادر على أن يدل عليه، ماذا سيحدثُ ؟ سوف لا يتعرض للضرب ثانيةً، أليس كذلك ؟ سيكتم الصخبُ المريعُ ذلك الضرب. سيتغير نمطُ حياته .. سيتغير كلُّ شيء . لا أحد يعرف أن لديه مديةً، ولا يمكن لأحدٍ الادعاء بذلك بعد أن يكون قد ضاع مسار العمل الذي يرتأيه. بعد صلاة ذلك المساء كان قد امعن النظر فيما هو قادم عليه. استحوذت افكاره عليه بشدةٍ. لذا،عندما اراد أن يخلد للنوم، صعد السلم، تعثر بشخصٍ دون ان ينتبه. ” آه، عليك اللعنة يا جيفوس، لماذا تعجز عن رؤية طريقك ؟ ” ” آسف…آسف… ” هناك غرفة مخصصة لكل طالب. لديه الآن غرفته.. في تلك الليلة وبعد انطفاء النور استلقى على السرير صامتاً، يغلفه الظلام، يحثُّ نفسه على البقاء مستيقظا لكنه استغرق في النوم . كانت ساعته تشير الى الثانية صباحاً عندما استيقظ للمرة الثانية، هي آخر فرصةٍ لقول: لا، نعم.. لكن نعم. مازال محتفظا بقراره وعازماً على تنفيذه. لا خسارة تترتب عن ذلك العمل.
أيحصل على السكينة ؟ ايحصل على المصباح اليدوي؟ أيحصل على منشفة حمام في المنزع ؟ فتح باب غرفته، سار بضع خطوات في الممر، توقف، أصغى الى ما حوله. لم يكن هناك أيُّ صوتٍ. (إحذر، لا بصمات ). يقف، الآن، جوار سرير ستافرد وهو نائم على ظهره، يصغي الى ايقاع تنفسه المنتظم الهادئ. أدار مصباحه، أضاء مساحة حنجرته، وبحركةٍ خاطفةٍ غرز السكينة ذات الشفرة الحادة، بالكاد أحس بها وهي تنغرز … اخرج المقبض، نشر المنشفةَ والسكينة على مساحة الحنجرة ، عاد مسرعاً الى غرفته ، اعاد المصباح الى مكانه ثم آوى الى فراشه. تذكَّر كلَّ هذا على نحوٍ جليٍّ.. , والعاقبة ؟ حسن، صخبٌ مروّعٌ، صدمةُ تجتاح المدرسة َ،ضجةٌ تعصف بالبلاد، الصحفُ، مدير المدرسة، الشرطة، البصمات. ما الهدف؟ لقد أنجز تواً هدفه. من الواضح أن لا أحد أخبر الشرطة بانه الولد الذي يقف في الجانب الاخر من ستافرد، وحتى لم يكترث ابواه عندما اخبرهما بأنه سيترك الصف.
أنا عرابّه، أنا ودود معه، أحافظ دائماً على اهتماماته، ولعدة أعوامٍ احتفظنا بصداقة متينة . في ليلةٍ من الأسبوع السابق زارني، تناول الغداء معي، أخبرني بكل ما يتعلق بأمره. قال انه غالباً ما كان يستسلم لليأس ويفكر في تسليم نفسه للشرطة. أخبرته أن يبعد عنه مخاوفه. أكدت له أن سره سيكون، تماماً، في مأمن.
حسن، أتحافظ على السرَّ ؟
ــــــــــــــــــــــ
{ روائي انكليزي. ولد عام 1920 .