الرئيس يرسم صورته ـ سمير درويش

الرئيس يرسم صورته ـ سمير درويش
الواضح للعيان أن الحياة في مصر تسير وفق قوة دفع ذاتي حر، الأخطاء الصغيرة ينتج عنها حوادث أكبر ففواجع توقف الحياة وتدمر ما لم يتم تدميره بعد، وهو قليل، دون أن يكون هناك عاقل يرى ويسمع ويقيّم ويوجّه، وهو الدور المفترض لرئيس منتخب وحكومة إنقاذ تأتي بعد ثورة عاتية، فلا الحكومة قادرة على تصريف الأمور اليومية وتوفير الحاجات الأساسية للناس، ولا الرئيس يخرج عليهم ليحدثهم حديثاً عاقلاً واقعياً صادقاً، بعيداً عن لغة الأهل والعشيرة والأحباب والأحضان، تلك الأحاديث التي تثبت ولاءه لجماعة ضيقة على حساب وطن عريق، ليس مما يقوله فيها فحسب، ولكن أيضاً من التردد والحكايات التي تصاحب إذاعة كل تسجيل، وهو ما يثبت أن الجماعة تراجع الشرائط قبل إذاعتها، تحذف وتضيف وتوجه، وربما تلوم وتوبخ
نحن إذاً أمام رجل من عامة الناس ويفترض والحال هكذا أن يدير أمور وطن بحجم مصر، تاريخياً وجغرافياً، وفي ظرف استثنائي بكل المقاييس، ربما ظن أن الأمر سهل لا يحتاج سوى خطب تصوَّر إنه قادر عليها من مشاكساته السابقة كعضو في البرلمان واستعراضاً لقواه التي تجعله زعيماً، حسب ما تعتقد جماعته أن زعامة عبد الناصر ما هي إلا مجموعة من المناظر ، فحدث أنه كان أقرب للمهرج، كلما تحدَّث سخر منه الناس وقل شأنه في نظرهم، فكان أن هتفوا ضده بألفاظ لم يقولوها على مبارك نفسه، ورسموا الجرافيتي على سور القصر الذي يحكم منه، وقذفوه بالأحجار والزجاجات الفارغة.
الذي ساعد المصريين على رسم صورة سلبية لرئيس، يفترض أنه منتخب، أن الرجل لم يظهر فجأة في سماء السياسة والوطنية المصرية، فصحيح أنه كان مجهولاً لدى عامة الشعب معلوماً لدى قطاع ضيق من العاملين بالسياسة، لكن عمله البرلماني وفي مكتب إرشاد الجماعة جعل من السهل الحصول على فيديوهات تثبت مواقفه السابقة، بالصوت والصورة، وهذه فيها الكثير من التناقض والازدواجية والكيل بمكيالين، بل والكذب الصريح المباشر يقول إن اليهود أحفاد القردة والخنازير ويرسل رسالة رقيقة لشيمون بيريز، ويدعي أن تصريحاته السابقة منتزعة من سياقها، يقول إن هذا الـ أوباما عدو ثم يؤكد هو وقادة الإخوان أن أمريكا صديق وأن مصالحها مصانة، يقول إنه عمل في وكالة ناسا ضمن برنامج تطوير الصواريخ، ثم يقول هو نفسه بعد بضعة أسابيع فقط إنه لم يقل ولم يكتب أنه عمل في ناسا. لكن تظل أكثر الصور الدالة على شخصية الرجل الذي يحكم مصر الثورة، هي صورته على منصة ميدان التحرير في الأيام الأولى من توليه الرئاسة، وهو يفتح الجاكت ويقول بصوت عال، وبملامح حاول أن يكسوها بالصدق إنه لا يرتدي قميصاً واقياً من الرصاص. فمن ناحية لم يكن الرجل يحتاج إلى قميص واقٍ وهو يعلم أن الميدان مكتظ بأنصاره، وبعضهم مكلف بحمايته ومسلح ومدرب على فنون القتال، وهو كان في بداية عهده لم تتدنس صفحته بعد حتى يخلق أعداءً يُخشى منهم على حياته، ثم إن المصريين جميعاً الذين معه والذين ضده كانوا يتمنون له النجاح حتى تستقر البلاد وتخرج من حالة الفوضى، إضافة إلى أن المسؤولين عن المنصة، من جماعته نفسها، قالوا إن الحرس الجمهوري تسلم المنصة قبل ظهوره بساعتين كاملتين لتأمينها بوسائله المتقدمة، كما أن عدد الحراس الذين أحاطوا به بشكل ظاهر ومستفز غير مسبوق، والأهم أنه ليس عيباً أن يرتدي قميصاً واقياً، والأهم أن أحداً لم يسأله. قد يُظنُّ أن الأمر عادي، لكنني أعتقد أنه كاشف عن حجم المأساة التي تعيشها مصر الآن، والتي ستلازمها طالما بقيت جماعة الإخوان في صدارة المشهد السياسي، فصورة الرئيس الذي يتحدث إلى جماهير غفيرة وجهاً لوجه هي صورة جمال عبد الناصر الذي رسخ في وجدان المصريين كزعيم شعبي أحبه غالبية الناس من الفقراء، الفلاحين والعمال والموظفين، وحتى المثقفين، لذلك تعكس صوره المختلفة هذه الثقة في شعبيته، فأراد الرجل أن يصنع صورة مماثلة تمحو الأولى، لكنه لقلة خبرته وافتقاده للذكاء والكاريزما الحقيقية لا المصطنعة بالغ في إخراج المشهد حتى بدا هزلياً بشكل كلي، ليس قريباً من الأصل الناصري العبقري في بساطته وإلهامه، بل من الصور الكاريكاتورية التي يجسدها الفنان محمد صبحي في مسرحياته الهزلية. هذه الصورة يمكن رؤيتها في تضاعيف كل الصور الأخرى رجل فقير الإمكانيات مأمور، يحاول أن يبدو زعيماً ، وهي أزمته الشخصية التي لا أتصور أنه غير قادر على تجاوزها، وأزمة وطن كامل عريق ومكتظ بالسكان يتطلع إلى حياة أفضل. كلما أوغل في الجد جلب على نفسه سخرية أكثر، كانت محدودة في البداية ثم اتسعت لتشمل الوطن والمواطنين، وهنا لست محتاجاً للوقوف أمام كل الصور، فقط الإشارة إلى صورته وهو يقرر عودة البرلمان ثم يضطر للتراجع، وهو يقيل النائب العام السابق ويتراجع، وهو يصدر إعلاناً غير دستوري ثم يتراجع، وصورته أثناء لقائه بمستشارة ألمانيا، وفي المؤتمر الصحفي الذي جمعهما وهو ينظر في ساعته بقلة كياسة.. وغيرها، أما صورة الصور فعندما خرج على الشعب يهدد ويتوعد ويفرض حظر تجوال على مدن القناة، ثم وهو يتراجع في خطاب لاحق عندما استهان أهل القناة به وبقراراته.
كثيرون في مصر يعملون على رسم صورة الرئيس في شكلها الطبيعي الحقيقي الأقرب للهزل، لكن أحداً لم يستطع أن يفعل ما يفعله هو نفسه في رسم صورته.
AZP07

مشاركة