قصة قصيرة
الخلاص
منهل الهاشمي
بعد طول تفكير وقلق وعذاب متواصلين , حسمت أمري بقرار نهائي لا رجعة عنه. توجهت للمقبرة بحثاً عن دفّان فوجدت أحدهم , رجل أسمر رُبعة قصير القامة ممتليء الجسم , قدّرتْ إنه يقاربني عمراً في منتصف العقد الرابع , كان متكئاً بظهره على أحد القبور , مادّاً ساقيه واضعاً واحدة فوق الاخرى , وهو يتمتم مترنماً منتشياً بأغنية (وَنة بيا حال والدفان يغمزلي !!). سلّمتُ عليه , ردَّ عليّ مُرحّباً بأهتمام وهو ينهض من مكانه مسرعاً , طلبت منه أن يحفر قبراً , سألني بأستغراب وهو يشاهدني لوحدي : لكن أين الجنازة ؟!!
سألته قائلاً : لِمَ ؟!
أجابني مندهشاً : كيف لِمَ ؟! حتى أحفر الحفرة المناسبة لها , هل هي لرجل… لطفل ؟!!
أجبته : هي لرجل
وأردفت بالقول : عموماً فهي قادمة قي الطريق.
عاد ليسألني متشككاً : أَأَنت متأكد ؟!
أجبته ضجراً بإنزعاج : نعم متأكد , أتظنني أمزح معك ؟!
وأستطردت مؤكداً لأحاول أقناعه : هيا أحفر القبر وسأعطيك ضعف أجرك.
نظر في وجهي متشككاً بريبة , من دون تردد أعطيته ضعف أجره. أخذ يحفر ويحفر عميقاً , وأنا أنظر بتركيز وتمعّن صوب الحفرة التي أخذت تتعمّق شيئاً فشيئاً حتى أضحت لحداً , فنظرت له بإشتهاء !!. من اللحد رفع رأسه ونظر صوبي وهو يمسح عرقه الذي سبِحَ به وسألني لاهثاً : ها قد أنتهيت من حفر الّلحد, أين الجثة ؟!!
كنت أقف على حافة القبر وأنا أَرقُبهُ بتمعّن شديد , مددت رأسي صوبه وطلبت منه الخروج من القبر , سألني وقد أرتسمت على محيّاه أَمارات الاستغراب والتعجب , وقال بشيء من الحِدّة : ماذا تقول ؟!… أَنتَ ما الذي تريده بالضبط ؟!!
أجبته وقد أخرجت رزمة كبيرة من النقود بلهجة حادة آمرة : قلت لك أُخرج وسأعطيك ثلاثة أضعاف أجورك بدل ضعفين.
نظر لي نظرة بلهاء عاجزاً عن فهم ما يحصل , مددت له يدي وأنا أكرر مشجعاً : هيا أُخرج… أُخرج.
مسك بيدي بعد تردد وخرج من الحفرة بمساعدتي , حالما خرج سلّمته المبلغ وأنا أقول له : خُذ هذه ثلاث أضعاف أجورك كما وعدتك… عُدّها إنْ كنت في شك من ذلك.
أخذ يردد نظره ما بين وجهي والنقود ثم قال : لا داعي لذلك , فشكلك يوحي بالاطمئنان والثقة. كان قد وقف قبالتي على حافة القبر , أدنيته برفق وأنا أقول : عن إذنك.
رميت بنفسي في القبر وتمددت في اللحد !!. نظر الدفان صوبي بذهول وهو يقول وقد كادت عينيه تقفز من محجريهما : ماذا تفعل… أَمجنون أَنتْ ؟!!
أجبته جاداً بثقة وأنا أعني ما أقول : أنتَ لمْ ترَ الجنون بعد… أُردُم القبر !!!
نظر اليَّ بذهول كبير , وهتفَ متشكّكاً بقواي العقلية : يبدو أنك فعلاً مجنون… أُخرج من القبر.
صرخت به من القبر آمراً محتداً بلهجة حازمة : أَلم تأخذ ثلاثة أضـــــعاف أجورك ؟!!… هيا أردمه.
إلا أنه ظلَّ على تردده وحيرته , حينما لاحظت ذلك , قلت له : إذا هذا المبلغ لم يقنعك , فأنظر خلف القبر الذي يَليك على مبعدة منك , ستجد هناك ضعفين آخرين لأجرك !!. التفت صوب ذلك القبر , ذهب اليه ومن خلفه أستلَّ رزمة من النقود !!. قلت له واثقاً : ها … أَلمْ أقل لك ؟!!… والآن بات لديك خمسة أضعاف أجورك…
وأستطردت صارخاً بقوة بعد أن رأيته واقفاً مصعوقاً جامداً كالتمثال : ماذا تنتظر ؟!!… هيا أردمه.
بعد تردد كبير وخوف وحيرة وقلق وهو ينظر اليَّ مشدوهاً مرعوباً , أخذ يهيلُ التراب عليَّ بيمناه المتغضّنة بالاوردة الزرقاء المخضرّة القابضة على الجرّافة والمرتعشة بشدة , لا والله ما كان تراباً يُهال عليَّ بل قطرات ماءٍ باردٍ كريمٍ زلال تَنُثُّ على صدري لِتُطفي لهيب أحزاني ومعاناتي وعذاباتي وجراحاتي الابدية , وقد غرق في عرقه الذي يحاول بين الفينة والأخرى مسحه دون جدوى.
وأنا أرقد في لحدي تملّكني شعور غريب وكبير بالإرتياح والإطمئنان والأمان , أين كانت منّي تلك المشاعر والاحاسيس المُفتقدة تماماً طيلة حياتي البائسة اليائسة العابسة ؟!!. كان كلما يُهيل التراب عليّ أكثر , كلما شعرت بأني بتُّ أتخفف رويداً رويداً من ثقل وعبء كاهل خوفي وقلقي وتوتري الذي يجثم على صدري كالحجر الصوّان طيلة أيامي وليالييّ الحالكة السواد , وأنّي بتُّ اتحرر منها خطوة خطوة وها أَنذا في طريقي نحو الخلاص. التراب يزداد تراكماً فوقي… والطريق نحو الخلاص يقترب … التراب يتراكم أكثر … الحفرة تَصغُر.. أملي يَكبُر … طريق خلاصي يَقصُر… الحفرة أضحت أصغر… أملي أضحى أكبر… الحفرة طُمرت تماماً… أخيراً ها قد وَأَدْتَني بالقبر … أخيراً نِلتُ الخلاص !!!.



















