البرلمان والميدان
حسن حنفي
ظل الجميع يتخوف من الذكري الأولي للثورة. هل ستمر بسلام أم سيحدث ما لا يحمد عقباه. الكل مستعد، والجميع مستنفر، وحق التظاهر يكفله القانون، والميدان مازال شاهدا علي أنه نبض مصر. والشباب قلق ويتساءل: ماذا تحقق من أهداف الثورة في عامها الأول؟ البرلمان لا يمثلهم. قاموا بالثورة واختطف آخرون ثمارها. وقد يكون هذا أحد التحولات الطبيعية في مسار الثورات، شتان ما بين البداية والنهاية، ما بين الأوائل والأواخر، أو بتعبير القدماء ما بين المتقدمين والمتأخرين، ما بين السلف والخلف. وشواهد التخوف واردة. فمازال الفلول يعملون في العلن أو في الخفاء. ومازال رجال النظام السابق في جهاز الدولة أو في الحزب لديهم السلطة والمال والتوجيه والقيادة من داخل السجون أو من خارجها. ومازال الصراع بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي بكافة اتجاهاته علي أشده خاصة بهد أن ظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية وحصول التيار الإسلامي بفصيليه علي الأغلبية المطلقة، وتحول التيار الليبرالي إلي الأقلية. وقد يرغب التيار الإسلامي السيطرة علي حركة الميدان بعد أن نال الأغلبية في البرلمان. وقد يرغب التيار الليبرالي إظهار قوته في الميدان بعد أن أصبح أقلية في البرلمان. وقد يتدخل المجلس العسكري في الأمر. ويثير بعض القلاقل سلما بمظاهرة مضادة في ميدان العباسية ليبين أن الميدان المطالب بالحد الأقصي يقابله ميدان آخر راضيا بالحد الأدني أو عنفا عن طريق بعض البلطجية والمأجورين من الباعة أو من الفلول لإثارة الشغب في الميدان، وبيان أن الأمن لم يستقر بعد، وأن الثورة قد تحولت إلي فوضي، وأن مصر مازالت في حاجة إلي الأمن والاستقرار الذي يضمنه المجلس العسكري. وفي كل الحالات التخوف من منطق السلطة والتسلط. فالحوار مازال بعيدا. والتآلف في البرلمان وفي الميدان مازال أملا منشودا. كل فريق يريد إثبات أن الحكم له بعد عام. وهو منطق الفرقة الناجية، الحق في طرف واحد، وباقي الأطراف في ضلال.
وقد تبددت هذه التخوفات. ومرت الذكري الأولي للثورة بسلام. اجتمع البرلمان. واختار رئيسه ووكيليه ورؤساء لجانه ووكلاءهما حتي ولو تم الخلاف علي المناصب بين الاتجاهين الرئيسيين في البرلمان، وانسحاب بعض الأحزاب الصغيرة التي لا تؤثر في قرار الأغلبية. وتظاهر الميدان في مليونية جديدة تنادي باستمرار الثورة وتحقيق مطالبها وسرعة تسليم الحكم للمدنيين ومحاكمة قتلة الشهداء. وأسرع المجلس العسكري بالإفراج عن المعتقلين السياسيين منذ اندلاع الثورة وإلغاء الأحكام العرفية. ولو أن رئيس المجلس العسكري لم يحضر افتتاح الدورة الأولي لمجلس الشعب، فمازال هو القوة المستقلة عن الشعب الذي عبر عن نفسه في البرلمان. ومازال هو القوة المستقلة عن الشعب في الميدان. ولم ينزل إلي الميدان حتي يلتف المتظاهرون حوله عودا إلي شعار الثورة الأول “الجيش والشعب إيد واحدة” بدلا من “يسقط المجلس العسكري”، “يسقط حكم العسكر”.
للبرلمان ميزة كبري وهو أنه تعبير عن الحكم الديمقراطي، ونتيجة لانتخاب الشعب الحر لأول مرة منذ ستين عاما. يمثل كل التيارات طبقا لميزان قواها في الشعب، في العلن وليس في الخفاء. لم تعد المحظورة محظورة. واختفي الحزب الوطني الذي كان يمثل الأغلبية المطلقة في البرلمانات المزيفة السابقة التي كانت تعرف نتائجها قبل إجراء الانتخابات. ميزته أنه ينبه الميدان علي أنه لا يكفي التظاهر في الميدان حتي تتحقق المطالب الثورية، بل من الضروري أن تتحول هذه المطالب إلي قنوات دستورية حتي تأخذ شكلا قانونيا وإلا تحولت إلي فوضي هوجاء. هو الذي يحول الثورة إلي دولة، يحقق الغاية من خلال الوسيلة، ويجسد الروح في بدن. ومع ذلك فعيوبه كثيرة منذ الدعاية الانتخابية التي تعددت وسائل تمويلها حتي نوعية الثقافة الشعبية التي تحرك الجماهير. فلم ينتخب الكثير طبقا لبرامج اجتماعية وسياسية مدروسة تعبر عن قوي الشعب ومصالحه الاجتماعية بل نتيجة شعارات دينية يسهل إدخالها في قلوب العامة مثل “الطريق إلي الله”، “دعوة الرسول” والناس تبحث عن طريق ودعوة. وربما أيضا “الإسلام هو الحل” والناس تبحث عن حلول لمشاكلها اليومية في البطالة والعلاج والتعليم والإسكان. لا يمثل قوي الثورة وفي مقدمتها الشباب والأجيال الجديدة التي صنعتها بل القوي القديمة التي كانت موجودة حتي قبل ثورة يوليو 1952 وفي مقدمتها الإخوان والوفد والماركسيون. من عيوبه أنه لا يمثل قوي التحالف التي صنعت الثورة بل الأغلبية في مقابل الأقلية. ينشغل بالصراع بين التكتلات علي المناصب البرلمانية أكثر مما ينشغل بتحقيق أهداف الثورة. وتنسحب الأقلية احتجاجا علي سيطرة الأغلبية. وينشغل الجميع بتشكيل الحكومة القادمة ومدي تمثيلها للأغلبية والأقلية. ويؤجل طريقة تعامله مع المجلس العسكري، سلطة الشعب البازغة مع سلطة الجيش التقليدية. من صاحب السلطة؟ ومن له حق إصدار القرارات؟ والشرعية لمن؟ ويؤرق الناس كيف ستتعامل الأغلبية البرلمانية مع الشعب، والقوة الثانية سلفية لا تري العالم إلا من منظور المحرم والعقوبة والمنع والتقييد في مجتمع قطع أشواطا عدة نحو الليبرالية وغير مستعد للعودة إلي غطاء المرأة والفصل بين النساء والرجال وتقييد السياحة.
ومميزات الميدان كثيرة. منها استمرار الثورة وعدم توقفها، والرقابة علي البرلمان. فهي بمثابة البرلمان الشعبي خارج البرلمان الرسمي. وهو تحذير للبرلمان علي أن السلطة مازالت للشعب، وأن المصلحة العامة لها الأولوية علي المصالح الخاصة للأحزاب داخل البرلمان. الميدان هو العين المفتوحة علي البرلمان، هو البرلمان خارج الأسوار والأغلبية والأقلية واللجان والخلافات والصراعات. ومع ذلك تكون له بعض العيوب. منها عدم القدرة علي التآلف والتوحد والاتفاق علي شعارات واحدة. ففي الذكري الأولي للثورة كانت هناك ستة مناصب لستة أنواع من الخطباء. هو في النهاية خطابة وإنشاء تعبر عن حمية القلب وليس رجحان العقل. تنقصه الخبرة السياسية والدربة التاريخية والعقل السياسي.
والحقيقة أن البرلمان والميدان ليسا متعارضين. فوسائل التعبير عن الديمقراطية متعددة وليست شكلا واحدا. الميدان هو البرلمان الشعبي، والبرلمان هو قوي الشعب وتياراته السياسية. البرلمان هو الحاضر الذي يعبر عن إمكانياته. والميدان هو المستقبل الذي يعبر عن طموحاته. البرلمان هو العقل السياسي الذي يحقق أهداف الثورة في إطار القوانين والمؤسسات والدستور وموازين القوي القائمة، والميدان هو القلب السياسي الذي يعبر عن نبض الشارع وحركة الجماهير. البرلمان هو الواقع، والميدان هو المثال، والواقع بلا مثال استسلام ورضا. والمثال بلا واقع أمل وطموح. البرلمان هو ما هو كائن وما اتفقت عليه النظم السياسية، والميدان هو ما ينبغي أن يكون، والكمال الذي يطمح إليه الجميع. البرلمان هو الممكن، والميدان هو الواجب، والممكن أحيانا يكون الطريق إلي الواجب. والواجب في الزمان والمكان هو الممكن. البرلمان هو ما يمكن عمله في حين أن الميدان هو الحقيقة كلها التي تحتاج إلي وسائل تطبيق.
ولا تظل هذه الموازاة بين البرلمان والميدان قائمة إلي الأبد. إذ يتحول البرلمان تدريجيا إلي الميدان التحاقا بالثورة إذا ما تحول البرلمان إلي أصحاب مصالح خاصة، وانغلق علي نفسه، وأصبح لا يعبر عن مصالح الناس. وتتساقط بعض تيارات البرلمان التي لم تستطع أن تحقق ما وعدت بها فانفض الناس من حولها أو تحقق ما وعدت به ولم يكن في صالح الناس. وتتغير موازين القوي في البرلمان. وتتعدل تحالفاته. أما الميدان فإنه يفرخ قوي جديدة دائما بعد أن تدخل قواه القديمة في البرلمان. وتستأنف الدورة بالمطالبة بالحد الأقصي إن لم يستطع الميدان أن يحقق إلا الحد الأدني. يظل الميدان هو الأم الولود التي تنجب الثوريين إلي البرلمان. ويظل البرلمان هو المكان الذي يتحول فيه الشباب إلي شيوخ، من مجلس الشعب إلي مجلس الشيوخ. وفي الموروث الثقافي أكثر أهل الجنة من الشباب، من الميدان، ولا ندري من هم أكثر أهل النار.
/2/2012 Issue 4122 – Date 14- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4122 – التاريخ 14/2/2012
AZP07