قصة قصيرة
الأبدية – نصوص – موسى الهاشمي
قرعت الأفكار الرأس كما لو كان الرأس صنجاً من صفيح رخص. أختل توازن الخطوات. ترنح الجسد العملاق (ستة أقدام ونصف). أوشك على السقوط . تشبثت أصابعه الخائرة بعمود كهرباء قائم إلى جانبه . ألقى كتلة جسده الضخم، على أحد أركانه الأربعة . كان العرق قد تفصد وسال على فوديَّه وصلصل على أديم ظهره . أخذت أنفاسه تتقطع. وفغر فمه وانطبق مرات لا تحصى , مثل سمكة قفزت من الماء إلى الشاطئ , كان يسعى لملء صدره بهواء عذب بما تبقى من عزم وقوة. إلا أن القدر خذله، وهو في الطريق إلـى الهلاك . كـان جســده العملاق قد مالَ إلى الجانب، مثل جدار ( تأريخي ) اقتضى أن ينهار بعد صمود قرون، ثم أنطرح جسده على الأرض مثل نخلة اقتلعتها أعاصير عاتية.
العينان قد خبتا لكنهما تلاحقان المارة، تستجديان العطف. الشارع لم يكن مقفراً , السابلة تــدور كأسراب نحل نشط في أوج الربيع . رأى أن يستعين بالمــارة بغية إنقــاذه، لكن كما لو كان دمية بالية طرحت على الأرض، ينظرون نحوه بعــين الإهمــال والجفاء والزهد. من الواضح كان بحاجة إلى شربة ماء تبل ريقه المتيبس وإلى إسعاف عاجل. بيد أن المارة ينسلون في الطرقات كالحصى المتدحرج من علو شاهق بلا وازع.مهطعين. ضاق الخناق، اشتدت المعاناة. فكر بالقبر وحث التــراب. رأى جســده ميتا ومحنطاً بخرق بيض جديدة. ثلة من الرجال يرفعونه على الأكف بعناية, ليس من بينهم احد من أهل بيته. تناوله رجل محنك، قذر متسربل بالتراب، سحنته استمدت شحوبها من وجوه الموتى الذين يدفنهم في المقبرة كل يوم. ادعى انه يتناوله برفق غير انه غرس أصابعه الملوثة بالتراب بجسده مثلما تنغرس الكلاليب المدببة . دسه في القبر العميق بصمت كما لو كان يدس خشبة متيبسة. ثم خرج؛ فبدأ الحاضــرون يســارعون إلى حث التراب فوقه بهمة عالية، يبدو.. ضاقوا ذرعاً بالسوءة النتنة!
كيف أصبح سوءة؟ لمَ التعجل في التخلص منه؟ وتساءل: الم أكن أتمطى على الأرض؟ لا يعرف لمَ فرح كثيرا بنومه في القبر، ربما لأنه كان بحاجة إلى راحة أبدية، وربما النهاية جاءت سريعة كما تمنى.. مرت بعيدا عــن ضروب المعاناة والألم. كان الاستسلام المطلق حلاً مثالياً لمثل حالته، انتظر منذ زمن بعيد جدا. خلفّ وراءه القصر المنيف والعز والشموخ وما أحاط نفسه من أسوار ورياش. لسان حاله يقول بزهد: خذوا ما تزاحمتم من أجله بالمناكب، وسفكتم الدماء الغزيرة في سبيله، كأن قصر سليمان بعيداً عن بصائركم. هكذا طويت صفحته واختفت مع الريح. استقبل الأبدية بابتسامة أخاذة، لم ترتسم على شفتيه مثلها من قبل. وهو في طريقه الأسود المدلهم إلى العالم الآخر رفست قدميه اللحاف رفسة موت أخيرة, فانزلق اللحاف عن منخريَّه . شَهِقَ . استيقظ . استنشق هواءً كثيرا , كالناجي من الغرق. دارت عيناه الكليلتان.. كل شيء، حوله، راكد، يوحي بالجمود . حسنا. إنه يبصر عقارب الساعة تتحرك، ويسمع تعاقب التروس المنتظم. تعلقت عيناه بالساعة( الجدارية) فرآها بعين دقيقة تطوي الزمن بإصرار عجيب؛ لا تكترث بما يحدث أو يجري على الأرض. كان قد أبصرها مثل طاحونة عملاقة نصبت في طريق أتسع الجميع، تسحق كل شيء بيسر؛ وسيأتي عليها اليوم الذي تتلاشى فيه هي الأخرى. وما المعاناة أو الشيخوخــة أو الفناء إلا مــن نتائجها المروعة. يا لها من قاسية، لن تتوقف حتى تقضي علينا جميعا!
زوجته انقلبت على قفاها؛ عاد الغطيط لينتشر في دائرة قطرها عشرون مترا. لا يدري لمَ اكتشف في تلك الساعة التي كان ينظر إليها أنه يبغضها، ولم يعد يطيق النظر إلى وجهها المدور المائل إلى الاصفرار! وجهها الخالي من المساحيق وشعرها الهائج مثار كره عميق. انزعج لأنه كان يقبلها باستمرار من قبل، سنون طويلة خلت يجدها في البيت كـجزء منـه قد بـلا وأسن آن أوان تغييره كبقية أثاث المنزل. فكر بأنه غير مكره على تحمل غطيطها المرتفع طوال عشر سنين ماضية، تلك كانت كافية لتحطيم أعصابه. دمدم: كفى إزعاجاً، كفى تحمل السخف!
كان الغطيط احد أهم أسباب عدم انتظام نومه، كذلك وقف وراء أحلامه الرهيبة، وما رافقه من صداع وتوتر في الأعصاب. لكزها بكوعه فانقطع الغطيط، انقلبت إلى الجانب الآخر، كرر لكزها بكوعه ألف مرة من قبل! ماذا كانت النتيجة؟ الملل التام، سئم حياته. وجد إنه غير مكره على رؤيتها كل يوم في البيت والفراش. ضاق برفقتها. كل ما طرحه كانت حلولاً مؤقتة غير ذي فاعلية. الساعة يبحث عن حل مجدِ آخر، أكثر صرامة . يضع حداً لما أثار في رأسه من فوضى. منذ تزوجها.. اللكزة تقطع الغطيط المتواصل.روضته هي على ذلك. اليوم نضجت فكرة طلاقها في رأسه. تمتم في سره: لن أحظى بنوم هادئ وأعصاب باردة ما لم ننفصل تماماً. لكن قراراً على هذا النحو سيؤلب الرأي العام، سيساهم الجميع. أعني أسرته وأسرتها وعشيرته وعشيرتها، بل كل من يعرفه ويعرفها. إذن المشكلة ستتسع دائرتها. كل هؤلاء سيتدخلون وينقسمون بين معارض وموافق. وسيحدث صراع عنيف بين الأسرتين والعشيرتين. وسيجتمع مجلس الخصوم ليقول كلمته الأخيرة : أن مسألة الطلاق ليست بسبب الغطيط بل تقف وراءه معاني أخرى أقلها توجيه صفعة لأسرة وعشيرة الزوجة وهذا يترتب عليه غرامة مالية تعادل خمسون ألف دولار، أما إذا رفض الدفع تستبيح تلك العشيرة دمه. وفي تلك الساعة لن ينقذه منقذ من القتل بطلقة طائشة. وستلجأ عشيرته إلى التهدئة وتطالبه بالنوم في حجرة أخرى للتخلص من الغطيط الذي يعذبه ويقض مضجعه كحل وسط يرضي الأطراف المتنازعة. بيد أنه غير ملزم بالنوم كما لو كان أعزبَ. لقد دفع كل مدخراته لكي يحظى بامرأة يجدها في الليل إلى جانبه. كان ذلك الــزواج حماقة كبيرة. المريع أن بعض الأمور التي لا تخص الآخرين لا تجد من يقف إلى جانبها. يعلم سيسخر منه كثيرون، لكنه أصر على تطليقها. ليس بسبب الغطيط وحده إنما نما لديه هاجس آخر أكثر خطورة وهو أن اللحاف وضع فوق منخريه بفعل فاعل. ويعلم أن زوجته تنام بعدما ينام بساعة أو ساعتين عادة. أي بعد غسل الأواني والصحون وتنظيف أرفف المطبخ جيداً. ثم تغتسل وتندس إلى جانبه دون إحداث ضجة، وإذا كان لا يملك دليلاً لا يعني هذا إنها بريئة مما حدث. المسألة في غاية الأهمية. إنها قضية شروع بالقتل. وإذا كان لم يمت في تلك الساعة نتيجة رفسة قدم أخيرة فلن ينجو في المرة القادمة. ومن باب الحذر قرر نقل فراشه إلى حجرة أخرى. لكن شكوكه اتسعت لتشمل جوانب عديدة كان قد غفلها. فقد لاحظ إنها تأتي على راتبه كله بل وأصبح يستدين مبالغ من أصدقاء مقربين؛ كما لاحظ إنها تأكل بقدر ما يأكل مرتين وتشتري ثياباً بقدر ما يشتري مرتين وتخرج إلى النزهة وتدور مع صديقاتها في الأسواق في الأسبوع مرتين. وإنها تذهب إلى أهلها أضعاف ما يذهب إلى أهله. الحقيقة اكتشف أن حياته باتت مرعبة وما هو إلا رجل مغفل!
تضاعف حجم معاناته. ويرى إنها تتكلم عبر الهاتف الخلوي على إنفراد بصوت خافت، لا يمكن سماعة حتى إذا أصغى بعناية. وذهب إلى أبعد من ذلك، كلما وجد رجلاً من أقاربها في البيت تثار شكوكه. وإذا تكررت زيارة أحدهم أوشك أن يجن ولا يكاد يمسك عن مهاجمته بشراسة. بل يفكر بأن الزائر جاء ليرسم خطة موته. وأمــام القــلــق المستمر نقص وزنه كثيراً وأصبح الصداع رفيقاً سيئاً لا ينفك يلازمنه. قال في قرارة نفسه سأعرض مشكلتي على محام ضليع.
وبعد زيارة المحامي أدركَ ان تحمل الغطيط المزعج والشكوك واحتمال موته على يدها أهون بكثير من أجور المحاماة وإجراءات الطلاق!
بعد ذلك وجد بيته قد أصبح أشبه بسفينة خائرة القوى تدور وسط بحر لجي والقبطان غائب الوعي . رأى من الحكمة وضع حد لما يجري.
ففي جلسة الصباح. وهما يشربان الشاي الساخن رسمَ على وجهه نوعاً نادراً من الصرامة. تركَ شاربيَّه يتوتران مثل جناحي طائر الباز، كما أضاف إلى ذلك صوتاً أجش، وقال:
-كان يجب أن تلاحظي كيف كان اللحاف يسد منخري!
فاجأه برد حاد لم يحسبه صادراً إلا عن امرأة جاحدة وقاسية:
– كم كررت على أسماعي هذه الجملة اللعينة! إنها جملة تثير تقززي. ان ما تكرره مفتاح حزن تسعى إلى تغليبه!
كان هجوماً يحمل طبعاً شرساً غير مطمئن، رغم ذلك فكر أن يبقيها على ذمته ويتزوج بامرأة أخرى؛ وهذا يحلله المشرع ويبيحه للمسلمين، أي يحق للمسلم الزواج من أربع نساء في وقت واحد دون تقديم مبررات.
بيد أن المرأة ستشن حرباً ضروساً من خلال طبع شرس ظل غائباً عنه طوال الأعوام المنصرمة وعليه ستكون حياته أشبه بالنار المستعرة.. عليه أن يتجاوز أوارها الحارق. أو يتلقاها بأذن صماء؛ لكن هذا يبدو مستحيلا . لن يستطيع احد تحمل صراخ زوجته الأولى، فهي تعترف بكل ما خط في كتاب الله وما جاء به نبيه حرفيا إلا هذه الآية القرآنية التي تبيح للرجل الزواج من أربع نساء. لكن الآية واحدة من أهم وسائل إقناع الآخرين وإسكاتهم. فإذا تليت ( فانكحوا ما طاب لكم من النسـاء مثنـى وثلاث ورباع فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) خرست جميع الألسن.
وإذا لم يطلق أو يتزوج فإلى متى يظل يدأب على لكزها بكوعه كلما استيقظ في سكون الليل اثر غطيطها؟ فكر بحل آخر في ذلك اليوم؛ وكما ذكر في السابق، هو أن ينقل فراشه إلى حجرة أخرى. لكن هذا سيثير شكوكها وستتهمه بالتخلي عن الفراش من اجل امرأة أخرى، ومن جانبه وجد ذلك حلاً سخيفاً سيزيد من وحشيتها وشراستها وستصبح كاللبوة الجريحة. وأمام عجزه أخذ يفكر بقتلها أو الانتحار. وماذا لو إنه خرج إلى الشارع بعد منتصف الليل وجمع الناس وصرخ بأعلى صوته وقال: أيها الناس لا أستطيع النوم نوماً مريحاً بسبب غطيط زوجتي فأجمعت على طلاقها. ماذا سيكون الرد غير السخرية والاستهجان؟ فشلت كل الحلول المتاحة. بعد ذلك بساعة واحدة رأى ان كل الحلول التي طرحها شيطانية ومتطرفة، تخلف كوارث مدمرة لا حدود لها. من الخطأ التفكير بها وهو يفكر بمعالجة خطأ ارتكبه في سن مبكرة، سيظل يدفع ثمنه طوال ما تسنت له الحياة، نسي الغطيط كما ينساه من قبل في كل مرة، وغفا ليسترسل في حلم جديد.
بعث من القبر . تلقاه فضاء واسع ، هام على وجهه، لازمته الدهشة . ما هذا؟ سبحان الله ! حدائق وأعناب، رمان وتفاح ، أيك وارف، أنهار ذات ألوان براقة تجري بهدي قادر . امرأة تنتظر على الشاطئ. عيناه تائهتان لا تستقران. عقل ذاهب. تساءل: ما هذه المرأة؟ هل هي تنتظر قدومي منذ قرون؟ جمال أخاذ يخلب اللب. كل شيء وجده أسطورة أو خرافة. كل ما صادفه لا تصدقه عين . كل ركن وكل جزء وكل شيء وضع بعناية. صار بعقله أن المرأة إحدى الملائكة. سمعها تناديه بصوت غير مسموع . تدعوه كما تدعو الزوجة زوجها والحبيب حبيبته والخليل خليلته! تمتم.. أريدها ولا أبغي غيرها. أخذت تهفو إليها كل جوارحه ؛ لكنه خائف. مرتبك، مسمر. مذهول. قادته إليها قوة سحرية لكنه غير متيقن لا يستطيع لمسها. جمالها هيولي كالمــصباح المضيء. قد ممشــوق كالمرمر، قدمــان من الكرستال الصافي المصقول بعناية إلهية ، البطن بطن مها سارح الطرف.. جرأته تمددت. الرغبة هيمنت. اقترب أكثر، مد يده ببطء لكنه خشي لمسها ، غير مصدق أنها له وحده. إنها فوق ما يتصور. نَهَضت وقطفت تفاحة وناولتها برفق . همَ بأخذها إلا أنه تردد، خافَ. النور المنبعث من جسدها يضيء ويبهر وجهه . اتسعت ابتسامتها. مدت يدها أكثر. انها تدعوه إلى تناولها. اختطف التفاحة بسرعة مضحكة كما لو كان مجنوناً. ابتسمت برقة متناهية. أشارت إلى قضمها. قضمها بنهم جائع شره. اختفت الفتاة في تلك اللحظة عن ناظريه. نسي كل ما يجري حوله وراح يبحث عنها. فجأة شعر برعشة عنيفة أضعاف ما كان يجده عند زوجته. صعق وسقط. لقد وجدها نائمة بين أضلاعه. جلس على الشاطئ في ذات المكان الذي وجدها فيه؛ جلس يقضم ما تبقى من التفاحــة بتمهل فتزداد نشوته بعد كل قضمة، شعر بلذة مضاعفة. وهو يضم المرأة المختبئة في داخله ويحتضن جسدها في صدره لكي تزداد متعته أيقظته زوجته البليدة. أيقظته من النوم ومن الحلم الجميل. مستخدمة يدها السمينة، المترهلة،الثقيلة، بما تراكم فيها من لحم وشحم . فتح عينيه بعد تلك الهزات العنيفة. صدمه ظل شعرها المنفوش المتدلي فوقه مثل خيوط الشياطين وسحنة وجهها المتسخ وثوبها المدعوك، المنحسر عن فخذيها الممروطين. وعيناها الغائرتان فامتعض وانتفض وأوشك أن يبصق في وجهها لكنه جلس وذهب إلى الحمام مثل كل يوم، ثم تحلّق حول مائدة الإفطار، وجلست هي قبالته مثل كل يوم. فبدت بعد ذلك الحلم الجميل مثل بوم يتربص بفأر خامل!



















