قصة قصيرة (1)
أم أيمن
رجعت ام ايمن وهي بالعقد الثالث من العمر محملة بعدة اكياس كبيرة وبالكاد يمكنها من حملها وتقطع انفاسها والكلاب تلاحقها وهي تنبح دون الاقتراب منها فلقد تعودت هذه الكلاب على ملاحقتها وهي تقطع هذه المساحة الكبيرة حتى تصل بيتها الذي يقع في اطراف المنطقة التي يطلق عليها اسم (حي التنك) كما يطلقون عليها تسمية اخرى (الشيشان).
وهي عبارة عن بيوت من الصفيح ومنها من الطين بارض زراعية ذات بناء بسيط غير متناسق والبيوت مترامية هنا وهناك وهذه المنطقة محرومة من كل الخدمات تماما والماء يباع لهم بـ (الجلكانات) ويحمل لهم على ظهور (الحمير) لقاء مبلغ من المال.
واغلب سكان المنطقة القريبين من اسلاك الضغط العالي المارة بالمنطقة قد تجاوزوا وسحبوا منها الكهرباء واخذ كل واحد يسحب من الثاني وهكذا ترى الاعمدة الخشبية متناثرة هنا وهناك وعليها اسلاك كهربائية متشابكة وبعضها مقطوع ومتدلي.
الا ان ابو ايمن رفض ان يفعل ذلك وفضل البقاء على ضوء (اللالة) لانارة ليلهم المظلم.
وكانت المنطقة اشبه بمقبرة للاحياء حيث يخيم عليها الظلام ولا ترى النور الا متناثرا هنا وهناك ولا يمكن لذلك النور ان يبدد ظلمه الليل الدامس في هذه المنطقة الواسعة التي يخيم عليها السكون بعد ساعة او ساعتين عند مغيب الشمس ولا تسمع سوى نباح الكلاب وصوت الرياح.
واغلب سكان هذه المنطقة هم من البائعة المتجولين وعمال البناء وقسم قليل منهم من يعمل في وظيفة حكومية وتجد ان كل افراد العائلة صغيرهم وكبيرهم نسائهم ورجالهم.
وما ان يبدأ الخيط الابيض بالافق حتى ترى الناس وهم يتوجهون الى اعمالهم ويسلكون ذلك الشارع الوحيد الذي يربط منطقتهم بنهاية (الداخل) في مدينة الصدر حاليا وما ان وصلت ام ايمن الباب حتى وضعت الاكياس جانبا وعرف ابو ايمن من نباح الكلاب ان القادمة هي زوجته ام ايمن فسارع لاستقبالها يحمل الاكياس ومن ورائه اولاده الثلاثة وكانت اصغرهم بنتا وما زالت تزحف على الارض وهي الاخرى قد لحقت بهم ووقفت عند باب الغرفة لترى ما يجري.
دخل ابو ايمن الغرفة وهو يحمل الاكياس ومن ورائه الاولاد فطرح الاكياس بجانبها ودخلت ام ايمن وهي تحمل وليدتها الصغيرة وتقبلها وتداعبها والبنت تم يدها لتلتمس وجه امها.
وما ان جلس الاب حتى جلس الجميع وكانت الغرفة كبيرة وتكاد تكون خالية الا من حصيرة ودوشك قد جلس عليه ابو ايمن والى جواره احد الاولاد اما الاخرون فاتخذوا اماكنهم على الحصيرة وعلقت بعض الملابس على الحائط وفي زاوية الغرفة بعض الافرشة والاغطية التي كانوا ينامون فيها وسلة خظراء اللون قد حدث على بعض ملابس الاولاد وكان في الغرفة شباك قد علقت عليه قطعة من القماش تم تثبيتها بالمسامير ومروحة سقفية تعمل وبضجيج وكانها تشكو عدم احالتها على التقاعد.
فقال ابو ايمن لزوجته:ـ ضل بالي عليج اشو تاخرتي فاجابته تاخرت بالسوك دا اسوك.
ثم اردفت الزوجة قائلة:ـ ها اتعشيتوا؟
فاجابها ابو احمد:ـ لا كاعدين ننتظرج
فقالت :ـ زين سويتو اني كلش جوعانة حته نتعشة سوية عالواهس.
وحاول بعض الاولاد فتح بعض الاكياس فنهرهم الاب وكانت الام قد غادرت الغرفة الى غرفة اخرى صغيرة جعلت منها مطبخا حيث صفت بعض القدور والصحون على الارض وهناك طباخ غازي بعين واحدة كذلك مطروحا على الارض وفي الجانب الاخر من الغرفة منضدة خشبية تم وضع قدور الطعام عليها.
وجلست العائلة حول صينية الطعام وكانت الام تضع صغيرتها في حجرها وهي تطعمها تارة وتاكل هي تاره اخرى.
في الوقت الذي فيه الوالد يحث اولاده على تناول الطعام وثم راحت ام ايمن تحدث زوجها:ـ اكلك ابو ايمن جبت عشرين دشداشة رجالية بس هالمرة زيدوا السعر علينه فاجابها ابو احمد مندهشا:ـ يعني بيش حسبوا الدشداشة ام ايمن:ـ بتسع دنانير ويلحكها الغسل والكوي.
ابو ايمن:ـ يعني بيش راح انبيع الدشداشة.
ام ايمن:ـ مو اكثر من 15 دينار.
ابو ايمن :ـ يله هم نعمة.
وكانت ام ايمن تشتري ثياب رجالية من (البالة) وتقوم بغسلها وكويها.. ثم تقوم ببيعها في السوق بنفسها بعد ان اصيب زوجها بمرض في القلب ومنعه الاطباء من الحركة والركون الى الراحة التامة والابتعاد عن الاجهاد فلذلك رفضت ام ايمن ان يزاول اي عمل خوفا عليه وطلبت منه البقاء في البيت لرعاية الاطفال بينما هي تحملت مسؤولية العائلة وعيشها وما كانت تحصل عليه من دنانير بالكاد تكفي لسد الايجار وادوية زوجها ومصروفهم اليومي وكان ابو ايمن حريصاً كل الحرص على رعاية اطفاله واطعامهم وتنظيفهم ولاسيما وانهم يسكنون في بيت ارضيته من الطين وكانت ام ايمن تخرج صباحا الى (سوق الداخل) لبيع مالديها من ملابس في الوقت الذي فيه قد تركت ملابس اخرى عند المكوى للغسيل والكوي لتخذها في اليوم التالي وتنزل بها الى السوق فكانت تنتقل من سوق الداخل صباحا الى سوق مريدي عصرا وما يختلط الظلام تذهب الى البيت بعد ان تاخذ معها ما تحتاجه العائلة من طعام او خضار او اي احتياجات اخرى.
وكانت ام ايمن رغم التعب الذي تعانيه سعيدة راضية لانها قد وفرت لاسرتها العيش دون الاحتياج الى احد كما انها كانت شديدة الحرص على شراء كل احتياجات زوجها من دون ان يطلب منها ذلك وبالمقابل كانت لا تشتري شيئا لنفسها ومهما يخس ثمنه.
الا ان زوجها كان حريصا على معرفة احتياجاتها فيقوم بنفسه شراء ما تحتاج له من ملابس او ادوات زينة او عطور وكان مهمتها بشكل ملحوظ ان تظهر زوجته بكامل زينتها واظهار مفاتنها بما يشتريه لها من اثواب خاصة بالنوم وكانت هي تحب هذه الخصلة فيه من انه يفكر بها ويحب ان يراها كما يشتهي.
ولقد كان هذا دأبه دائما من ايام العز التي كانوا يعيشون بها حيث كانت دارهم يمثلونها وكانها بيت وزير عندما كان زوجها تاجرا صغيرا يعمل في بيع وشراء الاثاث في المزارات. الا انه دخل في صفقة تجارية في شراء سجاد ليس له خبرة بانواعه وتعرض لخسارة كبيرة اضطر معها الى بيع سياراته وكل اثاث بيته ولم يبق معهم غير الملابس التي عليهم وهذه الخسارة هي السبب المباشر لمرضه.
وعندما ينام الاولاد يختلي ابو ايمن بزوجته ومن يراهما في تلك اللحظات ليعتقد انهما عريسين جديدين فيظلان يتحادثان بما عندهم من مشاغل وامور ويتفقون عليها ثم بعد ذلك يطلب منها الكف عن الحديث بالعمل وياخذها بين ذراعيه ويطبع على وجنتها قبلة وكانها عرفانا منه جهودها واخلاصها ووفائها ثم يبقيان حتى ساعات متاخرة من الليل يرشفون من ينابيع الحب ما يشتهون ويريدون.
وبعدها يتوسد ذراعها ويلقى براسه على اكتافها وينام نوما عميقا هادئا وكانه بذلك قد ملك الدنيا بما فيها وبالرغم من انها اصغر منه كثيراً وهناك فارق عمري بينهما يزيد على العشر سنوات الا انها تعامله معاملة خاصة وكانه طفلا من اطفالها ومرت بهم الايام وهم يكافحون من اجل لقمة العيش وكانت انذاك الحياة صعبة واكثر صعوبتها الحصول على الدينار فضلا عن قساوة العيش في هذه المنطقة فانهم لم يتعدوا على اجوائها ومعيشتها فكانت معاناتهم كبيرة بذلك واتفق الزوجان على ترتيب امورهما والانتقال الى المدينة.
وذات ليلة كانت ام ايمن تنام الى جوار زوجها وقد تعودا ان يتحادثان بامورهما وهم في الفراش فقالت لزوجها ابو ايمن اريد اكلك فد شي فاجابه : خير ان شاء الله.
ام ايمن :ـ اني حامل.. فقال بدهشة:ـ شنو؟
ام ايمن:ـ ان حمال وبالشهر الثالث ابو ايمن: الحمدلله الطفل من يجي يجيب رزقه وياه.
ام ايمن:ـ ابو ايمن موهنا المشكلة .
ابو ايمن : لعد شنو المشكلة. ام ايمن:ـ المشكلة منو راح يعتني بيه واني بالشغل.. وبعدين الطفل يرادلة حليب ومصاريف واحنة ما نكدر عليهة.. ابو ايمن:ـ ام ايمن لوكتهة الله كريم .. ام ايمن:ـ اي صدك مثل ما تكول وخيم السكوت عليهما وكل واحد منهما ذهب بتفكيره بعيدا فام ايمن تعتقد ليس من المعقول الاحتفاظ بالطفل وهم بهذه الوضعية فاكيد الاب ليس بمقدوره الاعتناء به كما يفعل مع اخوته الكبار بينما ابو ايمن هو الاخر اخذ يفكر بما سيكون عليه حالهم بعد ان يولد الطفل وكان محبا للاولاد ويتمنى ان يكون لديه منهم الكثير وكان محبا للبنات اكثر من الاولاد وتعاقبت الايام عليهم وهم على نفس الحال مع العمل والمعيشة وقرر ان يساعد زوجته بعد ان تقدم بها الحمل واصبحت بالشهور الاخيرة فكان هو من يذهب بالملابس الى المكوى وهو من يشتري الدشاديش من البالات وترك امر البيع لزوجته لانه لا يعرف كـــــــيف يبيع الملابس وقـــــــد حانت ساعة ولادة ام ايمــــن تلك الليلة من ليالي الصيف ولم يكن يملكون من الدنانير سوى دينارين فقط.
محمد عباس اللامي – بغداد