أمي يا ملاكي – نصوص – أماني سعد ياسين
” أمّي يا ملاكي
ياحبيَّ الباقي الى الأبد
ولا تزل يداكِ
أرجوحتي ولا أزَل ولد “
كانت ريم ، الطبيبة المختصة في أمراض الغدد ، تتمتم الكلمات التي حفظتها منذ كانت طفلة صغيرة على مقاعد الدراسة وهي تتذكر
تضحيات والدتها التي شارفت الآن على السبعين .
لقد نشأت يتيمة في عائلةٍ من سبعة أشقاء . كانت في العاشرة من العمر حينما خطف الموت والدها الشاب في قصفٍ صاروخي في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية .
لم تكن تتذكّر من طفولتها المفعّمة بالأحداث سوى الأيّام الكثيرة التي كانت تختبىء فيها وإخوتها الصغار تحت طاولةٍ خشبيةٍ كبيرة في زاويةٍ من زوايا المنزل وهم يلعبون لعبة الأفعى والسلّم ، ويتسابقون في هذه اللعبة على من يصل أولاً الى أعلى خارطة الطريق التي كانت تختصر تفكيرهم كلّه في ذلك الوقت ، يهبطون حيناً عن طريق الأفعى الى أسفل ليصعدوا مجدّداً الى أعلى الخارطة عبر تسلق السلّم الطويل حيناً ، والقصير جداً في أحيان أخرى .
والطريف في الأمر أنّهم كانوا يعتقدون ببراءة الأطفال المعهودة بأنّ هذه الطاولة الخشبية سوف تحميهم يقيناً من الصواريخ المتراشقَ بين الأفرقاء المتحاربين في تلك الحرب المشؤومة .
كانوا يسمعون أصوات القذائف الصاروخية وكأنّها شيء طبيعي يدور من حولهم ، طبيعي جداً كأحاديث الجيران المجتمعين عندهم ليحتموا من أذى الصواريخ لأنَّ منزلهم كان لحسن الحظ في طبقةٍ سفلية من المبنى القديم ، فكان الجيران ينزلون ضيوفاً عندهم لعدة ساعات وبشكلٍ يومي أو شبه يومي في أثناء الحرب بقصد الإحتماء من القصف الصاروخي الأعمى .
كانت ترى في ذاكرتها أمّها الأرملة في ذلك الوقت صبيةً لم تتعدّ الثلاثين من العمر حيث كانت تقوم باحتضان أطفالها الصغار كما تحتضن اللبوة صغارها . لم يكن لديها من خيار بعدما تم تهجير العائلة من بيت العائلة الكبير في القرية الى بيروت إلّا أن تعمل في خياطة الألبسة في المنزل ، حتى تُعيل صغارها ، والأهم من ذلك حتى تستطيع أن تؤمِّن أقساط تسجيلهم في المدارس الخاصّة الغالية الثمن في بيروت ، حيث المدارس الرسمية ضعيفة جداً ولا يمكن أن يحظى الطلاب فيها بالإهتمام والرعاية المطلوبين وخصوصاً بعدما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية . فكانت الأم الصابرة المجاهدة تفضِّل أن تسهر الليالي الطوال على خياطة الملابس حتى تستطيع أن تسجِّل أطفالها في مدرسةٍ خاصةٍ قريبة من منزلها .
كانت الأم تسمع دائماً من يوسوس لها من الجيران والأقرباء بأن تخرج أطفالها الأيتام من المدرسة حتى يعملوا على مساعدتها في تأمين لقمة العيش ويكونوا بذلك عوناً لها بحسب قول هؤلاء في تأمين مداخيل إضافيةٍ للأسرة بدلاً من أن يكونوا عائلاً إضافياً على كاهل الأم ، ولكن ذلك لم يكن ليثني الأم المجاهدة أبداً عن الكفاح وعمل المستحيل في سبيل تعليم أطفالها الصغار وتأمين كل ما يلزم في سبيل ذلك .
كانت الأم تعمل في السابق كمعلمة مدرسة وهي الحائزة على شهادة البكالوريا ، وهي درجة علمية مرموقة جداً ، بل لعلّها أعلى درجة قد يصلها المتعلِّم في ذلك الوقت . وكان لحديث الأم الدائم عن العلم وواجب التعلُّم الأثر الكبير في صقل نفوس أطفالها على حبّ العلم والتعلُّم ، ووجوب تحصيل العلم بكافّة الوسائل المتاحة والصبر والتحمُّل في هذا الدرب الطويل الشاق . كانت الأمّ مدرسةً لأطفالِها في صبرها وكفاحها ، ففي غالب الأوقات كانت تصِل الليل بالنهار ساهرةً جالسةً الى ماكينة الخياطة خاصّتها والجميع نيام ، تخيط وتدرز و” تلقط ” وتصلح الملابس للزبائن المستعجلين دائماً لاستلام ثيابهم . وكانت الطبيبة المجتهدة ريم تتذكر وتعي تماماً كيف كانت تستيقظ أحياناً وهي صغيرة بعد منتصف الليل أو في ساعات الصباح الأولى لترى والدتها المسكينة غافيةً على كرسيّها في حالة الجلوس وما زالت إبرة الحياكة ثابتةً في يدها تعمل على حياكة أو تطريز الملابس .
وكيف لها أن تنسى الخيط الأسود الذي كانت أمّها تخيط به الملابس السود أو البنية أو الكحلية في الليالي الحالكة الظلمة وكانت تعجَبُ دائماً أن كيف لأمِّها أن ترى ما تخيط من ملابس سود في تلك الليالي البعيدة والتي ما زالت تؤثِّر فيها وكأنّها الأمس القريب . وما إن توقظ الطفلة ريم أمّها لكي تنتقل الى سريرها لتأخذ قسطاً من النوم المريح حتى تعود وتنشط الأم مجدّداً في العمل لكي تستطيع تسليم الملابس الى الزبائن وتقبض منهم مالاً حلالاً هي أحوج ما تكون إليه بعدما تخلّى عنها من تخلّى من الأقرباء ، وكلٌّ يشكو وينعى غلاء المعيشة وأقساط المدارس والمسؤوليات الأخرى ناسين أو متناسين هذه الأم المسكينة لتتحمّل وحدها ووحدها فقط مسؤولية تربية وتعليم اطفالها السبعة بعدما هجّرتهم الحرب الأهلية من قريتهم الى بيروت .
في قريتهم لم يكونوا يوماً في حاجةٍ مادّية ، ولم يشعروا يوماً بالحاجة أو الحرمان بعدما توفّي والدهم . لقد كان لديهم ما يكفيهم من مؤونة وأقساط مدارس بل ويفيض عنهم أيضاً فقد كان والدهم من الملّاكين المتمكّنين في القرية ، وكان لديهم أربعة منازل مؤجّرة دائماً وبشكلٍ سنوّي ، وكذلك قطعتين كبيرتين من الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون والتين وعرائش العنب الممتدّة .
لم يكونوا يوماً في حاجة للمال ، ولم يكونوا يوماً في حاجةٍ الى أحدٍ من الناس ، بل ولسوء حظهم ، كان لهم عمٌ طمّاعٌ جداً كان يأخذ ما يُجمَع من مدخولٍ شهريٍّ ثابتٍ للعائلة ، من أجارات للمنازل وضمانات للأراضي المزروعة ، على أنّه الوصيُّ على الأيتام كما هي عادات القرى ، وأنّه يجمع هذه الأموال في صندوقٍ مخصّصٍ للأيتام حتّى يستفيدوا منه لاحقاً .
ولكنّه في النهاية ، وعندما تهجّرت العائلة المنكوبة بعد سنواتٍ عدّة من وفاة الوالد الشاب والمعيل الى بيروت لم يجد العم الطمّاع إلّا أن يدّعي أنّ الأموال التي كان يجمعها من القيمة التأجيرية للمنازل الأربعة إضافةً الى قيمة ضمانات واستثمارات الأراضي السنوية وما كان الوالد قد جمعه قبلاً ، وهي أمانةٌ للأيتام لديه ، لم يجد إلّا أن يدّعي أنَّ هذه الأموال المجموعة لديه قد احترقت في أثناء القصف الصاروخي على منزله وأنّ ما على الأطفال الأيتام إلّا السكوت ، والصبر ونسيان ما لديه من أمانةٍ وحقوق ! لقد ذهبت واحترقت الأمانة بحسب ما ادّعى في حينه .. وما على الأيتام إلّا النسيان !…
ولهذا كانت الأم المجاهدة الصابرة تعمل ليل نهار بل وتصل الليل بالنهار في أغلب الأوقات حتى تستطيع أن تعيل أيتامها السبعة بعدما ظلمهم أقرب الناس اليهم .
ولم تكن في يومٍ إلّا ضاحكةً مستبشرةً في وجه أطفالها لا يرون منها إلا البسمة الحنونه الرؤوفه ؛ لم يرَوها يوماً وهي تسير على غير هدى محتارةً شاردةً شرود الموتى أن كيف ستؤمِّن قسطاً هنا أو ثمن قرطاسيةٍ هناك ، ودموعها تسيل على خدّيها النحيلتين من عينين غائرتين مسودّتين من أثر السهر الطويل المضني . كانت ريم تتذكّر وكأنّه فيلمٌ تحضره من بعيد كيف حاول عمّها الظالم منعها من التعلّم ، وإخراجها من مدرستها الخاصة الغالية الثمن والأقساط في المدينة القريبة هي وإخوتها ، ليدخلها في مدرسةٍ مجانيةٍ رسميةٍ في قريتها ، وهو يجمع ما يجمع من مالٍ هو في الأصلِ لها ولإخوتها الأيتام الصغار الذين لا حول لهم ولا قــــــوة إلا التوكّل على الله وحده .
ولا يمكن لريم أن تنسى موقف والدتها المسكينة الصابرة وهي تناقش عمّها الظالم في ليلةٍ من الليالي وذلك بعد وفاة والدها بأشهرٍ قليلة حيث كانت تسترق السمع على والدتها التي علا صوتها بالبكاء وهي تقول له أنّها لن ترضى أبداً بأن تُخرِجَ أولادها من مدرستهم ، لتذهب الأم مباشرةً في اليوم التالي الى المدرسة وتشكو للمديرة المسنّة ما آلت اليه الأمور وكيف أن العم الظالم يريد إخراج أولادها الأيتام من المدرسة .
فما كان من المديرة ذات الحسّ الإنساني إلّا أن رفضت خروج الأيتام من المدرسة وتعهّدت بتعليمهم مجاناً ومنحةً بعدما لامست قسوة وظلم أقرب الناس إليهم .
وتكرُّ .. وتكرُّ مسبحة الذكريات مع ريم وهي الأم حالياً لثلاثة أطفالٍ لا تستطيع يوماً أن تنسى تضحيات أمٍّ ليست من هذه الدنيا أبداً بل هي ملاكٌ سقط سهواً من عالم الملائكة وتهيأ في هيئةٍ آدمية ليس لها من الآدمية إلّا أحاسيس الوجع ، والألم ، والوحدة في عالمٍ ظالمٍ للصغير واليتيم المسكين . لاتستطيع يوماً أن تنسى ملاكاً وقد تخلّت عن أبسط حقوقها في النوم والراحة وسهرت الليالي الطوال تخيط في حلكة عتمتها ، وعلى ضوء الشمعة أحياناً ، ما يمكّنها من إعالة أطفالها الأيتام وتعليمهم بعد ظلم وتجنّي أقرب الناس إليهم .
وكيف يمكن لريم أن تنسى كلّ ذلك وقد تنفّست واغتذَت من وجع تلكَ الليالي الحالِكات ، وهي واخوتها في سعادةٍ لم تحس أو تشعر يوماً أنّها في حاجةٍ لمالٍ أو لإنسان !..
وهي الآن طبيبة ذائعة الصيت بسبب جهاد أمِّها وتعبها وسهرها الليالي الطوال ،
وهي أيضاً أمٌّ صابرةٌ تخرّجت من مدرسةِ أمٍّ صابرةٍ مجاهدة
، تعلّـــمت منها معنى التضحية والشرف والإباء !..
أجمل أوقات ريم الطبيبة والأم حينما تضع رأسها في حضن والدتها تقبِّل وتلثم يديها المتجعدتين بفعل السنين و إرهاق وتعب الأيام الخوالي ، ولسان حالِها كان يعبِّر دائماً.
” أمي يا ملاكي.
ملاكٌ أنتِ في الأرض كما أنتِ ملاكٌ في السّماء
شملكِ الله بلطفه وعطفه
ما دمتِ ودمنا أبداً دائماً سرمداً “

















