أساطير اللهجات والمبنى اللغوي الإجتماعي للتنزيل

أساطير اللهجات والمبنى اللغوي الإجتماعي للتنزيل

هادي حسن حمودي

من القضايا التي صارت من المسلّمات في الدراسات التّاريخية والتّراثية قضية اللهجات العربية قبيل ظهور الإسلام. غير أننا نراها من القضايا التي انتابها من الزّيف الشيء الكثير بحيث ضاع في خضمّه الدّارسون، حين تناسوا أوليات شروط البحث العلمي، وأبرزها قراءة النّصوص ضمن حركة المجتمع المنتج لها. فما الذي نقل الاختلافات البسيطة إلى لغات متنافرة؟

لمعرفة الجواب، علينا أن نعود إلى فترة تصاعد الصراع بين العدنانيين والقحطانيين منذ منتصف القرن الهجري الأول، وإذكاء الخلافات القبلية التي آذنت بظهور بوادر فكرة استقرت لاحقا لدى عدد من الكاتبين قديما وحديثا، مفادها أن العرب كانت لهم (لغات) مختلفة.

وبمرور الزمن أصاب تلك الفكرة التضخم والترهل حتى سيطرت على واقعات التاريخ العربي، والتفسير القرآني والنظريات اللغوية والنحوية. وهذا نهج سهل مريح منسجم مع الجو العامّ أنذاك، والحركة الاجتماعية ذاتها، والنّوازع الشخصية، أيضا.

ولا بد أن يُقام على أوهام اللّهجات بناء آخر، يرى سحب توصيف (العربية) من قبائل عديدة، ثم تُنسب إلى أصول غير عربية، قد تكون حبشية وعبرانِية، كما في حالة قبائل جنوب الجزيرة العربيّة، أو فارسيّة وهنديّة كما في حالة قبائل العراق، أو غير ذلك في المواضع الأخرى.

على أننا نلاحظ أن أقدم نصّ شامل للغة هو كتاب (العين) للخليل بن أحمد (تـ 175هـ) ليس فيه إلا اختلافات طفيفة بين (لهجات) القبائل في معانِي لفظ هنا ولفظ هناك. وهي اختلافات يمكن أن تعاد، بكل بساطة، إلى تطوّر في المعنَى الأصلي. بل إن سيبويه الذي نقل النّحو الخليليّ لم يتطرّق إلى اللّهجات إلا في مواضع قليلة، وهي على قلّتها ليس لها شأن كبير، كحديثه عن إعمال (ما) النافية وإهمالها بين التميميين والحجازيين، وبعض الخلافات في مسائل الاعراب الثانوية فيما بين القبائل.

ومن ناحية أخرى فإن عشاق القول باللهجات يعتمدون على أمرين:

أ- القراءات القُرآنِية، وهذه من الوهن بِما لا يساعدهم على اتّخاذها مرتكزا علميّا لِما يقولون. ثمّ هم يُناقضون أنفسهم حين يعتبرون القراءات شاهدا على عمق اختلاف اللّهجات، وفي الوقت نفسه يتّخذون اللّهجات شاهدا على شرعيّة تلك القراءات! وهذا يحتاج إلى مقال خاص.

ب- رواية تقول إنّ رجلا وفد من شمال الجزيرة على أحد أمراء الجنوب، وكان هذا على قمة جبل، فقال الأمير للرجل (ثِبْ) فرمى هذا نفسه من أعلى الجبل فمات لساعته! لأنّه فهم أن الأمير يطلب منه أن يرمي بنفسه من أعلى الجبل، بينما كان الأمير يقصد (إجلس).

ومن غير أن يتمعن أولئك الباحثون هذا النّص ويحلّلوه قرروا أن العرب أقوام متعددة لا رابط بينها، وأمّا هذه اللّغة فهي مصنوعة لغرض توحيد ما يمكن توحيده!! ثم تطوروا إلى تقرير أنّ تلك الاختلافات في (لغات) العرب قد ظهرت في القُرآن، ومن هنا كثرت القراءات. أي انّهم يبنون على كثرة القراءات بناءهم النّظري القائل أنّ العرب (أُمم) و(شُعوب) مختلفة اللّغات ودليلهم على ذلك ظهور تلك اللّغات في القراءات القُرآنِية!

ولما كانت هذه الرّواية من النّصوص الأساس التي اعتمدوا عليها فلننظر إلى ما فيها من ملاحظات نذكر منها:

1- أين هو راوية النّص؟ ومن هو؟ وما مقدار الثقة بمرويّاته؟ وكم الفارق الزّمنِي بينه وبين الحادثة؟ ومن رواها له إذا لم يكن قد شهدها بنفسه؟

لا إجابة على أي تساؤل من هذه التساؤلات. فكيف يريدوننا أن نصدق بها؟

2- فلنفترض أنّ الحادثة صحيحة وأنّ هناك رجلا ذهب إلى أمير اليمن أو ملكها، وأنّ ذلك الأمير أو الملك كان على قمة جبل (لاحظ الجو المسرحي الذي يحيط بالرّواية كلها) ثم نفترض أن الأمير طلب من الرّجل أن يرمي بنفسه من أعلى الجبل، فلماذا نفّذ الرّجل ما طلب منه، وهو يعلم مسبقا أنّه سيموت؟ ولماذا لم يسأل الأمير عن السّبب الذي يحدوه للقفز من أعلى الجبل إلى الوادي، بأيّ ذنب؟ وبأيّة جريرة؟

وفجأة يتحول أمير اليمن إلى (ملك حِمْيَر) وتتحول اليمن إلى ظفار، وظفار تقع في جنوب عُمان. فاذا بالملك يقول: (من دخل ظفار فقد حمّر) أي تكلّم بلغة تلك القبيلة! ولا ندري ما علاقة هذا بما سبقه، بل لا ندري أيّ معنَى يحمله هذا التّعبير!

أما قوله (عربيّت) ووقوفه عليها بالتّاء فدليل آخر على ضعف الرّواية، فهو إما أن يحرّك التاء فيلفظها مع حركتها تنويناً أو غيره، وإما أن يقف عليها بالهاء، وهو المشهور، آنذاك، بين أهل الجنوب والشمال على حدّ سواء.

3- يبدو من مجريات الرّواية أنّها حدثت قبيل ظهور الاسلام، وأيّاً كانت المدة الفاصلة بين الرّواية وظهور الاسلام، فانّ الشواهد التّاريخيّة تؤكد أن الأوس والخزرج، وهما القبيلتان اللتان شكّلتا كتلة (الأنصار) في المدينة المنوّرة، أصلهما من جنوب الجزيرة العربية، ولم تكن (لهجتهما) ذات اختلافات تُذكر عن (لهجات) بقيّة القبائل، ومن أدلة ذلك مجيء وفود القبائل المتنوعة إلى المدينة لتدخل الدّين الجديد، وهي قبائل من الشمال والجنوب. كما انّ لهجات تلك القبائل (إن وجدت) لم تكن غريبة على أهل المدينة، لقد كان القوم يتكلّمون بلسان واحد، قد يكون ملوّنا بعادات نُطقية لا ترقى لأن تكون لهجة، ناهيك عن أن تكون (لغة).

4- إنّ لفظة (ثِبْ) فعل أمر من (وثب يثب) بمعنَى قفز يقفز، ولا يمكن أن يكون من (ثاب يثوب) بمعنَى عاد يعود أو رجع يرجع، لأنه إن كان من (ثاب يثوب) فهو بضمّ الثاء (ثُبْ) على غرار (قام يقوم قُم) وما هو في بابه، ومنه (الثواب) أي الرجوع. ولا يوجد نصّ واحد، معتنَىً به، يثبت أن فيها معنَى: اجلسْ، لا عند الشّماليين ولا عند الجنوبيّين، كما يريد أولئك القائلون أن يقنعونا به، إلا من اعتمد على الرّواية المذكورة. فأمّا ما يروونه من أنّ الوسادة عند أهل اليمن هي الموثبة، وأنّ موفَدا جاء من اليمن فوثّبَه الرّسول وسادة، فهي، إن صحّت، لا تدلّ على مايريدون. و(الموثبان) ليس هو الجالس، على ما ذكروه، بل هو (المتوثب) لقتال أو غيره، وكأنه (يثب إليه) يريدون به السرعة.

5- هؤلاء شعراء الجاهلية والاسلام، كثير منهم ذوو أصول يمانِية، ليس بدءا بامرئ القيس ولا انتهاء بالمتنبي، ولغتهم هي ذاتها اللّغة العربية المعروفة، وليس فيما نقلوه لنا من أشعارهم ما يفيد أن (ثِبْ) بمعنَى (إجلس) ولا غير ذلك من اختلافات زعموا أنها تجعل من (لغة) الجنوب (لغة أخرى) غير (لغة) الشمال.

ومن هنا فإنّ الاختلافات بين اللّهجات العربية، من وجهة نظر حذّاق اللّغويّين الأقدمين أنفسهم، لا تعدو واحدا من:

1- الاختلاف في الحركات، مثل (نَستعين) و(نِستعين).

2- الاختلاف في الحركة والسّكون مثل (معَكم، ومعْكم).

3- الاختلاف في إبدال الحروف مثل (أولئك، وأولالك).

4- اختلاف في الهمز والتليين مثل (مستهزئون ومستهزون).

5- الاختلاف في السّيّن والصّاد مثل (صراط وسراط).

6- فكّ التّضعيف إلى الياء مثل (أمّا وأيْما).

وكل هذا عائد إلى النّطق والتسهيل اللفظي ولا يغير أي معنى.

7- التقديم والتأخير مثل (جذب) و(جبذ) وهذان لفظان لا لفظ واحد، وهما موجودان في اللغة العربية لدى جميع القبائل.

8- الاختلاف في التّذكير والتّأنِيث مثل (هذا البقر وهذه البقر) ولا يمكن أن تكون هذه ظاهرة لهجية لأنها موجودة في جميع القبائل، حيث يجوز التّذكير والتّأنِيث في الجمع، جاء الرّجال وجاءت الرّجال.

ولا تخرج النّقاط الأخرى التي ذكرها اللّغويّون المدققون المحققون عن هذه النّقاط التي لا تقوى على خلق اختلافات جذرية بين لهجة وأخرى، ولا يمكن أن يُبنَى عليها أنّ العرب هم مجموعة أقوام وليسوا قوما موحّدين أساسا.

ولقد كـــــــان قولهم باختلاف اللهجات سبــــــيلا مهد لهــــم أمرين:

الأول: الزعم بوقوع كلمات أعجمية في القرآن. وقد سبق أن أثبتنا خطأ ذلك في (موسوعة معاني ألفاظ القرآن الكريم) (الإيسيسكو 2011).

الثاني: إعطاء معان لكلمات قرآنية، هي غير ما تدل عليه اللفظة ذاتها.

ولننظر الآن في مثال واحد، على هذا:

في اللغة العربية جذر لغوي هو (شرى) دالّ على انتقال. ومنه مبادلة شيء بثَمَنٍ معلوم، فينتقل الشّيء من مالِكٍ إلى آخر. ومنه في التنزيل العزيز: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ). هؤلاء باعوا أنفسهم وأموالهم في مقابل الجنة.

وثمّة كلمة أخرى من هذا الجذر في قوله، تعالى: (ومِنَ النّاس مَن يشري نفسَه ابتغاء مرضاةٍ الله) وفُسّرتْ (يشري) بمعنَى يبيع باعتباره من الأضداد كما فُسرت (يشتري) بمعنَى (يبيع) في آيات أخرى كما في قوله، تعالى: (بئسما اشتروا به أنفُسَهم).

ولكن، إذا كان المراد معناه (يبيع) فلمَ لم تَرِدْ هذه اللفظة بدل (يشري)؟ وقد أجاب بعضهم بأنّ (يشري) معناها يبيع في لهجة من لهجات العرب اختلفوا في تحديدها ما بين لهجة غطفان ولهجة هُذيل ولهجة غاضرة، حيّ من بنِي أسد، مِمّا يُضعف الثقة فيما رووه بشأنها. والحق إنّ يبيع بمعنَى يبيع، ويشري بمعنَى يشري، ويشتري بمعنَى يشتري. ولا نستطيع أن نتصوّر أن آية من الآيات تأتي ألفاظها جميعا بما وصفه القدماء أنّه لغة قريش ثم تنفرد لفظة واحدة من قبيلة أخرى على ما ذكروه في (يشري نفسه). ويبدو لنا أنّ عدم استبانتهم للمعنَى ألجأهم إلى هذا القول الذي اختلفوا فيه.

اللغة العربية لغة دقيقة جدا، فإن أرادت التعبير عن البيع والشراء بين شيئين متماثلين متساويين ذكرت (باع) و(اشترى). بعت هذا الكتاب بكذا، إذا كانت المساواة حاصلة، مادية أو معنوية، بين القيمة الحقيقية للكتاب والسعر الذي دُفع مقابله. أو كانت قيمته أعلى من المبلغ الذي سيدفع مقابله.

أما إذا كان القيمة الحقيقية للشيء الذي تريد التخلي عنه أقل بكثير مما ستحصل عليه، فهنا تأتي (شرى يشري) لا باع ولا اشترى. ويظهر هذا المعنى في كل الاستعمال القرآني لكلمة (شرى) وكلمة (اشترى).

وكمثال آخر تضمن اللفظتين معا، قوله، تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا).

فالذين باعوا يوسف (كانوا فيه الزاهدين) لا يريدونه ولا يهتمون بأمره، وتكفيهم دراهم معدودة ليتخلصوا منه. هنا تأتي (شروه) لأنهم بذلوا شيئا ضئيلا في مقابل دراهم وأن كانت قليلة فإنها عندهم أثمن من يوسف. ولكن عزيز مصر أراده ولدا له أو أن ينتفع به، فكان الثمن الذي دفعه في مقابله هينا ضئيلا أمام ما يتوقعه منه. فهنا تظهر (اشترى).

وفي الآية: (ومن الناس مَن يشري نفسَه ابتغاء مرضاة الله) فإن (بذل) النفس مقابل الحصول على رضا الله، تجارة رابحة جدا، لأنك بذلت شيئا تافها قياسا بما ستحصل عليه.

وبطبيعة الحال، فإن من الناس من اعتقد أن تلك التجارة الرابحة لا تتحقق إلا بالحرب والقتال، ومن هنا ظهرت حركة الشراة. وثمة من لم يقصرها على ذلك بل جعل أساس المعنى: الوصول إلى التقوى والعمل الصالح. وبناء على المبنى اللغوي الاجتماعي للقرآن فأمامنا مستويان لفهم التنزيل العزيز:

المستوى الأولي الذي يلتزم شائع المعنى فتكون (يشري) مثلا، بمعنى (يبيع).

والمستوى الثاني الذاهب وراء دقائق المعنى اللغوي، على ما أوضحناه.