آثار جيوسياسية للإنتصار العسكري الأذربيجاني – عماد علوّ الربيعي

في إقليم ناغورنوكرباغ

آثار جيوسياسية للإنتصار العسكري الأذربيجاني – عماد علوّ الربيعي

المقدمة

شكل الانتصار الاذربيجاني الأخير في استكمال استعادة إقليم ناغورنو كاراباخ لحظة تاريخية وجيوسياسية مهمة ليس فقط في مسار الصراع الاذربيجاني الأرميني، بل في منطقة جنوب القوقاز وتسمى أيضا» ما وراء القوقاز، الغنية بالثروات النفطية والغازية في خضم لحظة تاريخية تتسم بالتوترات والصراعات يشهدها العالم اليوم. ومنطقة ما وراء القوقاز هي منطقة جبلية تضم جمهوريات أرمينيا وأذربيجان وجورجيا. ونظرًا لقربها من أوروبا الشرقية، وشبه جزيرة الأناضول، والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، والبحر الأسود، وبحر قزوين، فقد وجدت نفسها في كثير من الأحيان على مفترق طرق طموحات القوى الكبرى. ولما كان من غير الممكن احتكار السيطرة المطلقة على منطقة ما وراء القوقاز خياراً متاحاً، كان لا بد من التفاوض على تسويات دبلوماسية غير مستقرة، وهذا ما شهده منذ الثمانينات الصراع الأذربيجاني الأرميني حول منطقة ناغورنو كاراباخ، الذي اسدل الستار على آخر صفحاته في الانتصار العسكري الاذربيجاني في الذي تحقق في أيلول سبتمبر 2023، ونجم عنه أن توقفت جمهورية ناغورنو كاراباخ ذات الحكم الذاتي عن الوجود، وبدأ السكان الأرمنيون المقيمون في الإقليم في نزوح جماعي آخر، وربما يكون الأخير الى جمهورية أرمينيا لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة الإنسانية بالنسبة لهؤلاء النازحين سوف تلقي بضلالها على الواقع الاجتماعي للشعب في أرمينيا، وعلى مستقبل حكومة رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان.

  من وجهة نظر جيوستراتيجية، فان الانتصار الاذربيجاني في ناغورنوكرباغ سوف يفتح افاقا» جديدة للتنمية في منطقة جنوب القوقاز اذا ما توصل طرفي الصراع الى معاهدة سلام تضمن سلامة وتوسيع نظام المواصلات عبر ممر (زانغزور، أو ممر زنگزور)، الذي انقطع في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، عندما اندلع صراع ناغورنو كاراباخ لأول مرة. وهو عبارة عن شريط عرضه 43 كيلومترًا (27 ميلًا)، يقع على الطريق من تركيا إلى باكو على طول الحدود مع إيران. على هذا الطريق، الذي يوحد جيب ناختشيفان الأذربيجاني مع أذربيجان نفسها، كان نظام اتصالات السكك الحديدية والطرق يعمل خلال عهد الاتحاد السوفيتي. تم التخلي عنه لاحقًا عندما اندلع الصراع في ناغورنو كاراباخ، حيث تعرضت القطارات للرجم بالحجارة – من جانب أو آخر، اعتمادًا على القسم – وتمزيق القضبان. أدى فقدان الاتصال البري بين الأراضي الرئيسية لأذربيجان وناختشيفان إلى إجبار الأذربيجانيين على الالتفاف عبر إيران أو عبر جورجيا وتركيا للوصول إلى ناختشيفان. أن الاهمية الجيو سياسية والجيوستراتيجية لممر زانغزور عبر عنها الرئيس الاذربيجاني الهام علييف عقب لقائه يوم 25/09/2023، مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقاطعة ناختشيفان الأذربيجانية، بقوله: “أنا متأكد من أن هذا المشروع سيتطور بنجاح و(…) سيخدم مصالح أذربيجان وتركيا ودول أخرى”. وأضاف أنه واثق من أن الجزء الأذربيجاني من العمل سيكون جاهزا في بداية العام المقبل.

تداعيات الجيوسياسية

وفقا للإطار التحليلي الجيوسياسي الذي طرحه الراحل زبيغينو بريجينسكي في عام 1997، تقع منطقة القوقاز في قلب ما يسمى «البلقان الأوراسي»، وهي منطقة شديدة التقلب للأسباب التالية:

1.رواسبها الهائلة من الموارد الطبيعية. الموارد، بما في ذلك الطاقة والمعادن.

2.مزيجها غير المتجانس من الشعوب التي استمرت منافساتها العرقية المريرة لعدة قرون.

  1. انتشار الحدود التعسفية التي غالباً ما تكون محل نزاع.
  2. موقعها الاستراتيجي المحوري من حيث النفوذ الجيوسياسي وتدفقات التجارة الدولية يجذب اهتمام القوى المحلية والدولية.

5.الطبيعة الجيواقتصادية، اذ تعتبر منطقة ما وراء القوقاز نفسها جذابة لموقعها كممر من بحر قزوين إلى البحر الأسود لنقل الطاقة (النفط والغاز)، مثل خط أنابيب النفط باكو – تبليسي – جيهان.

 وبالعودة الى تاريخ التوترات والصراعات فان منطقة ما وراء القوقاز كانت قد شهدت عدد من الصراعات العسكرية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، والمنافسة الاستراتيجية على مدى العقود الاربعة الماضية. ولذلك فان تداعيات تغير الحدود أو الجغرافيا السياسية في منطقة ما وراء القوقاز نتيجة الانتصار العسكري الاذربيجاني، لابد أن يلقي بضلاله بشكل مباشر أو غير مباشر على كل من إيران وأفغانستان وباكستان والشرق الأوسط وكذلك تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى. ولم يعد خافيا» على أحد أن عدم الاستقرار – خاصة إذا كان مرتبطًا بحرب دوافعها واسبابها قومية أو دينية، يمكن أن ينتشر بسرعة كالنار في الهشيم، ويمكن للنيران الناتجة أن تصل حتى إلى أولئك الذين لا يشاركون بشكل نشط. تأجيج لهم. والنتيجة الأكثر إثارة للقلق هي أن جميع مكونات التصعيد الخطير موجودة.  ان نزاع محلي حول حسابات غير محسومة، يمكن أن يؤدي الى إشعال موجات من الصدمات الجيوسياسية بعيدة المدى.

عامل خارجي

ان الاثار المترتبة على الانتصار الاذربيجاني في كاراباخ لابد أن تنعكس تأثيراته على القوى أو الدول للحصول على موطئ قدم في منطقة ما وراء القوقاز، وطبعا» في مقمتها روسيا الاتحادية التي كانت في عهد الاتحاد السوفيتي تسيطر على منطقة ما وراء القوقاز، ولذلك هي تتواجد في المنطقة عسكريا» حرصا» منها على حماية مصالحها ونفوذها انطلاقا» من الاستراتيجية الروسية، في البقاء فيما يسمى بـ «الجوار القريب» – وهو المفهوم الذي يشير إلى الأراضي السابقة للاتحاد السوفييتي والتي تحرص موسكو على أن تسود فيها المواقف الجيوسياسية الإيجابية تجاه موسكو أو على الأقل الحياد. لأسباب تتعلق بالأمن القومي الروسي والحفاظ على عمقها الاستراتيجي. فبموجب اتفاق نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تقع مسؤولية مراقبة ممر زانجيزور الاستراتيجي على عاتق حرس الحدود الروسي، الذي يسيطر أيضًا على حدود أرمينيا مع تركيا وإيران. وبالإضافة إلى القاعدة العسكرية في أرمينيا وعدة آلاف من حرس الحدود، لدى موسكو وحدة عسكرية قوامها حوالي 2000 جندي في مهمة سلام كانت تهدف إلى ضمان سلامة الأرمن في ناغورنو كاراباخ، وهو ما لم تقم به هذه الوحدة بحسب الجانب الأرميني.. مما جعل جموسكو تواجه موقفًا صعبًا بعد هذا النصر الاذربيجاني الكبير في ناغورنو كارباخ، لذا فهي بحاجة إلى حساب تصرفاتها بعناية فائقة، فعلى الرغم من كون أرمينيا حليف وثيق لروسيا لأسباب جيوسياسية وتاريخية ودينية وثقافية، فان موسكو لن تستطيع أن تتحمل استعداء باكو من خلال الانحياز العلني إلى أرمينيا. ومهما كانت مشاعر الاستياء تجاه موسكو، فإن أرمينيا لا تستطيع الاستغناء عن روسيا في الوقت الحالي، مثلما لا تستطيع موسكو الاستغناء عن يريفان. ومع ذلك، تحاول أرمينيا استبدال النفوذ الروسي أو التعويض عنه. وترجع مخاوف الكرملين إلى النفوذ المتصاعد للقوى الدولية (أمريكا وفرنسا والصين وبريطانيا)، وكذلك المحلية مثل (تركيا و أيران). وكوسيلة لإدارة هذه المخاوف، تعمل موسكو على تعزيز التعاون الإقليمي من خلال مؤسسات مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، وغيرها.

عقل مدبر

أما تركيا فيبدو أنها كانت العقل الاستراتيجي المدبر الفعلي وراء الانتصار الأذربيجاني، مع ملاحظة أن على المرء أن يأخذ في الاعتبار الروابط العرقية والتاريخية والثقافية واللغوية الوثيقة بين الأتراك والأذريين. علاوة على ذلك، فان تركيا منذ تولى رجب طيب أردوغان السلطة أبدت اهتماما» متزايدا» بتوسيع نطاق نفوذها في منطقة القوقاز باعتبارها بوابة للوصول إلى الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى وهي استراتيجية كانت في كثير من الأحيان مصدراً للتوترات مع روسيا. إن النصر الاذربيجاني في ناغورنو كاراباخ من شأنه أن يشكل دفعة كبيرة لقوة أنقرة ونفوذها وهيبتها، وخاصة إذا أدى ذلك في النهاية إلى تسوية مفيدة لباكو.

أما الولايات المتحدة الامريكية فإنها تحرص على بناء علاقات جيدة مع أذربيجان الغنية بالنفط والغاز العامل الكبير المؤثر على حلفاء واشنطن الاوربيين، في سياق الحرب الروسية الاوكرانية، كما أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المثيرة للجدل، العام 2024، وأعمال العنف السياسي المحلية في الداخل، أجبرت صناع السياسات في واشنطن على التركيز على الشؤون الداخلية في الوقت الحالي؛ ولكن هذا يمكن أن يكون أيضًا نتيجة لسياسة المشاركة الانتقائية المتعمدة. ففي نهاية المطاف، فإن القليل من المواجهة غير المباشرة بين الأتراك والروس، ما دامت لا تصبح سيئة للغاية، وتؤدي أيضاً إلى خلق متاعب للإيرانيين اللذين يدعمون جمهورية ارمينيا، لا تضر بالضرورة بالمصالح القومية الأميركية.

الخاتمة

على الرغم من الانتصار العسكري الاذربيجاني على أرمينيا في ناغورنو كاراباخ، الا أنه لا يزال من السابق لأوانه التنبؤ بنتيجة حاسمة ــ وخاصة في منطقة حيث يتقلب فيها ميزان القوى إلى حد كبير، في ظل صراع دولي حول السيطرة والنفوذ بهذه المنطقة بين روسيا وتركيا وإيران وحتى أميركا في ظل محاولة الأخيرة توسيع جبهات الحرب أمام موسكو، وسعي الاتحاد الأوروبي إلى مكاسب من أذربيجان الغنية بالنفط والغاز والمطلة على بحر قزوين في ظل أزمة الطاقة وتنويع مصادر الطاقة وإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي، ولذلك فان مصالح دول الجوار هي التي تحدد إما إنهاء الأزمة أو تصعيدها وإذا كان الصراع سينحسر أو يتصاعد.

 اللواء الركن المتقاعد خبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية

مشاركة