العشاء الأخير لعلاء بشير وسيمفونية الخيانة: معرض يتجاوز سطح اللوحة
أمل الجبوري
في معرضه الأخير، لا ينغمس الفنان العراقي البارز علاء بشير في سرد ديني تقليدي، بل ينطلق نحو ثيمة إنسانية عميقة تتجاوز الزمان والمكان والانتماء العقائدي، ليتأمل في أغوار النفس البشرية والصراع الأبدي بين الولاء والخيانة.
يُشكّل قول السيد المسيح (عليه السلام) “أحبوا أعداءكم” حجر الأساس المفاهيمي لهذا المعرض. لا تأتي هذه العبارة بوصفها مجرد تعبير روحي، بل ترتقي إلى مستوى المبادئ الأخلاقية التي تشكّل بنية هذا المشروع الفني بأكمله. فالأعمال المعروضة لا تقتصر على تصوير المقدّس، بل تسائل هشاشة الإنسان أمام مغريات الانهيار الأخلاقي.
في قلب المعرض، تقف لوحة “العشاء الأخير” (2020)، بوصفها إعادة تأويل درامية ومفاجئة للمشهد التوراتي الشهير. لا يقدّم بشير وجوه الحواريين، بل أقدامهم الحافية وهي تصطف حول طاولة فارغة—غيابٌ ينطق بصوت أعلى من الحضور. قدمٌ واحدة بدت وكأنها تنسحب، محاولة الفرار، في دلالة رمزية صامتة عن الخائن. أما الفراغ في مركز الطاولة، فهو ليس فراغًا بصريًا فحسب، بل هو هاوية أخلاقية تشير إلى الانقسام والخذلان لا إلى المشاركة أو المصالحة.
وقد تضاعفت قوة المعرض عبر أداء موسيقي حي للفنان العراقي سلطان الخطيب، الذي عزف مقطوعة مستلهمة من باخ حول “العشاء الأخير”. جاءت النغمات متوترة، حزينة، تعكس لحظة الصمت الثقيل بين الأصدقاء حين يُكسر جسر الثقة. في الفيديو المرافق، يُشاهد الخطيب وهو يحاول دفع البيانو بمفرده، رافضًا أي مساعدة من الحضور، في فعلٍ رمزي مؤلم. أوضح لاحقًا أن هذا المشهد كان مقصودًا، فالبيانو بالنسبة له هو “صليبه”، وعليه أن يحمله وحده، تمامًا كما يحمل الفنّان أمانة الحقيقة. هذا الأداء الجسدي، التمثيلي في ظاهره، جاء كصدى بصري حيّ لأفكار بشير المرسومة.
أما اللوحة الثانية في المعرض، فهي تصوير مذهل لعمود من الوجوه البشرية يصعد نحو صليب مضيء، كما لو أن البشرية بأسرها ترتقي بآلامها، وخياناتها، وأملها بالخلاص. ينبثق الضوء من قمة المشهد متحديًا الظلام، وكأنها أنشودة بصرية للنجاة والبعث.
هذه الأعمال ليست كيانات صامتة؛ بل هي ناطقة، مدانة، ومُحزنة. “العشاء الأخير” هنا ليس حدثًا مقدّسًا منعزلاً، بل مرثية كونية لكل من تمّت خيانته، أو تهميشه، أو التضحية به باسم السلطة أو الأيديولوجيا أو الجشع. يذكّرنا بشير أن الخيانة ليست من خصائص عصرٍ دون آخر، بل هي نقطة مظلمة متجذّرة في الذات البشرية، تتجلى أحيانًا لأسباب واهية، وأحيانًا بلا سبب سوى استيطان الظلمة في النفوس.
ومع ذلك، فإن الفن، في عالَم بشير، يتحوّل إلى شهادة أخلاقية. سواءً من خلال لوحة، أو حركة موسيقية، أو فعلٍ فردي جريء على خشبة مسرح، فإن الحقيقة تظل عصيّة على الطمس. فمهما طال الزمن، تبقى الخيانة محفورة في ذاكرة الشعوب، لا يمكن لأي قوّة أن تمحوها من التاريخ أو الضمير الجمعي.
إن هذا المعرض لا يتعامل مع الرموز المسيحية بوصفها مرجعية دينية فحسب، بل يجعل منها مرآة لتأمل الكلفة الأخلاقية للخيانة، كما نشهدها في مجتمعاتنا المعاصرة، حيث تسحق المادة والطموح القيم النبيلة إن وقفت في طريق المكاسب والقوة.
لقد منحنا علاء بشير معرضًا لا يعرض لوحات، بل ضمائر.