الصمت الإداري.. واللايك العاطفي – ياس خضير البياتي

في عالمنا الحديث، لم يعد المرض اختبارًا للصحة، بل غربالًا حادًّا للعلاقات.

الزكام لم يعد مجرد التهاب في الأنف، بل استبيانًا مصيريًّا لحرارة القلوب. والسعال لم يعد يُخرج البلغم فقط، بل ينفض معه غبار الخذلان المتراكم في صدورنا من زملاء وأصدقاء، كنا نظنهم “سندًا”، فإذا بهم مجرّد صور حسابات صامتة في قوائم الاتصال.

أصبح الحزن في هذا الزمن يُقاس بعدد التفاعلات، لا بصدق المشاعر. وكأن اللايك شهادة حضور مزيفة في جنازة رقمية. تضامن سريع، مُبرمج، بنقرة واحدة، ثم ننتقل لفيديو مضحك عن قطٍّ يرقص على أنغام تيك توك!

نحن نعيش في عصر رقمي بامتياز، لكنه يفتقر إلى حرارة الأصابع. عصرٌ أصبح فيه اللايك “شهادة عزاء”، والتعليق المنسوخ “بيان مواساة”. إنها مهزلة… أن تُختصر معاناتك في “تفاعل”! وكأن المرض أصبح مناسبة اجتماعية رقمية لا أكثر… ينسى الجميع أنك إنسانٌ من لحم ووجع وروح.

لكن كل هذا المشهد العبثي لا يضاهي قسوة المهزلة الكبرى… صمت الإدارة. ذلك الصمت المكسو بالبروتوكولات، المحاط بهالة رسمية باردة، يُمارَس بجمود مريع، كأنه جزء من ديكور مكتبي لا روح فيه.

تمرض، تتعب، تُجرى لك عملية، تتوارى خلف الستائر البيضاء، ثم تعود… كأن شيئًا لم يكن. لا اتصال، لا رسالة، لا حتى استفسار. وإذا وصلك شيء، فغالبًا ما يكون بريدًا رسميًّا يحمل تذكيرًا برفع المحاضرات المؤجلة، أو تنبيهًا بأن التقصير قد يؤثر على جودة الأداء المؤسسي. وهكذا تتحوّل المؤسسة، بدلًا من أن تكون ملاذًا تربويًا وإنسانيًا، إلى آلة لا تعرف سوى الإنتاج… آلة تقرأ الأرقام، لكنها لا تُبصر الأرواح.

للأسف، كثير من الإدارات لا تصلح أن تكون أكثر من آلات طباعة بشرية: باردة، دقيقة، ومعدومة التعاطف. يُجيدون التنظير في “الجودة العلمية” و”التمكين المؤسسي”، لكنهم لا يملكون حتى الجرأة على كتابة: “كيف حالك؟” حين تموت ملامحك خلف قناع المرض.

فالإدارة ليست علم الأرقام والنتائج فقط، بل فنّ الشعور والاحتواء. كما قال (بيتر دراكر)، أبو الإدارة الحديثة:»القوة في الناس، لا في العمليات.»وكأنما كان يُذكّرنا أن المؤسسة، مهما عظمت، لا تساوي شيئًا إن كانت خاوية من دفء البشر.

الإدارة ليست توقيعًا وقرارًا… بل مسؤولية ودفء وأبوة رمزية. الإدارة الحقيقية لا تُقاس بعدد الاجتماعات، بل بعدد المرات التي أمسكت فيها يد موظف يتعثر، وسألته دون تكلف: “هل تحتاج إلى شيء؟»أين السؤال البسيط؟ أين التقدير؟ أين الإنسانية؟ أم أن كل ذلك يتبخر بمجرد تعطل الموظف عن أداء المهام؟

هذا الإفلاس ليس تنظيميًا فقط، بل أخلاقي بامتياز. فالصدمة ليست في المرض، بل في صمت من يُفترض أن يكونوا الأقرب حين تُصاب. وإذا كانت الإدارة بلا قلب أو روح، فبئس الهياكل هذه التي تُسمى “مؤسسات».

أما المدير الحقيقي؟ فهو الذي يعرف موظفيه بالاسم، لا برقم الملف، ويسأل عنهم إذا اختفوا، لا إذا تأخروا.

يقول (سايمون سينك)، صاحب نظرية “السبب أولًا»:»المدير يحمل اللقب، لكن القائد يحمل القلوب.»وشتّان بين من يحكم بالأوامر، ومن يُلهم بالحضور. فليس كل من جلس على الكرسي حمل الأرواح معه… إذ لا يكفي أن تملك مفاتيح المكتب، إن كنت قد أغلقت أبواب الشعور.

ورغم هذا الجفاف الإداري، هناك ومضات لا تزال تضيء. هناك أصدقاء وزملاء، لم تمنعهم التعليمات من الاتصال تلفونيا، أو إرسال دعاء في منتصف الليل، أو كلمة مواساة لا تبدأ بـ “عزيزي الموظف».

هؤلاء لا تُسجّل أفعالهم في نظام الموارد البشرية، لكنهم يُسجّلون في القلب… إلى الأبد.

ختامًا، لن نطلب الكثير. فقط القليل من الإنسانية في مؤسسات يُفترض أن تكون حاضنة للإنسان.

فإن لم تكن الإدارة إنسانية في أوقات المرض، فلا تستحق الاحترام في أوقات العافية.

مشاركة