400 بعثي كانوا في الحزب عند وقوع انقلاب شباط 1963

400 بعثي كانوا في الحزب عند وقوع انقلاب شباط 1963
معلومات غامضة ومضطربة حول الشخص الذي منح صدام حسين العضوية في الحزب
طالب الحسن
وقد عكف عفلق وتلامذته الصغار من أعضاء قيادة قطر العراق الذين سبق لعفلق أن وصفهم بـ الأنبياء الصغار ـ لإعادة تنظيم البعث في سورية، بعد موافقته على حلهِ إثر قيام الوحدة بين سورية ومصر عام 1958، ولم يعد في هذه الحملة إلى صفوف الحزب إلا أعداد قليلة وصفت بالنفايات وبقية القروح. ولم يتردد قادة كبار في حزب البعث من تأكيد ضعفه وهزاله وقلة عدد أعضائه في الفترة المذكورة، فقد ورد على لسان شبلي العيسمي الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي قائلاً إنَّ القرار الأول الذي اتخذه المؤتمر الخامس في حمص هو أن تتولى القيادة القومية في العراق اختيار ثلاثة أو أربعة أشخاص من القطر السوري لتشكيل قيادة مؤقتة تتولى إعادة تنظيم الحزب . كما يقول أيضاً
لقد كان عدد الذين انضموا إلى الحزب قليلاً، ولكننا أخذنا ننمو رويداً، وكان علي صالح السعدي عضواً في القيادة القطرية، وكذلك حمدي عبد الحميد وأنا وحمود الشوفي ووليد طالب، وفي عام 1963 كان عددنا حوالي 400 شخص، وخلال انقلاب 8 آذار قد يكون عددنا زاد قليلاً ولكننا كنا ضعفاء .
ويعلق أكرم الحوراني على كلام العيسمي الآنف الذكر قائلاً والذي يظهر جلياً أن عدد أعضاء بعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار لم يتجاوز بعد خمسة عشر عاماً عدد أعضاء حزب البعث في مؤتمره التأسيسي عام 1947. الذي كان تلاميذ زكي الأرسوزي من اللوائيين عموده الفقري، وكان هؤلاء قد اندمجوا مع البعث بعد مرض الأرسوزي .
إعادة بناء
أما صدام الذي كرّس وقته لإعادة بناء الحزب عام 1964 وما بعده، فكان يفتش عن هذا النوع من الناس في وسط المزابل ويلتقطهم ليضمهم إلى حزب البعث، وقد كان قد تعرف في السجن على عدد من المحكومين بجرائم السرقة والقتل والاغتصاب، فكانوا مادة الحزب فيما بعد، وازدحم الحزب بالمشبوهين والفاشلين وأصحاب السوابق والمجرمين، واصطفت في داخله الجماعات الساقطة اجتماعياً وأخلاقياً، وما طارق أحمد كلك، وابن إبراهيم عرب، وجبار الكردي وأخوه ستار، وخالد طبره، وعمار علوش، وسمير عبد الوهاب الشيخلي، وناظم كزار، وسعدون شاكر، وعبد الوهاب كريم الأعور، وعبد الكريم الشيخلي، وغيرهم من المجاهيل والنكرات، إلا نماذج تعاقبت على تولي مهام رسمية وحزبية في سلطة البعث العراقي بعد عام 1968. وبانضمام النازحين من ريف تكريت إليهم، لنا أن نتصور مقدار القمع النازل على المواطنين عندما يكون مسؤولو الدولة العراقية من هذه العيّنات.
لم تكن بدايات البعث في العراق تحمل نتوءات هجينة، إلا بعد دخول ميشيل عفلق على خط الحزب عام 1943، واستحواذه عليه بالكامل عام 1947.
ولأجل ذلك لابد من إزاحة الستار عن حقيقة كانت مستورة عن الجميع، وهي أن عناصر اسكندرونية تأثرت إلى حد بعيد بأفكار زكي الأرسوزي، وتتلمذت على يديه، وشاركت معه في تأسيس حزب البعث العربي عام 1940 في منزل صغير بحي السبكي بدمشق. هي التي وضعت بصماتها الأولى على بدايات الحزب في العراق، وكان فائز إسماعيل وسليمان العيسى القادمان إلى العراق عام 1944 مساهمَينِ فاعلَينِ في تلك البدايات
يقول فائز إسماعيل لم نكن نفرق بين السلوك الخاص والسلوك العام، وهذا ما كان يدفعنا لمراقبة أعضائنا في كامل مواقفهم، في كل حين، وفي كل مجال، لأننا كنا نعتبر السلوك هو الميزة التي يجب أن تميزنا عن سوانا إلى أن يقول وأنه يجب أن يُعرف البعثيون من خلال أخلاقهم العالية ومواقفهم النضالية .
لقد كان فائز إسماعيل هو المسؤول الأول لنواة تنظيم حزب البعث العربي في العراق، وهذا الأمر معروف لدى أعضاء الخلايا الأولى للحزب ولكل الباحثين في تاريخ العراق السياسي القريب، بل هو الذي هيأ العديد من العراقيين لدخول الحزب منذ أن وطأت رجلاه أرض الرافدين عام 1944. وكان الأنشط من بين الطلبة الاسكندرونيين في هذا المجال انظر الملحق رقم 6 والملحق رقم 7 في آخر الكتاب . وما دونه عن تجربته في العراق قائلاً لقد كنت والأستاذ سليمان العيسى أول من وطأ أرض العراق ملتزماً بحزب البعث العربي، كنا ثلاثة من اللواء سليمان العيسى،وعز الدين غريب، وأنا. كان ذلك في عام 1944 .
يصف الشاعر سليمان العيسى زميله ورفيقه فائز إسماعيل والدور الكبير الذي اضطلع به في بدايات حزب البعث العربي في العراق قائلاً كان أكثرنا التصاقاً بالتجربة، وعملاً دائباً في سبيلها، وفناءً ذاتياً فيها..
كُلنا تابعنا دراستنا في دمشق.. وفي بغداد.. مع الكفاح الذي حملنا عبأه ونحن في مطلع الشباب..
كلنا استطعنا أن نتابع تحصيلنا العالي.. إلا واحداً هو فائز ـ ولقد كان بمقدوره أن يفعل ـ ولكن التبشير بالقضية.. والشعور المفرط بالمسؤولية.. والانغماس في العمل الحزبي ـ بأدق ما تحمل هذه الكلمة من معنى ـ كل هذا شغله عن دراسته، وعن تحصيله وعن مستقبله.
شغله عن كل شيء في مطلع الشباب.
كلنا كنا نبيح لأنفسنا شيئاً من اللهو والمرح والتسلية.. عدا رفيقنا فائز.. فما أذكر أنه أباح لنفسه شيئاً من هذا .
إنَّ فائز إسماعيل الذي كان أبرز من وضع اللبنات الأولى للبعث في العراق سرد حادثتين مهمتين، وقعتا ضمن دائرة عمله الحزبي، وكيف تصرف إزاءهما بما تملي عليه الأفكار البسيطة التي يعتقد بها، والأخلاق الموروثة من البيئة التي عاشها والفطرة التي يحملها، وسنرى موقف عفلق من إحداهما لأنها وصلت إليه دون أن تصل الأخرى. يقول فائز إسماعيل شوهد أحد الأخوة المناضلين المعروفين بصمودهم ومواقفهم، شوهد في شارع الرشيد في حالة سكر وتبذل، ويمسك بيد إحدى بنات الهوى . ووصل إلى القيادة تقرير في الحادث، وأخذ الأعضاء يتناقلون هذه الحادثة بكثير من الاستغراب والاستهجان والأسى…
استدعيت هذا العضو الذي كان أميناً للحلقة، ومرشحاً لمركز قيادي، وحضر معي بعض الأعضاء الذي كانوا يمثلون المحكمة الحزبية بشكل عفوي، وحين استجوبته عن القضية اعترف بها، فطلبت منه اقتراح العقوبة المناسبة له، فقال إنها التوبيخ. وربما كانت هذه هي العقوبة الطبيعية له، لأنها المرة الأولى التي يسجل الحزب عليه خطيئة. وقلت له كان هذا ممكناً لو كنت عضواً عادياً، أما وأنك قيادي، والقيادي قدوة لا يمثل نفسه وإنما يمثل الحزب كله، وأنت في موقفك هذا أسأت إلى الحزب، قررنا عقوبة الفصل، وكان فصله من الحزب خسارة نسبية لنا، إلا أنه كان كسباً لسمعة الحزب، وكان لهذا الموقف أثره الكبير في صفوف حزبنا، رغم أن ما قام به العضو المفصول كان ظاهرة مألوفة لدى أعضاء الأحزاب الأخرى . وفيما بعد انتقل هذا العضو المفصول بأسباب أخلاقية إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، ووصل إلى موقع قيادي في الحزب المذكور .
طالب كلية
أما الحادثة الثانية التي واجهها الأستاذ فائز إسماعيل أثناء تصديه لمسؤولية حزب البعث العربي في العراق فيقول فيها لا أزال أذكر كيف أني فصلت أحد الأخوة من فرع الأردن، وهو طالب في كلية الحقوق بسبب إهماله وأخطائه، وذهب هذا الطالب في الصيف يشكوني إلى أمين فرع الأردن، فإلى العميد الأستاذ ميشيل، فما كان من الأستاذ ميشيل إلا أن كتب حقلاً في النشرة الداخلية للحزب بأني أفرّط بالأعضاء، وأنه يمكن للعضو الجديد أن يصلح نفسه كتبت ملاحظة العميد في مقدمة النشرة الداخلية رقم 1 ولم يصلني من العميد أيـة ملاحظـة خطيـة أو شفـوية حـول الموضـوع سـوى مـا قـرأناه بالنشرة.
وتأثرنا جميعاً لأن الأستاذ ميشيل أبدى رأيه دون أن يسألني عن سبب الفصل، وأصدر حكمه بتسرع، علماً بأنه حين خسر الحزب عضواً في صفوفه بسبب الانضباط فقد ربح الفرع كله، وربح معه روحاً جديدة كلها جد وانضباط وحزم .
وفي لقاء لي مع الأستاذ فائز إسماعيل أضاف قائلاً إن هذا الشخص واسمه ارشود الهواري، كان يشرب كثيراً، وبحكم وضعه المادي الميسور، كان متميزاً علينا في ملبسه، ومفرطاً في الإعجاب بنفسه، وكان متعالياً يظنُ أنه أكبر منا جميعاً، وبسبب ذلك أخطأ خطيئات كثيرة، كنا نشم رائحة الخمر منه وهو في الاجتماع الحزبي، ولم ينضبط أبداً، رغم التنبيه الموجه له مرات ومرات، وعلى أساس ما تقدم من خلل في الانضباط والسلوك، تمَّ فصله من الحزب، وذهب في العطلة الصيفية إلى الأردن، والتقى بأمين فرع الأردن عبد الرحمن شقير، وشكاني عنده، ووصلت الشكاية بواسطة الأخير إلى الأستاذ ميشيل عفلق، الذي اتخذ بدوره الموقف المذكور أعلاه. شغل ارشود الهواري قبل وفاته مسؤولية في نقابة المحامين في الأردن . انظر الملحق رقم 7 في آخر الكتاب. والقضية الأخيرة تعكس بشكل لا يقبل اللبس الدور الذي لعبه عفلق في توجيه الحزب الوجهة التي يريدها.
إنَّ عفلقاً بتصرفه هذا خالف كثيراً من ضوابط التنظيم، فهو من دون أن يرجع إلى مسؤول الحزب في العراق ليعرف منه خلفيات القضية، ويقف على حقيقة الأمر، ويدرس القضية من جميع جهاتها، ومن دون أن يشرك عقلاً آخر على تماس دائم مع أعضاء الحزب الناشئ، تصرف فردياً فور وصول الشكاية إليه، وكتب توجيهاً عاماً للحزب في النشرة الداخلية، لإلغاء مثل هذه العقوبة، التي تؤسس لصيانة الحزب، وردع مرتكبي المخالفات الحزبية والأخلاقية، وساهمت توجيهات عفلق المرتجلة في فتح الباب على مصراعيه للملوّثين والمتخلفين وأرباب السوابق، وفسح المجال للمغمورين والمنبوذين أن يجدوا طريقهم إلى حزب البعث العربي، فانتسب إليه صدام حسين، وعبد الكريم الشيخلي، وسعدون شاكر، وناظم كزار، وخالد طبره، وجبار الكردي، وعبد الوهاب كريم، ومحمد فاضل، وعمار علوش، وآخرون يمتدون على مساحة العراق كله. وانتقلت معهم روح الشر إلى جهاز الحزب، وتلاقحت مع أفكار عفلق، فولدت جيلاً يحمل نمطاً خاصاً من أنماط السلوك.
فإذا كان صدام حسين دموياً، فلم يكن رفاقه في الحزب حمامات سلام. لقد أمضيت في الحزب ربع قرن، ولم أمر على عضو حزبي لا يحمل استعداداً لدور كدور صدام حسين .
رائحة عنصرية
إن ظاهرة الاستعداد العام للخوض في دماء الآخرين، واستسهال عمليات الفتك بهم، لم تأتِ من فراغ، وإنما ساهمت في بلوغها جهود مضنية وحلقات متتالية من التهيئة والإعداد، والتربية والتوجيه، ومارستها نشرات حزب البعث الداخلية، التي حرص ملقنوها على أن تأخذ شكل النصوص المقدسة في لزوم تطبيقها، لخلاص أبناء الأمة العربية من أوزار التخلف والاستلاب والتبعية. وما رافق ذلك من عمليات تعبئة ودفع وتحريض، هي أقرب ما تكون إلى عمليات غسل الدماغ في الوقت الحاضر.
ولا غرابة أن نجد بصمات ذلك التوجه في دستور الحزب، وهو أول وثيقة يصدرها، بعد أن توافق أكثر من مائتي عضو في المؤتمر التأسيسي الأول على صلاحية نشرها.
في حقل المبادئ العامة من الدستور، جاء في المادة 11 ما يلي يُجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب، وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية .
إنّ هذه المادة التي تفوح من ثناياها رائحة العنصرية العفنة، قد أيقظت في صدام حسين روح الجريمة المختزنة في اللاشعور، ليتخذ قراراً لا إنسانياً يقضي بتهجير مئات آلاف من العراقيين إلى إيران، وجاء هذا القرار الجائر على جذور هؤلاء المظلومين، وهم من الكرد الفيلية، أو من الأصول الإيرانية البعيدة. وطالت عملية التهجير المدانة العديد من العرب الأقحاح الذين تعود أصولهم إلى مضر وعدنان وقحطان، ولكن ظروفاً قاهرة اضطرتهم للتسجيل في القنصليات الإيرانية هروباً من الجندية الإلزامية، ومن خلال تجربة عشتها في المنفى مع العديد من أبناء هذه العوائل المهجرة على أسس طائفية وعنصرية مقيتة، لم أجد من يتعامل بغير اللغة العربية حتى في عوائلهم وأوساطهم الخاصة، ولم تشفع لهؤلاء من تعسف صدام حسين ـ وريث عفلق في الأفكار والتعاليم ـ المادة العاشرة من دستور حزب البعث العربي، التي جاء فيها ما يلي
المادة 10 ـ العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه للأمة العربية . انظر الملحق رقم 20 في آخر الكتاب.
وهاتان المادتان تخضعان لاجتهاد الحاكم البعثي وتأويلاته، ليوجهها الوجهة التي يريد ويتصرف بهما بما ينسجم مع رغباته وأهوائه، ففي حزب البعث العراقي يجوز لطه الجزراوي الكردي أن يكون عضواً في قيادته القومية، ومزبان خضر هادي الإيراني الأصل عضواً في قيادته القطرية، أما المفكر الإسلامي الشهيد محمد باقر الصدر رض سليل الدوحة الهاشمية، فهو يُصنّف في أدبيات حزب البعث المنحل ووسائل إعلامه البغيضة ضمن مجموعات فارسية أو أنصاف فارسية.
ومن المفارقات الغريبة أن هاشم حسن عقراوي الوزير الكردي السابق والعضو المنشق عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، تعاون مع نظام صدام في تأسيس حزب حكومي يحمل اسم حزبه السابق، وعند وفاته أصدر حزبه الكارتوني بياناً ينعى فيه أمينه العام، وفي نفس الوقت وصل إلى الإذاعة بيان آخر من أمانة سر القطر ينعى فيه الرفيق هاشم حسن عقراوي عضو شعبة حزب البعث العربي الاشتراكي، وقبل أن تقع الفضيحة بلحظات تداركها وزير الإعلام ليسحب البيان الأخير.
وانتسب أكراد آخرون رَغَباً أو رهباً إلى حزب البعث العراقي، ولا ندري هل آمن هؤلاء الكرد بانتسابهم إلى الأمة العربية، كما تنص المادة العاشرة من الدستور البعثي؟ .
التعريفان الأرضي والقرآني للأمة
إنَّ التعريف السياسي السائد للأمة، والمتداول في الكتب المدرسية، والراسخ في عقولنا منذ أمد بعيد، غير مستوف للشروط، ولا يمكن الأخذ به، فتعريف الأمة على أنها جماعة من الناس يعيشون في إقليم واحد، ويجمعهم تاريخ واحد ولغة واحدة يتعارض مع الشكل الذي يحدده القرآن الكريم للأمة. وعلى أساس المفهوم القرآني والتصور الإسلامي تكون الأمة العربية مجموعة أمم لأن القرآن الكريم في قصة أصحاب السبت يقسم أبناء القرية التي كانت حاضرة البحر إلى ثلاث أمم وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُم .
فهؤلاء الناس من جنس واحد وأصل واحد ويسكنون قرية واحدة وبينهم روابط عرقية وقومية واجتماعية وحياتية واحدة. ولغة الخطاب بينهم واحدة، ومع كل ذلك يقسمهم القرآن الكريم إلى ثلاث أمم.
وعن انقسام أهل هذه القرية ثلاث أمم، قال سيد قطب وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم أمة عاصية محتالة، وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة، وأمة تَدَع المنكر وأهله وتقف موقف الإنكار السلبي، ولا تدفعه بعمل إيجابي .
ومن خلال ما تقدم يكون المفهوم الصحيح للأمة ـ في المفهوم القرآني ـ هي مجموعة الناس التي يجمعها دين واحد والتزام واحد ونظام واحد .
وهذا التعريف مستخلص مما قاله سيد قطب عن معنى الأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد، وتدين لقيادة واحدة .
4 العجب.. وتعظيم الدور
إنَّ نظرة عفلق في تعظيم دوره لا حدود لها، إذ لم يكتفِ بأن يضع نفسه في مقام الأنبياء فحسب، وإنما جعل من رسالات السماء ناقصة، ولم تكتمل بعد، ولم تأخذ بُعدها الحقيقي في الأمة، فجاء عفلق لإعادة تكوين الأمة، لذلك تكررت في كتاباته عبارة إعادة تكوين الأمة . وبلا شك إنه يقصد الأمة العربية، التي هي جزء من الأمة الإسلامية، وإن احتضنت نِسباً محدودة من أبناء الديانات الأخرى، فإن هذه الأمة التي يشكل المسلمون غالبيتها العظمى، لم تتكون بعد، وإن جهود السماء والرسول الأعظم ص ودور القرآن الكريم لم تعط ثمارها، وإنما كانت تنتظر بفارغ الصبر أن يهبط عليها تلميذ الاستشراق ميشيل عفلق ليعيد تكوينها.
وكان عفلق يجهد نفسه لإعطائها دور الحكيم المنقذ، الذي تتفجر الحكمة من جوانبه، وإنَّ تلامذته في شهاداتهم كانوا بانتظار تلك الحكمة الموعودة، وظل عفلق يحلم باليوم الذي ينطلق بها لسانه، ليكون حكيم زمانه، ولكن هذا اللسان ظل معقوداً عقود طويلة. حتى وصفه بعضهم بأنه يعجز عن تحرير بيان من صفحات معدودة. كنا في العراق نشاهد عفلقاً، يطل علينا في السابع من نيسان ذكرى تأسيس حزبه من كل عام، ويلقي خطاباً مطولاً يستمر ساعة أو أكثر على شاشة التلفزيون، ويحتل صفحات واسعة في صحف النظام في اليوم التالي. هي كل نتاجه الفكري السنوي، وتشكل هذه الخطابات نتاجات حولية لمفكر الحزب وفيلسوفه . وقد وقفنا فيما مرَّ بنا أن عفلقاً كان يطلب أن يمارس في حضرته أسلوباً معيناً من الطقوس، أو ما يسمى بلغة العصر الإتيكيت من خلال تعامله مع زائريه الحزبيين، وهو دور لا ينسجم معه كأمين عام للحزب، وإنما هو أقرب إلى أدوار الملوك والرؤساء.
إن الاستعلاء سمة واضحة في سلوك عفلق مع مؤسسي وقادة حزبه، وبهذه المناسبة ننقل هذه الحادثة التي سمعتها من الأستاذ فائز إسماعيل قال فيها إن ميشيل عفلق أرسل عليه طالباً حضوره فوراً إلى دمشق لأمر مهم يتعلق بالعمل، وكان آنذاك في حلب يدير شؤون فروع الحزب. فجمع الأستاذ فائز إسماعيل حاجاته، ولبى الطلب على الفور قاصداً دمشق، وتوجه حال وصوله إلى منزل عفلق في حي الميدان، وعلى الباب بعد طرقه فاجأه وصفي عفلق بسفر أخيه ميشيل إلى بيروت، قائلاً له بإمكانك اللحاق به إلى بيروت، وفعلاً انطلق إلى بيروت، ومكث ثلاثة أيام في مكتب صحيفة يديره بعثي من أصل فلسطيني، على علاقة بالأمين العام للحزب. وعلم عفلق بقدوم فائز إسماعيل تلبية لطلبه الفوري، ولكن الأخير لم يستطع ملاقاته، ومرّت الأيام الثلاثة، ولكن دون جدوى، فقفل راجعاً إلى دمشق ومنها إلى مقر عمله في حلب، وكان لهذا الموقف تأثره الحاد على شعور فائز إسماعيل، ومرّت الأيام وفي اجتماع حزبي جمع الاثنين وحضره عدد من قادة الحزب ومسؤوليه، ومنهم الرئيس الراحل حافظ الأسد. عاتب فائز إسماعيل ميشيل عفلق بأدب جم مضفياً عليه صفة الأستاذية. قائلاً له لماذا يا أستاذ غيّبت وجهك عني، وأنا أتبعك من دمشق إلى بيروت ؟ فرد عفلق بخيلاء غريبة لماذا لا تلح في طلبك عليّ. حتى ألتقيك ؟ فانتفض فائز إسماعيل بوجه عفلق وأمام الحضور قائلاً له من أنت حتى ألح في طلبك ؟ ووضعت هذه الحادثة حداً للعلاقة بين الاثنين.
حالات سلبية
إنَّ حزب ميشيل عفلق ينمي الغرور والاستعلاء وحالات سلبية أخرى في شخصية المنتسب للحزب، ومنذ الوهلة الأولى التي يكاد المنتسب الجديد أن يكون مرآة ينعكس عليها سلوك القائد وأفكاره، فإن الكلمات الأولى التي يسمعها لها وقع كبير في صنع شخصيته، يقول فائز إسماعيل كنا في منح شرف العضوية للرفاق في الحزب نقيم احتفالاً بسيطاً، وبعد تأدية العضو الجديد للقسم الحزبي يلقي مسؤول الحزب كلمة يسمع فيها العضو الجديد كلمات الإطراء والإشادة في جمل محدودة من قبيل أصبحت إنساناً جديداً، ومسؤولياتك صارت أكثر من الماضي.. لقد كنت رقماً وأصبحت الآن قيمة.. أنت الوطن العربي بكامله . ولنا أن نتصور فعل هذه الكلمات في شخص مثل صدام حسين، اليتيم الذي لم يتوفر له الحد الأدنى من التربية والتوجيه، والتلميذ المتسكع الذي عاش على فتات موائد الأقارب، أو على لحس قصاعهم، لأن معظمهم كان يعيش في فقر مدقع، والمشاكس الذي يستخدم السلاح الناري في ترويع معلميه، وطريد الأسرة والعشيرة والشارع والقانون لتلبسه بجرائم كثيرة.
إنَّ صدام حسين حينما يسمع من فؤاد الركابي أمين سر القطر، أو من طالب شبيب عضو القيادتين القومية والقطرية، كلمات الإشادة والإطراء التي لا يتحملها كيانه، وقد تؤدي تأثيرها السلبي المتناغم مع نفسه الشريرة، لأن صداماً في صغره وصباه لم يسمع غير كلمات التقريع والإهانة، ولم ينل غير لسع السياط على يد زوج أمه إبراهيم الحسن.
لقد اختلف قادة حزب البعث العراقي في تحديد الشخص الذي منح صداماً ما يسمى بشرف العضوية، وربما برز هذا الاختلاف فيما بعد لأن صداماً صار ذا شأن ومقام رفيع، فتنافس الرفاق في ادعاء هذا الشرف و كُلٌ يدعي وصلاً بليلى .
فطالب شبيب يذكر بأن أهم لقاء جمعَهُ بصدام حسين في دمشق بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم، وكان حينها نصيراً غير حائز على عضوية الحزب العاملة، فكُلفت شخصياً بترديد قسم العضوية له، مكافأة على استعداده للتنفيذ، وفعلت ذلك بحضور فاضل الشاهر عضو شعبة هارب وأعتقد فيصل حبيب الخيزران، وتكمن أهمية هذا، في أن العضو الحزبي يظل يتذكر طوال حياته اليوم والشخص الذي ردد له القسم الحزبي وينظر إليهما باحترام وتقدير خاص.
أما حازم جواد فيروي غير ذلك. قائلاً في 7 تشرين أول 1959 سارع فؤاد الركابي إلى الاختفاء في منزل قريبه جواد. لم يكن الحزب يمتلك أوكاراً سرية أو مخابئ آمنة، اعتقلت السلطات بعض المنفذين وفرّ آخرون، وفي بيت أهله لاحظ جواد أن فؤاد الركابي كان يسأل مساعده عبد الله الركابي كلما جاءه عن مصير شاب اسمه صدام حسين، شارك في محاولة الاغتيال وأصيب خلال تبادل إطلاق النار، وبعد أسابيع سيفرُّ الركابي وجواد والسعدي وعبد الله الركابي إلى سوريا.
كمين الرشيد
في سورية بدأ الركابي يسأل عن مصير صدام. ولم يخطر بباله للحظة واحدة أن هذا الشاب الذي استدرجته الصدفة إلى المشاركة في كمين شارع الرشيد، سيحكم العراق بعد أقل من عقد، وأنه سيكون بين أبرز ضحاياه، راح يتصل بالاستخبارات السورية المكتب الثاني إلى أن علم أن صداماً وصل بعدما تخفى مع صديق له اسمه فاتك الصافي في منطقة العوجة، ثم توجها إلى سوريا.
في تلك الأيام سترسم بداية قصة صدام حسين، يرجع جواد إلى ذاكرته ويقول ابتهج الركابي بوصول صدام سالماً، قال لي أنا أريد أن أكرّم الأخ صدام. فأجبت إننا لا نملك شيئاً فكيف نكرمه، الطريقة الوحيدة التي نستطيع تكريمه بها هي أن نقبله عضواً عاملاً في حزب البعث، لعبت الصدفة دورها، كان فريق الاغتيال مؤلفاً من ستة أشخاص، خلال عمليات التحضير اعتذر شاب اسمه ياسين السامرائي عن المشاركة، وخوفاً من أن يبوح بما يعرف أرسله الركابي إلى سورية، وطلب من الجهاز السري ترشيح بديل عنه، اقترح الجهاز إشراك شاب حديث العلاقة بالحزب يبدو شجاعاً ومتحمساً ومستعداً، وهكذا انضم صدام الذي أعتقد أنه كان مجرد نصير إلى فريق الاغتيال. ويضيف أراد فؤاد الركابي تكريم صدام وتجاوز الإجراءات الحزبية التي تقضي بأن يمضي النصير سنتين أو ثلاثاً قبل قبوله عضواً عاملاً. ولأن الأصول تقضي بتأييد اثنين لقبول الشخص الجديد. قال الركابي أنا أرشح صدام وأنت تثني على اقتراحي، وافقت، فالشاب ساهم في العملية وجُرح، وعلى رغم ذلك نظّم بنفسه رحلة فراره إلى سورية. في شقة تحت الأرض في دمشق، هي عبارة عن قبو، عقد اللقاء برئاسة فؤاد وحضوري، إضافة إلى علي صالح السعدي، ومدحت إبراهيم جمعة، وعبد الله الركابي، وربما أسماء أخرى، ألقى فؤاد كلمة أشاد فيها بـ الرفيق العزيز صدام وامتدح شجاعته ووفاءه، وقال إنه اقترح قبوله عضواً عاملاً في الحزب، وإنني ثنيت على اقتراحه، عندها وقفنا جميعاً ووقف قبالنا الشاب الخجول المنتصب القامة الحاد النظرات، الذي تميل سمرة جلده إلى السواد. قال فؤاد القسم الحزبي وردده صدام وراءه، بعدها قبلنا الشاب وجلسنا نتسامر نحو ساعتين حول أكواب الشاي وقالب كاتوه، بعدها استأذن فؤاد في الذهاب إلى القاهرة، وطلب صدام منا السماح له بالذهاب إلى العاصمة المصرية لاستكمال دراسة الحقوق، فوافقنا إذ لم نكن نحتاجه في سوريا، ولسنا في وارد إعادته إلى العراق، فهو شارك في محاولة اغتيال الزعيم الأوحد .
/4/2012 Issue 4175 – Date 16 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4175 التاريخ 16»4»2012
AZP07