3 ملايين أرملة والمسنون يعانون عقوق الأبناء والتفكك الأسري
الموصل – قيس طلال
تتقدم فتحية محمد علي ابنة العقود الستة بخطوات ثقيلة تشي بمعاناة لا يمكن لعاقل أو صاحب قلب رحيم تجاهلها. تتنقل بين أروقة دار المسنين في الموصل، بجسد أثقله المرض وأضناه التعب.
كانت تبحث عن من تحدثه عن معاناتها، أو ربما من تتحدث معه لتشبع جوعها للكلام، بعد ان هجرها أبناؤها الأربعة وبناتها تاركين اياها في دار للمسنين منذ مدة وصفت وضعها خلالها بمدة إعدام بطيء. (أولادي كانوا ماكوا مثلم بالدني قبل زواجهم) هذا ما تقوله في مفتتح حديثها مع (الزمان) بطبعتها الدولية بلهجة موصلية قح . وتضيف فتحية وقد بدأت يداها ترتعشان معلنتين عن فورة مشاعر الأم التي كادت ان تموت قبل أن يبدأ هذا الحديث (أنا ابحث الان عن الكلمة الطيبة التي فقدتها منذ زمن طويل) .
لم يدر في خلدي ان هذه المرأة المسنة التي لم ترتكب ذنبا قد أنجبت اربعة أولاد وربتهم حتى صاروا ضباطا في الجيش العراقي.
تقول فتحية انها (أم لاربعة أولاد وهم جميعا ضباط في الجيش العراقي، وأن أصغرهم ضابط برتبة نقيب ، وهي تشكو عقوقهم إذ أنهم لا يستقبلونها في منازلهم بتحريض من نسائهم بعد رحيل زوجها عن الحياة).
وتمضي فتحية بالقول انها (رفضت التنازل لأولادها عن الراتب التقاعدي الذي تركه لها زوجها الذي انتقلت بعد وفاته إلى دار المسنين، وتقول هذا هو سبب إضافي لخلافي مع أولادي) .
تحدثنا فتحية المسنة عن منازل أولادها الفخمة وإمكاناتهم المادية التي تغنيهم عن راتبها التقاعدي، وتؤكد حاجتها له في هذا العمر المتقدم. (حاولت جاهدة ان تلجم دموعها وهي تتذكر ان اليوم هو عيد الام، فانهالت دموعها مدرارا على خديها اللذين رسم الزمن عليهما قسوته).
قالت (اتذكر جيدا ايام طفولتهم واتذكر جيدا كيف البستهم اول كوكبة على كتفي كل منهم بعد تخرجهم من الكلية العسكرية، أفنيت عمري لأجعلهم مختلفين عن أقرانهم من الشباب في تلك الايام الصعبة ).
وبدأت تتحدث كيف تراودها الذكريات معهم، (ذكريات الدراسة والسهر والمرض وأيامهم الاولى في الروضة التي حرصت على ان تلحقهم بها، وما تلبث ان تتذكر صورا أخرى وأخرى وعلى ايقاعها يزداد اهيال الدموع لتغص وهي تقول اتذكر كيف ربيتهم جيدا ). وتقول فتحية وهي تنظر الى صورة تظهرها ويتحلق حولها ابناؤها وبناتها فتعلن أن تلك الصورة هي ما تبقى لها بعد هذا العمر الطويل الآيل إلى الزوال، تحاول عبثا باليد الاخرى ان تتمالك نفسها وتلجم دمعها (لا اريد شيئا منهم، لا اريد ان يهنئوني بعيد الام اليوم ولا ان يتذكروني، يكفيني ان اسمع أخبارهم وأنهم بخير) .
وتختم حديثها (ماذا أفعل واخشى إن دعوت عليهم الله تعالى أن يقع عليهم مكروه فيأكلني الندم) .
قالت ذلك قبل أن تمر امرأة مسنة اخرى كانت تسترق السمع لتأخذها منا، وهي تواسيها بالقول لست وحدك هنا، فنحن اكثر من ثمانين مسنة كل واحدة منا تحتضن قصصا مشابهة لقصتك.
كثيرون من ابناء محافظة نينوى يشهدون اليوم على حالات عدة مشابهة لـحالة فتحية محمد علي التي انتشرت مثيلاتها خلال السنوات القليلة الماضية، وهو ما تؤكده الباحثة الاجتماعية في دار المسنين رويدة سلمان محمود .
التي قالت ان (حالة عقوق الأبناء لذويهم بدأت تزداد وتظهر بشكل بارز في العوائل التي تعاني من تفكك اسري، أو جراء الفقر المدقع او ضعف الوازع الدينين هذا اذا استثنينا ما للاعمال الارهابية من انعكاسات ظهرت في ما خلفته من شريحة الارامل والنساء فاقدات المعيل مر العراق خلال العقود الأربعة الأخيرة بحروب وصراعات انعكست مجرياتها سلبا على البنية الاجتماعية العراقية فبثت فيها بذور التفكك والتآكل).
في دراسة أجرتها الأمم المتحدة ومراكز أبحاث أخرى في العالم ثمة تأكيد على أن عدد الأرامل في العراق قد بلغ ثلاثة ملايين.
ولكن على ما يبدو أنه لأمر صعب للغاية إيراد أرقام دقيقة عن أعداد الأرامل العراقيات نتيجة ارتفاع أعدادهن ارتفاعا مطردا في ظل غياب القدرة على تسجيل معظم الحالات التي تنتج عن أعمال العنف فتضيفها اعدادا أخرى إلى الأعداد المعروفة.