jalil wadi

كلام أبيض – جليل وادي

عناد المغايرة وأسطورة المواكبة

عندما كتبت مقالي (أساطير مواجهة البث الفضائي) في جريدة الجمهورية منتصف التسعينات، لامني كثيرون، وحذروني من الخوض في غمار هذه الموضوعات غير المرغوب بها، لان أغلب الكتابات حينها كانت تتماهى مع توجهات الدولة بشأن مخاطر البث الوافد، وقد صدقت تحذيراتهم، وكانت لذلك حكاية فيها من القلق بقدر ما فيها من الطرافة، فقد  أثار الموضوع اهتمام المعنيين ومن أعلى المستويات، الى درجة شكلت لجنة لدراسته مؤلفة من ممثل لمجلس الوزراء وعضو من المخابرات ومدير مركز البتاني لمراقبة الاقمار الصناعية ومدير تلفزيون العراق وكاتب المقال وآخرين لا اتذكرهم، ورأسها خبير من العاملين في شركة أقمار عربسات، وكنت ادعو في المقال الى ضرورة الانفتاح على البث التلفزيوني الفضائي، وان الاجراءات التي تقوم بها الدولة لحرمان المجتمع من هذا البث ستبوء بالفشل لامحالة، وان المراقبة لايمكنها بحال السيطرة على الطرق والأساليب التي يتبعها الافراد، وان استقبال البث الفضائي امر حتمي بحكم تطورات التكنولوجيا، ما كان يخشاه أصحاب القرار هو حالات المقارنة التي يمكن ان تحدث لدى المجتمع بين الواقع الذي يعيشه وما وصل اليه العالم، خصوصا وان تراجعا واضحا قد شهده العراق الذي أطبقت عليه كماشة الحصار وامتدت تأثيراتها لمنظومة القيم الاجتماعية .

دراسات عراقية عديدة قدمت حينها بشأن هذا الموضوع وكانت تؤكد جميها على التأثيرات السلبية المحتملة للبث الوافد في المجتمع من دون تناول تأثيراته الايجابية التي قد تفوق ما هو سلبي. وعندما يُطلب تقديم توصيات، تأتي وقد غلب عليها الانشاء أكثر من الحقائق، وقد أدركت لاحقا انهم يعرفون اكثر مني بكيفية مخاطبة الجهات العليا في الحساس من الموضوعات، ربما كنت واقعا تحت تأثير حماسة الشباب لفتى قروي.

اريد القول ان الدول لا يمكنها الصمود امام حتمية تطورات التكنولوجيا مهما كانت شدة الاجراءات التي تتخذها، وعليها أن تأخذ هذا بالحسبان، ومن منظور المحتوى القيمي الذي تفرضه هذه التطورات، بمعنى اذا ارادت الدولة ان تكون متمدنة كما هو حال العالم المتقدم الذي طالما تشدق السياسيون في خطاباتهم بالسعي لتقليل الفجوة معه، فعليها ان تكيّف منظومتها القيمية السائدة مع ما هو وافد عبر هذه الوسائل، وهذا لايمكن ان يحدث بين ليلة وضحاها، بل يراد له عمل بصير ودؤوب، وبعكسه فأن المجتمع سيتعرض لحالات من التناقض والصراع نتيجة التعارض بين القيم المتحكمة به في الواقع وتلك التي يراها ويتطلع لها، ذلك ان الحتمية لا تقتصر على انتقال التكنولوجيا فحسب، بل تشمل ايضا القيم المستحدثة، والفرق بين الاثنين ان الاولى أسرع في وصولها لمجتمعاتنا من الثانية، وبطء وصول المستحدث من القيم مرتبط بحالات التفاعل مع المنظومة القيمية السائدة، لان من الثقافات من تمتاز بعنادها وعدم مرونتها في استقبال الجديد من القيم الا بعد حين من الزمن،فضلا عن ارتباط ذلك بنوع السلطة المهيمنة في المجتمع،  اذ يمكن للسلطات المتخلفة  تأخير وصول الجديد من القيم، لكنها غير قادرة على منعها ابدا، وبالمحصلة ستكون مجبرة على القبول وان كانت غير مؤمنة بها، فمثل هذه السلطات كانت اعترضت على جميع وسائل التكنولوجيا الجديدة بدءا من السينما وانتهاء بالانترنيت، ورفضت كل ما يتعلق بقيم التمدن التي نقلتها تلك الوسائل، لكنها فشلت، بدلالة المقارنة بين المجتمع في العشرينات والمجتمع الان، والغريب ان تلك السلطات لم تيأس، ولم تتبلور لديها رؤية مستقبلية مستندة الى فهم عميق لقيم عالم اليوم، وبدل ان تكيّف قيمها، عملت على اعادة المجتمع لقرون خلت، ما عرّض المجتمع في راهنه الى صراعات نفسية واجتماعية، أظن ان علماء الاجتماع والنفس بمقدورهم وصف حجم الصراع الحاصل وتأثيراته النفسية، فالناس تريد ان تعيش الحياة بأشكالها البهيجة، وليس الدوران في أقبية مظلمة، اجزم ان الرؤى التي تجافي هذه الحتمية تحول دون مواكبتنا للعالم والاندماج فيه، ويصح عليها وصف التخلف دون تردد.

مشاركة