برميل عتيق للبيع أو للإيجار**
عبدالكريم يحيى الزيباري – دهوك
جالساً في المقعد الأخير من باصٍ صغير ذي أحدَ عشرَ راكباً، يسمونه باللغة العامية رَفْ ، توقفت السيارة، انتظرَ حتى نزلَ الركاب كلهم، راقبهم فرداً فردَاً، فضولُ النَّظر يعيد إلى الذاكرة خواطر سيف الرحبي في يتمية الدهر، وقع ضحية ثرثرة مزعجة لم يكن بالإمكان تفاديها، قال لنفسهِ
لكلِّ واحدٍ من المسافرين مثلي حكاياته، لكنها ليست بتفاهة حكاياتي.
سحبَ قدميهِ ببطء من تحت المقعد، وَضَعَهما في الحذاءِ، ربطَ الشريط سريعاً، فاحَتْ رائحة جوربهِ، فتحَ النافذة الصغيرة، ترءاتْ له المسافات خُطَىً كاذبة، دنيا من الحكايات في فضاء غير محدود التفاصيل، بقعةٌ ضَيِّقة، شبه جزيرة تحيطها الجبال إلا من الغرب، تنفتحُ على سهل سميل وزاخو، من الجنوب جبل زاوة، طالما يقفزُ من فوقهِ الشباب، والجبل الأبيض من الشمال، جاري لديه نقطة حراسة في أعلى الجبل، طالما صَدَعَ رأسي بخطورة واجبهِ، حكى لي كيف استطاع مقاتلوا البككا أنْ يسيطروا على هذه النقطة، ربما يعني أنَّه لولاه الآن لسقطت المدينة، تحت مرصد القنَّاصِ يتصيد سكان المدينة الخائفة، كما حدثَ ذات شتاء، قيل لي عن هذه المدينة الصغيرة أنَّها تبتلعُ القادمين الغرباء، تطحنهم، تهضمهم، تلعنهم، تحتضنهم، تتسلى بعذاباتهم بقسوة صمتها اللانهائي، تَخيَّل أنَّ رجلاً من بين كل الناس يبرزُ أمامكَ فجأة، ويسألكَ عن الشاعر الراحل صبري بوتاني، طبعاً أعرفهُ، رغم أنني كنتُ أسكنُ بعيداً هناك في المنافي، في هور الحمَّار والسودة والبيضة، وباب الهوى في الميمونة، والمَجر الكبير، وناحية العدل، وأحنُّ إلى هذه الأماكن أيضاً، لقد تجولت فيها لثلاث سنوات، قد يبدو هذا اختلاقاً، لكنها حقيقة .
كراج النقليات أسفل الجسر الجديد، قرب محلة شيلي، عَبَقُ المجاري في محلاتها الضيقة العتيقة، رائحة حساء أصفرٍ داكنٍ من الفلفل والكاري والبهارات، حَبَّاتٍ كبيرة من الحُمَّصِ الكردي، مهروسة مع لحم الدجاج المحلي مُفَتَّتِ العظم، رائحةٌ تملؤني حنيناً إلى أعيادِ الزمن الجميل، وهداياه ونقوده وجولاته المكوكية، كالغواية في قلوب العشاق مَذَاقُها، محلات ضيقة لا تسمحُ بمرور سيارة واحدةٍ، بالكاد تسعُ حواراتٍ بريئة بين رجلٍ مُسِنٍّ لا يملُّ تكرار بطولاته الجبلية، لا بعيداً عن أدويسيوس البحري، وتعليقات عجائز المحلة، كلمات وأشياء صغيرة، بسيطة، لا أحد يلتفتُ إليها، لكنها لم تختفِ بعد من دهوك 2012، لَمْ تَنَلْ منها آلات الهدم الجبارة، ولا أكداس وحوشٍ غاضبة تَنْبُتُ بالإسمنت المسلَّح وتنتشرُ كالسرطان، فنادق خمسة نجوم تتربَّعُ فوق أنين الطبقة المسحوقة، تتساقطُ من شرفاتها، أكياسٌ سوداء تُخبِّئُ قناني الخمر الفارغة، حضارةٌ بأربعةِ أقدام، تلتهمُ اللون الأخضر الضائع في حلقات الدخان التي يطلقها السيكار الكوبيِّ الغليظ في فمِ صاحب الفندق الجديد، ذي الكَرِشِ الكبير المتهدِّل، يستيقظُ بعد الظهر بساعتين، يتثاءبُ، طامعاً سكراناً، غارقاً في بئرِ وحدتهِ اليابسة، تطلقت ابنتاه الوحيدتان، وابنهُ مهاجرٌ في بلاد الغرب، لم يعد منذ سبع سنين، أقسمَ أنْ لن يعود، حتى ينتهي مجلس عزاء والدهِ، الولد سِرُّ أبيهِ، سكران، مأخوذاً بأحلامِ الثروةِ منتفخاً جوعان، تتراكضُ حوله عاملات النظافة شُعْثَاً، حاسِراتِ الرأس، إلا واحدةً منهنَّ ترتدي الحجاب، لا ترفعُ رأسها والعار يسحقها، تلاحقها فكرة الانتحار، بَطْنُها تكبر بسرعة، بعد قليل سيكتشفُون أنَّها حُبْلَى وينتهي كل شيء…. حَسَدٌ وغيبةٌ، وَهَمْزٌ وَلَمْزٌ، وَسَخافةُ الرأيِ مع التذمر، مع أنواعٍ جديدة من الشتائم استحوذت على العالم الجديد، الكسلُ وسقوطُ الهمة، غلبَا طبائع البسطاء كثورة عفوية ضدَّ ترف الأغنياء، وغلبة الخواطر السوداء، رجلٌ يركبُ سيارةً بخمسين ألف دولار، يرتدي بدلةً بخمسة آلاف دولار، وَمُجَمَّعٌ سكنيٌّ سعر القصر الواحد بلغَ مليوناً وثلاثمائة ألف دولار، وبقربهِ صديقي العجوز أسدُ الجبلِ سليم خان، يموتُ بحسرتهِ، لا يملكُ بيتاً، ولا سيارة، لم يجلس ذات يوم في مطعم شندوخا ولا مالطا، عاشَ ورحلَ فجأة بهدوء، لم تشيِّعه إلا سيارتان من من جيرانهِ، كان مجلس العزاء متواضعاً، وبعد أسبوعٍ واحدٍ كان سليم خان كأنْ لم يكن، لم يكن لديهِ ثمن العملية الجراحية، توقفت كليتهُ، لم يفكر ذات مرض بدواءٍ من خارج القطر، لم يفكر في الوقوف على باب أحد المسئولين من أصدقائهِ، لم يفكر في الاستدانة، تركَ ولداً في الصفِّ السادس الابتدائي يستوطنُ الشوارع من الضحى إلى منتصف الليل يبيع كارتات الموبايل، من أجلِ عشرةِ آلاف دينار يومياً، يحرقها أحدهم في سعرِ سيكارٍ كوبيٍّ فاخر، كنتُ أقول لنفسي وأنا أرى باصات الشركات السياحية تترى من بغداد والجنوب، والجماعات زرافات حول مطاعم الأكلات السريعة
ليت لي جرأة أنْ أقفَ أمامكم وأسأل هل تعرفون الشاعر صبري بوتاني؟ هل سمعتم بإحدى تعليقات محمد أمين عثمان؟ هل تعرفون كيف عاش صديقي سليم خان؟
لا لن تعرفوا ولن تعرفوا دهوك العتيقة التي أحاول إعادة اكتشافها…
الله تبارك وتعالى لم يخلق مذاقاً أحلى من العدل والمساواة، ولا أمرَّ من الظلمِ والطمعِ بما في أيدي الفقراء، هكذا تتسِعُ الفوارق الطبقية، يتظالم الناس فيما بينهم، ويتفشَّى الباطل حتى يصرخ الناس ويستغيثون ليل نهار أينَ الحق؟ أينَ العدالة؟ ما هي مقاييس توزيع المنافع والأعباء الاجتماعية؟ لِمَنْ وظائف الدرجة الأولى؟ أ للفاسدين من ذوي المحسوبية ودرجات القرابة أم لذوي الكفاءةِ والنزاهة والاختصاص؟ لِمَنْ قطعُ الأراضي والاستثمارات؟
في نهاية شارع نوهدرا يقعُ محلٌّ لبيع الأنتيكات ومنتجات الصنائع اليدوية والتراث، وجدتُ برميل نفط محوَّر بدقة ولطافة إلى كرسي مقعَّر ملون مكتوب عليهِ برميل عتيق للبيع أو للإيجار . من بعيد لاحَ لي السيد المدير الثقافي، كعادتهِ يمارس المشيَ في جولة الحارس المنفرد، الحزين الفكه الظريف، ابتسمَ ابتسامته التي طالما ظننتها مزيفة، قلت لهُ حالما تصافحنا
لقد ضَعُفَ بَصري حتى ظننتكَ برميل نفايات يتدحرجُ من بعيد؟
وأنا كذلك ضَعُفَ بَصري حتى ظننتكَ رجلاً… هههههههههههههههه…
يسبقني بخطوتين دوماً، يحبُّ المشيَ كثيراً، كان معه شخصٌ آخر، لَمْ أرهُ من قبل، كانت الساعة الثانية ظهراً، في مطعمِ سفين قَصَّ علينا كثيراً من الطُّرفِ. في مكتبة جزيري خبَّأ رأسَهُ بين صفحتي كتاب وهو يرى زميلاً يدخل، وقال
هذه المكتبة لا تبيعُ كتباً للبرواريين
بسرعة تنسون من علمكم القراءة، ها أنت هنا، ما هذا أينَ ذهبتَ أسنانك؟ ههههههه
ماذا بيدكَ؟
التقطه، تصفحه، جميل، يقرأ
مائة شخصية عظيمة جميل رائع. أخيراً ستقرأ كتاباً
لقد اشتريته من أجل إذاعة مائة حلقة، لكلِّ شخصيةٍ حلقة.
جميل رائع.
تذكرتُ أننا حين خرجنا من مطعم سفين ذات غداء، لم أرَ السيد جانكير يدفعُ الحساب، كما لم يُضِفْ إلى قائمة الحساب، غداء صديقهِ الذي اتصل بالسيد جانكير، وسأله أين أنت، وقال له تفضل نحن في مطعم سفين، فقال وكأنَّهُ غير مُصَدِّق رغم أنني بعيد، لكن لا تخرجوا قبل وصولي رجاءً ها ههههههههه…. رجاءً ههههههههه. ولم تنتهِ ضحكته حتى كان جالساً بقربنا يا للمصيبة، كم يثرثر هذا الطارئ، يبتلعُ هواءً يُخَرِّجُ أكاذيباً.
/8/2012 Issue 4267 – Date 2 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4267 التاريخ 2»8»2012
AZP09