يوم العطلة – نصوص – أماني سعد ياسين
التمع ضوء الشمس من بين أغصان شجرة الصنوبر العالية ، شعَّ كنجمة مضيئة في السماء تتدلّل متربّعةً في الأعالي ، في وسط شجرة الصنوبر حيث كانت تجلس الطبيبة ريهام هي وزوجها .
إنّه يوم عطلتها الأسبوعية . جلست على العشب الأخضر ، زقزقة العصافير من حولها تُطرب الآذان .نظرت بشرود الى السماء البعيدة .أغمضت عينيها تريد أن تحتفظ بذلك الإحساس المفعم بالأمان ، هذا الشعور الذي دائماً ما تشعر به في كينونتها كلّما جلست مع ذاتها حيث ربَت وكبرت في وسط الطبيعة الغنّاء .
لا شيء سوى الصمت ، والصمت فقط !..
لا ضجيج محرّكات ، ولا سيّارات ، ولا مولِّدات تصمُّ الآذان ، ولا صريخ ولا ضجيج ولا ولا .. ولا ..
فقط صوت العصافير المغرِّدة ، وصوت الديك يصيح من حينٍ الى آخر ؛ ضحكت !..
الساعة الآن الخامسة والنصف من بعد الظـــهر.
كانت تظن أنَّ الديك لم يكن يصيح إلّا مع أضواء الصباح الباكر . هي حتماً مخطئة !..
ها هو يصيح ولعدة مرّاتٍ متتالية منذ وصولها وجلوسها في الحرج الصنوبري أو ” الحرش ” وهو الإسم المتعارف عليه لدى أهل المنطقة لغابة الصنوبر الهادئة في المنطقة الجبلية حيث نشأت وترعرت وهي صغيرة .
لم تكن لتسعد لو خرجت هي وعائلتها الصغيرة الى أيِّ مكانٍ في أقصى الأرض ما لم تكن مكاناً فيه الجمال والخضرة والطبيعة كما أوجدها اللهُ جلَّ وعلا في بلدها لبنان بطبيعته الخضراء الجميلة .
تناهى الى سمعها صوت ” الزيز ” من جهة وصوت ” الزرزور ” ، كما أسماه زوجها ، من جهة أخرى . كلُّ صوت له خاصيّته ومزيته .
هي سمفونية الطبيعة تبعث ألحانها ؛ تزقزق العصافير شاديةً وهي تطير من غصنٍ الى غصن بين شجرات الصنوبر الباسقات ، ويستمر شدو الطيور الجميل ، ترانيم من البوح والسؤدَد وهي مختبئة في أعشاشها .
تأوهّت من أعماق القلب ، وتمتمت
” سبحان الله ” .
لم تكن لترتاح من عناء تعبها المستمر والمتوالي على مدار الأسبوع وذلك بسبب عملها كطبيبة في عيادتها حيث تعمل بشكلٍ يومي مفضلة الهروب الى الطبيعة حيث نشأت وترعرت في وسط الطبيعة الجبلية الخلّابة ، وبالتحديد في الحرش الواقع خلف منزلها حيث تتطاول أشجار الصنوبر وترنو شامخةً الى السماء .
كانت تمتلك مكتبةً طبيعيةً في زاويةٍ من التضاريس الجبلية الوعرة بالقرب من منزل والديها ، هي عبارة عن صخرة كبيرة مسطّحة تحت شجرة بلّوط كبيرة وقديمة تقع على بعد أمتارٍ قليلة من منزلها .
لم يكن يحلو لها أن تدرس أو تحلّ فروضها المدرسية وهي صغيرة إلا في مكتبتها الطبيعية تلك أو كما كان يحلو لها أن تسمّيها ” المقر السري ” ؛ لم تكن تترك مقرّها السرّي إلا لضرورة ما أو حينما كانت تمطر أو تُثلِج ، عندها كانت تلجأ الى مكتبةٍ بديلة في أعلى الدرج أو مدخل البيت الصخري القديم .
تبسَّمت ، وهي في شرود ؛ البارحة فقط شبَّهتها إحداهنَّ بميخائيل نعيمة ، الأديب والفيلسوف اللبناني المعروف .
لم يكن التشبيه بعيداً في نظرها ، فهو أيضاً من منطقة جبلية لبنانية تدعى بسكنتا . وكان تأثير الطبيعة واضحاً في أعماله ومؤلفاته وحتّى في نظرته الفلسفية للحياة ككلّ .نظرت الى البحر الممتدِّ أمامها تنعكس عليه أشعة الشمس البرتقالية .
في نظرها لم يكن هناك أجمل من هذا المنظر في الكون أجمع .
استلقت على العشب كما كانت تفعل وهي طفلة صغيرة ، تنظر الى المشهد الجميل المترامي كلوحةٍ فنية رائعة الجمال أبدعتها يدا رسّامٍ ماهر ، تتراقص الأعشاب الجبلية البرية أمامها مع نسمات الهواء ، بعض هذه الأعشاب طويلة جداً لم تكن ترى مثيلاً لها في أماكن أخرى .
وتمر من وقتٍ لآخر فراشةٌ ملوّنةٌ من أمامها تطير في الأجواء المحيطة .
هي جنّةُ الله على الأرض !..
لم تكن تعرف ماذا كانت لتفعل لولا جلوسها واستمتاعها في هذه الجنّة الغنّاء من وقتٍ الى آخر للتخلّص من الهموم والمشاكل المتراكمة ، ولشحن بعض الطاقة الإيجابية من أجل الإستمرار والإستقواء النفسي والبدني على المُلِمّات والشدائد المستجدّة بشكلٍ مستمر كونها زوجة وطبيبة وأمٍ لأطفال صغار ولديها ما لديها من مسؤوليات .
تنفسّت الصعداء .
يا لها من راحة !..
ليتها تستطيع أن تتمتّع دائماً بهذا الهدوء المريح .
“هيّا يا عزيزتي “
استفاقت على صوت زوجها ينهرها بلطفٍ متودِّد ، ” نحن في السيارة ننتظر !..”



















