يوميات ‬- نصوص – مزهر جبر الساعدي

قصة قصيرة

يوميات – نصوص – مزهر جبر الساعدي

غادرت أبنتي شتاين الى عملها قبل دقائق، تركتني وحدي في الصالة، لأني في أجازة من عملي هذا اليوم. حركة السيارة وزماراتها، أصواتها تدخل الى صالة الشقة عبر النافذة المفتوحة على الطريق العام . لم أنم في الليل ، حاولت النوم ، جافني، أمتنع عني رغم وسني الشديد ، قوة في داخلي أشد من نعاسي وتعبي، صدته عني . ظللت مستيقظة، أحاول أن املأ فراغ يومي، شتاين تركت قبل أن تخرج ألبوم صور العائلة ويوميات أوغسطن على المنضدة الصغيرة عند رأس سريرها، أنا, قرأته منذ أكثر من عقدين، قرأته لعشرات المرات، ألمني ما فيه، في حينه، إذ كان يخطط في العودة إلى تشيلي، بعد إن ينتهي عقد عمله مع الشركة، بعد أشهر، أضطرتني ظروف حياتي المستجدة وضغط العمل عليَ, على نسيانه، وضعته في أحد المجرات مع كتبي, عندما رأيته، فاجأتني أبنتي، بإحتفاظها بدفتر يوميات أبيها، وجدته مع كتبي، أتذكر طلبت مني, قبل سنين, حينها كانت طالبة في الثانوية، السماح لها بقرآءة كتبي وقت فراغها.

 لم تضعه في الدرج خاصتها وتقفل علية، على غير عادتها، المعروفة عندي, في المحافظة على حاجياتها, تعجبت من تصرفها, تركته مفتوحاً، جرت بسرعة، قلقة ومضطربة رغم محاولاتها على أخفاء أرتباكها.

تناولت الدفتر من على المنضدة الصغيرة، بدأت أقرأ في الصفحة المفتوحة أمامي:ـ

 30 /12/1986

خرجت من المخيم، تركت صديقي، نائم، تلك هي عادته. وأنا في العراء ، سمعت عواء ذئاب من بعيد, وفي الوقت ذاته، نباح رياح، أزت في أذاني ،في الأمتداد اللانهائي للصمت الكثيف، ليل يحفر دروب عميقة في روحي .

النجوم في السماء عيون تتلامع، يغويني الليل والنجوم والسماء والكون وما فيهما من كائنات الليل ،رغم خطورتها.

تنقل الرياح أصواتها نحوي، أحادثني:ـ

الصحراء، الموجودات فيها تثير الريب، تبعث على الخوف والترقب والتأمل، كائنات الليل هي جزء من هذا الوجود الملغز، تبحث عن النوايا في رياح الصحراء، لا تعرف ما تنتويه هي أو كائنات الليل فيها أو أين هي الكائنات، ربما قريبة منك ولا تحسس وجودها ،مجاستك لا تمسك بها. أقف على التلة المشرفة على الوادي الممتد أسفل مني، بالقرب منه،على بعد ثلاثين متراً، الأنبوب الناقل المفترض للنفط العراقي، قيد الأنشاء. يخرجني مما أنا فيه، صوت براون، رئيس المهندسين للشركة المنفذة:ـ يجب الأنتهاء منه بسرعه.

جعلني هذا أحن إلى أهلي، فترة طويلة لم أزر عائلتي، بي لهفة بالعودة إليهما.

براون لغز من أهم ألغاز الصحراء ، غير جدير بالثقة، تجربتي معه علمتني ذلك وأشياء أخرى.

عملت معه قبل هذا المشروع في مشرعين، واحد في الكويت والآخر في الأمارات. في هذا المشروع غصت عميقاً فيه،  أحطت بجميع جوانب شخصيته المخفي منها وهو كثير والظاهر وهوقليل جداً.

منها، في أكثر الأحيان يوزع تثبيت ركائز حمل الأنبوب، على مقاطع العمل ، يجزئها على الارض الرملية ، يبين حجم المكافئة التي ترتب على سرعة الأنجاز في هذا المقطع أو ذاك.

خلال ذلك يركز على واحد من المهندسين، يجرى هذا في المساء، قبل البدء في العمل، في صباح اليوم التالي، يجعله يفهم ،أنه مرشح للعمل فيه لكفاءته. الحقيقة غاضب منه ،لأنه عارض قبل شهرين في طبيعة أنجاز الركائز وعمق غورها في الارض الرملية والتي ستحمل الأنبوب .

يقول له:ــ  يتعرض لاحقاً، بعد سنوات قليلة ، الأنبوب الى الأنهيار, يكتشف المهندس في العمل، عليه تثبيت الركائز على أرض رملية عميقة الغور، الرمال فيها متحركة أكثر بكثير من  المقاطع الأخرى. العجيب في الأمر قام براون بذلك لمرات…

لم يتعض أي من المهندسين ،أنا وسيفيروا منهم، الجل الأعظم منا، جئنا للعمل في الشركة من بلدان مختلفة، للحصول على الأمن والحرية والعمل!!!

أعتقد أن عدم الأفاقة ،هو طريقة العرض التي يتمتع بها براون، وفي سحر الايضاح.

مما يزيد الغرابة في الامر، لم يملِ على أحد، مقاطع العمل عند التوزيع ،فقط يغير طريقة العرض المغرية، عندها لا يبقى سوى موقعين أو أكثر، يضطر الآخرون على القبول بهما ،في كل يوم يأتي بطريقة تختلف كلياً عن طريقة اليوم السابق ،طريقه مبتكرة، المصيبة، يطرحها في المناقشة، كأنها نتاج طبيعة العمل وليس من أقتراحه.

من الجهة الأخرى، الأمر غير مقنع، ما الذي يجبر رئيس مهندسين لشركة نفط أمريكية عملاقة على هذه المناورة غير المبرره، بأمكانه توزيع الأعمال على المهندسين بقوة القانون ، لأن  قانون الشركة ،قانون دولة، علاقة تبادليه بين القوانين.

تلك السلوكيات أستفزت دماغي،قبل يوم حدث أمر في غاية الأهمية، جعلني بالأضافة الى إني أعرف شخصيته بعمق، أكتشفت جانباً فيها لم يكن يخطر على بالي ، يصل الى ما يريد بإقذر الوسائل بطريقة مستترة. أعترف أنه يمتلك مؤهلات نادرة جداً ، ذكي ، مثقف ،مطلع على وضعية أي واحد منا، على وضعه في بلده وظروف عائلته، وأمور أخرى.

له قدرة عظيمة على كبح جماح غضبه عندما يشاكسه    أحد المهندسين، يتصرف معه بنعومة ولطف. المهم لم يبق على أنتهاء العمل سوى أسبوعين على أبعد تقدير.

لم أتخذ القرار لمواجهة براون بحقيقة الأمر الذي بلغني به سيفيروا، منعني من التسرع، طبيعة شخصية صديقي، عودني على مقالبه، تلك هي طبيعته منذ عرفته، من سنين بعيده، كلمني في خظم العمل، لم يسعني الوقت للتأكد من حقيقة الأمر، سيفيروا بعد ساعة ،غادر الى المدينة البعيدة عن الموقع مع آخرين ليجلب مؤناً وأشياء أخرى، براون يعتمد علية في التوريد.

قال:ـ سنرجع بعد يومين  ، ربمافي الليل. توقفت عن الكتابة، أطبقت الدفتر،غلبني وسني  تهيأت مع أوجاعي للنوم.

   3/7/1986

خرج سيفيروا، لم ينم، ينام في اغلب الليالي بعد العشاء بقليل.

ــ إلى اين؟

ــ إلى مكتب براون، لتمضية الليلة أنا وحازم.

من لحظة البدء في المشروع أختلف المهندس حازم، العراقي المكلف بالأشراف على التنفيذ، مع براون على مواصفات الأنجاز، يؤكد عليه:ـ يجب العمل طبقاً لبنود الأتفاق، يملي عليه ما يريد، براون ينفذ بإمتعاض غير محسوس . تجربتي علمتني النظر فيه وليس عليه ، بها أعرف درجة أمتعاضه، لم يهتم لأعتراضات حازم.

في هذه الفترة سيطر علىَ شعور، أن براون لا ينوي التنفيذ بطريقة سليمة، نيته مشكوك فيها نحو حازم، يخاتله بإستمرار.

عندما يغيب عن الموقع لأي سبب، لا يحفر عميقاً في التربة الرملية لتثبيت الركائز، لا يحفر كما يجب، أحياناً في مقطع يتجاوز الكيلومترات، أنبه براون:ـ

تلك الركائز لا تصمد في تربة من هذا النوع، الانبوب يسقط بعد سنين قليلة جداً، الى الأرض في مواقع كثيرة، يجاوبني بنعومة مفرطة:-

 عملي هذا، يجعل الأنبوب وأنابيب أخرى كثيرة نفذتها الشركة، صالحة للنقل ،لقرن قادم على اقل تقدير.

أصمت لأن براون يقطع الحوار بنكته، يتبعها بدعوة في غاية اللطف لأحتساء قنينة من الكوكا كولا. أحطت حازم برؤيتي للأمور، لم يعر الموضوع الأهمية المطلوبة، على الضد، أكد أن الشركة وبراون بحاجه الى الأعمال، والأعمال هنا كثيرة جداً.

الأمر الآخر، الامر المهم، لا يمكن للشركة أن تخل بالعمل إلى هذه الدرجة ،كما تظهرها، في هذا المشروع أو المشاريع الآخرى من الأنواع المختلفة، لكنك تعترض على أنعدام الدقة من بداية العمل ، والشركة تـأخذ بالأعتراضات وتنفذ بسرعة، الأعتراضات جزئية كما أوضحت بصورة جلية قبل لحظه، أخذ يوضح وجهة نظره، عندها تراجعت، أما هو أستمر يتابع إيضاحاته:ـ لدينا قدراتنا الهندسية الكبيرة، أي مقطع يسقط على الأرض بعد التشغيل، نصلحه بإيام ، عند ذلك تدخلت مرة أخرى:ـ ربما في ذلك الوقت تمتنع الشركة عن توريد الأنابيب ، وهي أنابيب من معدن خاص، من المستحيل، لأنهم بحاجة الى النفط .

ألمني الحوار مع حازم، لأنه لا يعلم ما يقوم به براون عند غيابه، يغافله، لكن عندما يكون حازم حاظر، يعمل براون بدقة متناهية، خدعة كبيرة وشيطانية، نتائجها وخيمة على الأنبوب.

ما علاقتي بالأمر، لأتركه، المهم بعد أشهر أرجع إلى بيتي وأباشر بإجراءات الحل الذي وضعته في ذهني للخروج من أزماتي أنا وعائلتي، هو العودة إلى بلدي مهما كانت النتائج والظروف، وضعت الدفتر على المنضدة، أنزلت رأسي بهدوء على وسادتي الكروية المصنوعه من الوجع والحسرة .

31/12/1986

دونت في هذا اليوم، حركاتي وأوضاعي قبل البدء في الكتابة، على هذه الصورة:ــ سحبت الدفتر من على المنضدة الصغيرة أمامي ، أمسكت القلم بيدي وتهيأت للكتابة كعادتي كل ليلة. استندت إلى جدار الكرفان خلفي، صار الباب وراءي، لم أغلقه، تركته مفتوحاً ليدخل منه هواء الربيع.

وجهي الى الجدار أمامي ، الدفتر في حضني ، تركت قلمي على الورق، غرقت في الكتابة ، غافلاً عما يحيط بي. رجعت من مكتب براون قبل انتصاف الليل بساعة أو أكثر. لا أعلم على وجه التحديد، عن الدعوة التي أقامها بدر البهيجي  لتناول طعام العشاء، ،أمام مكتب براون، تحت السماء،  في هذه الصحراء، كما بين براون لي ضاحكاً عندما دعاني بالنيابة عن بدر. بدر البهيجي سعودي مقيم من سنوات في متشيغان، يعمل في الشركة منذ فترة طويلة جداً. عندما أصبح العمل في الأنبوب على مقربة من الحدود، أقل من نصف كيلو متر ، أخذ بدر يقظي الليل في القرية الكائنة في الجهة الثانية من الحدود.

يقول بيت أهلي هناك، تربطه علاقة وطيدة جداً مع براون. جلسنا حول طاولة مستديرة ، أعدت مسبقاً، براون لطَف الجو بضحك  متواصل ، فرح يوزعه على الجميع. جلس بالقرب مني حازم، المهندس العراقي ، في الجهة المقابلة براون الى الجانب من بدر البهيجي ، صاحب الدعوة المكونه من الكمأه،

أنائين مملؤين منها،وأسماك ولحم مقدد وقناني بيره وكوكا كولا.

غمر براون الجلسة  بنكات أبتدعها بسرعة، واحدة وراء أخرى.

أزعجني هذا التصرف غير الحقيقي، براون كأنه داخلي، عرف ما أفكر فيه، قال:ـ

نحن أخوة ، الرسميات غير ضرورية، ثم بدأوا هو وبدر بأحتساء الشراب.بعد لحظة قال:-

 لنعيش معاً، لحظات ممتعة .

أستمر يشرح وأنا أصغي إليه، تخرج الكلمات من فيه ناعمة ورقيقة، بين مقطع وآخر ، يطرح أمثلة عن الأخوة والحرية والحقوق بين الناس المتألفين على الحب والحميمية بينهم، هذا الوضع ينطبق على علاقتنا هنا، في الصحراء، نؤدي عمل نخدم به الناس.

تحول الى حمل وديع، أنساني تساءلاتي عنه.

حازم رأيته يأكل ببطء شديد، بين الفينة والآخرى يشرد بعيداً ، كأنه هنا وليس هنا.

أخرجت كلمات براون القلق من عقلي ، جعلها ترسل الى دماغي ما تريد، ألقيت ألم أبتعادي عن عائلتي إلى الخارج مني، أخذت آكل بشهية، فعلاً, الطعام لذيذ . الكمأه طيبه. “” “”””””””””””””””””” ألم  قوي في أمعائي

أصررت على الكتابة قبل أن يمنعني ألمي من المواصلة،  لأشرح وضعي،  حتى يقرأه سيفيروا عندما يرجع، ،الألم ربما يؤدي الى موتي ،كتبت الجملة الأخيرة ،عندما تحول الألم إلى سكاكين تمزق  أحشائي، الهواء طفر مني، مناخيري لا تجد الهواء،  ، قاومت بجلد، أكتب حالتي ، أين الهواء، لحظة بعد لحظة غابت موجودات الكرفان عني، قاومت، أمسك القلم بيد مرتجفة، أصبحت أطوف في السديم، أرجعني دماغي الى سريري ، قلمي يتحرك على الورقة بمرسلات عقلي، لا أحد حولي أستنجده .

رأيته ،كتب  عقلي بأداة يدي تلك الجملة، سألتني:ـ من هو؟!! سيفيروا ، أقترب مني ، جاء في الوقت المناسب ، لأول مرة يتكلم بجدية:ـ

بدر البهيجي وشى بك عند براون قال له:ـ علاقة أوغسطين مع حازم، علاقة ضد مصالح الشركة، يخبرة بجميع المخالفات التي تعرض الانبوب الى الانهيار، لم تعلمني بجدية كما الآن، كلا، أخبرتك بعبارات واضحة، تصورته مقلب.

               ************

قلبت الصفحه الآخرى ،بيضاء، لا كلمة فيها، أربع صفحات أخرى لا غير، فارغة ليس فيها كتابة، في الصفحة الخامسة، شتاين ،أبنتي، كتبت يومياتها الى أخرصفحة من الدفتر الضخم.

الكلمة الاخيرة كانت واضحة، مقلب، لم يكمل، لم يمهله الموت، أتذكر ، ذاكرتي حية وقوية:ـ سيفيروا شرح لي الوضع في ذلك الوقت ، كان فاقد الوعي، القلم بيده والدفتر مفتوح أمامه،الشركة فيها مركز طبي،لايستقبل حاله من هذا النوع، عانينا صعوبة بالغة في أيصالهما الى المشفى  في البصرة، بسبب الارتال العسكرية ،من سوء حظهما حالتهما حدثت أثناء الهجوم ،  أما الثاني المهندس العراقي خرج من المشفى بعد يومين ، شبه معافى . الاطباء يقولون :- خلل في الكليتين ،يحتاج الى فترة نقاهه طويلة جداَ.

أما براون فقدقال:ـ

هذه حالة، مع أنها نادرة، لكنها تحدث ، بدر أيده، ثم  أغلق الحديث دون أدنى أهتمام. الشخص الأخير، بدر والذي كرره سيفيروا أمامي عندما كان يشرح ما آل إليه زوجي في ذلك الوقت. أتذكر أسمه بوضوح، لأن وقع المصيبة كان شديد الوطئ على نفسي وحياتي. سيفيروا عندما جاء بالجثمان، لم يعد إلى العمل في الشركة أبداً.