يوميات مواطن 1

يوميات مواطن 1

 

منهل الهاشمي

 

 

   كعادتي استيقظت صباحا للذهاب لعملي, فتحت المذياع فصدحت منه الاغنيات الصباحية تقول احدى كلماتها التفاؤلية (دنيا حلوة.. ناس حلوة.. والوطن باسم سعيد)!. واخرى تقول (الدنيا غنوة.. نغمتها حلوة) !. ادرت مؤشر المذياع لمحطة اخرى فصدحت اغنية (الحياة حلوة بس نفهمها) !!. واعقبتها اغنية الراحلة سعاد حسني (الحياة بقى لونها بمبي.. وانا جنبك وانت جنبي… بمبي.. بمبي.. بمبي) !!!. ادرت المؤشر ثانية  لمحطة اخرى فصدحت اغنية عمرو دياب التي اعشقها, وتقول كلماتها الاصلية لا المحرّفة المزيّفة (حبيبي يانور العين يالساكن العلاوي.. فاطس بقاله سنين طمروه بالغزالي !!!..حبيبي… حبيبي يانور العين). واعقبتها الاغنية المعروفة (حن وآنة احن.. لتذبني عالشحن !!). ثم اغنية (شكد افرح من اسمع عنج فرحانة.. شكد احزن من اسمع عنج حزنانة.. اشكد اعطش من اسمع عنج عطشانة.. اشكد احمى من اسمع عنج حميانة !!). لتختمها الاغنية الشهيرة (تفرحون..افرحلكم, تضحكون.. اضحكلكم, تغمزون.. اغمزلكم, تاشرون.. اشّرلكم, تنزعون.. انزعلكم !!!). فقلت في نفسي منتعشا مرتعشا, الله ياسلام على هذه الكلمات التفاؤلية حد النخاع فقد زادت نشاطي نشاطا, وتفاؤلي تفاؤلا, واثقلت قلبي بالحماس وخفّفت من عقلي بما لا يقاس !!. وفكرت مع نفسي منبطحا على السرير متفلسفا, بما ان الدنيا حلوة, والناس حلوة, والوطن باسم سعيد, وبما ان الحياة لونها (بمبي) وانا جنبك وانت جنبي !! فلمَ انهض صباحا يوميا وانا مثقل بالهموم والاحزان والكآبة والتشاؤم ؟!!  لمَ لا اطلق لعناني الفرح والسعادة والتفاؤل والامل بعد ان ثملت منتشيا بهذه الاغاني التفاؤلية الصادقة الصدوقة ؟!!. وهكذا ارتديت من الثياب اجملها وافخرها وهي آخر ما وصلت من موضة في (البالات) او بالاصح (الخبالات) كنت قد ابتعتها مؤخرا من (معميلي) الدائم ابوعبود في سوق (هرج) في ساحة التحرير اخترتها بعناية ورعاية وسط كومة من الاخوة (النكرية) المكتظ بهم السوق, و(ببلاوي) اخرى !!!.

 

   ذهبت لعملي فرحا منتشيا ثملا بالسعادة العارمة الحالمة التي اجتاحتني كالحمى من قمة راسي حتى اخمص قدمي او اختصارا (من ساسي الراسي) !! وانا اتمتم مع نفسي مترنما بحبور كبير (دنيا حلوة.. ناس حلوة.. والوطن باسم سعيد) !!.

 

    صعدت احدى الكوسترات الاثرية التي صنّفت مؤخرا في منظمة (اليونسكو) كاحدى اهم المعالم التاريخية والاثرية في العراق والتي ينبغي الحفاظ عليها من التلف والزوال باعتبارها من التراث الانساني !!. وكان من (حظي ونصيبي آنة.. حظي ونصيبي) ان اجلس في المقاعد الاخيرة الشهيرة بـ(خانة الشواذي) !!. ومن هنا بدأت اولى نبوءات الاغاني التفاؤلية الصباحية الجميلة تتحقق !!. (فالكروة) فيها نقص كالعادة فبدأ سائقنا الهمام بعزفه المنفرد (الصولو) واخذ (يقسّمْ) لنا بروائعه الكلاسيكية باجمل ما يحويه المعجم العراقي الشعبي الموسوعي الشهير (للفشار) !!. لكن الذي لفت انتباهي واهتمامي هو شعوري بالخجل والحرج الشديد من هذه الكلمات البذيئة (الفشار) رغم كوني رجلا ـ من وجهة نظري على الاقل ـ !!. في حين ان (الحاتات) كنّ كلما يسمعن باحداها تهمس الواحدة باذن الاخرى ويضحكن بقوة ضحكة ذات معنى !!. فهززت يدي وراسي ورقبتي ووسطي عجبا وأسفا واستغرابا وانا اقول في نفسي متحسراً متحسفاً : (حاتات آخر زمن) !!. في حين ان السائق لايزال مستمرا يطربنا ويشجينا (بالصولو) ونحن في طور (السماعي) !!. ليختمها بالقول صارخا محتدا : (آني مو علمود الخمسمية والالف .. هي شنو قيمتها !!! بس اكو نفسيات قذرة تخلّي دمك يفور.. والا هي شنو قيمتها الكروة !!!). ثم التفتَ بنظرة اتهامية صريحة فضيحة الى الخانة الاولى لتنتقل ذات النظرة الى الخانة الثانية, فالثالثة, فالرابعة حتى استقرت النظرة الاتهامية عند خانتنا الاخيرة, خانة الشواذي !!. ثم واذا بقدرة قادر جميع راكبي هذه الخانة والخانات الاخرى ومنها خان ابن مرجان وخان ضاري وخان بني سعد وسواها من الخانات تجعل مني مركز وبؤرة اهتمامها ونظرتها المريبة الغريبة العجيبة لتعقبها باتهام صريح فصيح جريح !!. ولا ادري لمَ اجمعوا على اتهامي انا من دون الركاب أَلأني ارتدي ملابس (بالات) ؟!! ولكنها ليست اية بالات فهي من افخرها واثمنها, فالقمصان لوحدها كان ثمنها (خمسة بألف !!). ثم ما ذنبي انا ان كنت في ضيق من ذات اليد ؟! او بمعنى شعبي ادق (واكع من السطح) , الم يسمعوا بالنظرية (السلطانية) البروليتارية الماركسية الشهيرة التي تقول (الماعنده مين يجيب ياخلكـ الله ؟!!!). لكن المصيبة لا تكمن هنا, بل المصيبة انني دفعت 5 الاف دينار من دون ان يرجع لي السائق الباقي !!. فقلت مدافعا عن نفسي بحرارة ومرارة : (اخوان والله آني انطيت خمسة وبعدلي اربعة ونص باقي). لكن الجميع ـ وعلى راسهم السائق ـ يهزّون رؤوسهم عجبا واستغرابا من صَلفي وعيني (الوكحة) !!. وكررت قولي هذا عشرون مرة, وعشرون مرة بقوا يهزّون ـ وعلى راسهم السائق ـ رؤوسهم نفس الهزّة !!!. وصلت لمكاني المطلوب, قلت للسائق (نازل) اوقف السيارة بعصبية شديدة, عند الباب قلت له بتوجس (اريد الباقي مال خمسة, اربعة ونص). اجابني هازئا ساخرا (شلون يمّة ؟!!). كررت بتوجس اكبر (اريد الباقي). اجاب السائق بنبرة تهديد ووعيد صريحة قبيحة (دروح بابا روح, لا هسة ماخلّي شي بيك باقي) !!. عندما وجدته مهتاجا منفعلا لهذا الحد والشرر يتطاير من عينيه المحمرتين, قلت في نفسي معزيا (ما خلّي عقلي وياه !!). فآثرت السلامة لنفسي واثناء نزولي صرخ السائق خلفي بقوة شديدة : (لا محلّل وموهوب) !!.

 

   ترجلت مصدوما مهموما مكلوما وانا استغرب حالي وحال الناس وفي طريقي راجلا نحو دائرتي واذا بي اسمع صوت انفجار مدوي اعقبه آخر بعد دقيقتين فعمّ الصراخ والضجيج المكان واخذ دوي صفارات سيارات الاسعاف والشرطة يتصاعد ويقترب, فهززت راسي حسرة وقهرا والالم يعتصر قلبي. دخلت دائرتي متاخرا عن الدوام لاكثر من ساعتين قضيتها في الطريق, واجهني مدير القسم الذي اعمل فيه وكنت لا زلت مصدوما من اثر الانفجار فاستقبلني صارخا موبخا, الى متى تبقى تاتي للدائرة متاخرا ساعتين يوميا ؟ فاجبته انه الازدحام فصرخ فيّ لا شاني لي به كلنا نعاني منه, هذا آخر تنبيه اوجهه لك واذا كررتها بعدها فاعدك ان كتاب الفصل سياتيك على طبق من ذهب !!. كانت هذه هي الاسطوانة اليومية المفضلة التي اسمعها من مدير القسم. فقلت في نفسي متعجبا مستغربا, لكن اين ذهبت كل كلمات الاغاني التفاؤلية الصباحية الجميلة التي سمعتها هذا اليوم, وكل يوم ؟!!. اكيد ان ثمة خطأ ما في الامر, فمن غير المعقول ان يكون المطرب فاضل عواد او سعاد حسني يقولون الكذب !!. فذاك الاول يقول بثقة كبيرة خطيرة متناهية بان (الدنيا حلوة.. والناس حلوة !!). وتلك تصرّ وتلح الحاحاً بان (الحياة بقى لونها بمبي !!) ثم تعقب مؤكدة باصرار كبير خطير (بمبي.. بمبي.. بمبي !!!). ترى اين الخلل اذن هل فيهما ام فيّ ؟!!.. اكيد ان الخلل يكمن فيّ انا !!. هكذا حسمت هذه الاشكالية الفلسفية الغنائية مع نفسي بان رميت الكرة في ملعبي لا ملعب الشعب !!. وحالما فرغت من التفكير في هذا الامر العويص لاح في ذهني فجاة شبح مشكلة الضائقة المالية العسيرة الازلية التي اكتوي بها واعانيها منذ بدء الخليقة حتى يومي (البمبي) هذا !!. نظرت صوب زميلي ابومحمد الجالس قبالتي وتذكرت الموضوع الذي نويت مفاتحته فيه. كان غارقا في بحر الملفات المكوّمة امامه يتفحصها ويمحصها بدقة ويوقعّها مسرعا بآلية رتيبة مكرورة كالروبوت. اقتربت منه وحادثته بمودّة ورحمة كبيرتين !!. ذاكرا فيه اولا الصفات الحميدة المجيدة العديدة وحسن اخلاقه وشمائله وسجاياه وانه ابن (حَمولة)…100 طن !!. معرّجا على نخوته وشهامته ومروءته, لكنه قاطعني بحزم وعزم قائلا بضجر : (جيب من الاخير !!). حينما لاحظت  ضجره وانزعاجه تحولت بحديثي الى منحى آخر وهو قراءة يتيمة الدهر للثعالبي الشهيرة المثيرة المعهودة فحكيت له قصة حياتي الماساوية باكملها منذ ان تلقفتني بيديها من بطن امي الموّلدة ام كاطع  ذات الاربعة  k.v)) !!!.  واستطردت بعد ان اخرجت منديلا من جيبي لامسح به دموع التماسيح المكاسيح فقلت له ناحبا شاحبا باني في هذه الحياة جئت لا اعلم من اين ولكني اتيت… وسابقى فائراً ان شئت هذا ام ابيت !! واردفت, اين ضحكي وبكائي وانا طفل فطير… اين كبتي وجراحي وانا فحل خطير !!… اين (حاتاتي) وكانت كيفما سرت تسير… كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت.. لست ادري.. لست ادري.. خدري الجاي خدري !!!!. فاذا به يقاطعني بانزعاج ثانيةً قائلا : (فضني حبيبي ايليا ابو ماضي شرايد ؟!!). فحاولت ان اؤثر فيه اكثر بعد ان لم تنفع معه محاولاتي تلك, فحدثته عن ابي الذي مات مقتولاً, وعمي الذي مات مخبولاً, والآخر الذي مات مسلولاً, وجدي الذي مات مشلولاً, وخالي الذي مات (منشولاً), والآخر الذي مات (منتولاً) !!!. فقاطعني ثالثةً بحسم وحزم قائلا باستياء اشد : (دفضني عاد جيب من الاخير). وهنا اسقط في يدي ولم اجد بدّاً من مصارحته بالموضوع بعد ان واتتني الشجاعة والرقاعة فجاة دون سابق تمهيد فحادثته بوجه ذلول وصبر ملول باعتباري من الفلول !! : (خوية ابو محمد اخوك مطلوب للايجار والموّلدة شهرين محتاج اتدايني مليون وبس !!). حالا اكفهرّ وجهه كالكفار المشركين واحمّر واصفّر واخضّر حتى بات (ترفك لايت) !!. فخاطبني بلهجة صارمة عارمة : (آني اعرفت هاليتيمة القريتهة اكو وراها شي) واردف بحدة اكبر : (اخوية آني متداين من كريم البارحة). حالما سمعت اجابته القاطعة المانعة الجامعة هذه واذا بالوان (الترفك لايت) انتقلت من وجهه لوجهي بقدرة قادر وكانها العدوى, فجلست خلف مكتبي خائبا سائبا وكتبت هذه السطور من مذكراتي اليومية (يوميات مواطن). لكن كل الذي حصل معي يمكن احتماله لكن الشيء الوحيد الذي ارّقني واقلقني حقيقةً هو انني منذ سمعت اغنية فاضل عواد تلك (دنيا حلوة.. ناس حلوة.. والوطن باسم سعيد) في السبعينيات والى اليوم وانا ابحث عن (باسم سعيد) هذا ولم اجده !! بل وحتى لم اعرف هو من اي (عَمام) !!…. (وياعَمام.. ياعَمام.. ياعَمام ودّي للغالي من عندي سلام !!!).