بطرس لاسو يقارن الأماكن بين الأمس واليوم
يوميات تنقل التطورات أزاء مناطق الشمال
سامر الياس سعيد
الموصل
عرف عن الكاتب والباحث المعني بالتراث والفولكلور ادمون لاسو شغفه بمتابعة كل ما يختص بالتراث وعني أيضا إلى جانب ذلك الشغف الموصوف بالثراء في سلوك الكثير من مسارات التاريخ القريب لمعرفة أحوال مناطق بعينها ما بين الامس واليوم ومن هذه التصورات التي عرفت عن لاسو دأبه الواضح في سبيل إبراز مطبوع دونه عمه المرحوم بطرس لاسو حيث يشير في مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب (يوميات سائح في الشمال ) تفاصيل حرصه على إبراز هذا الجهد الذي تركه لاسو من خلال طبعتين كانت أولهما قد صدرت في عام 1994 وبعد ذلك التاريخ بـ 18 عام أقدم على إصدار طبعة ثانية تميزت بإضافة ثلاث سفرات للراحل لاسو حتى جاءت الطبعة الثالثة التي صدرت هذا العام لتكون طبعة منقحة ..
ويضيف المعد ادمون لاسو عن الكتاب بأنه يحوي مشاهدات ويوميات سياحية تركها المؤلف بطرس لاسو (1927-1991) في دفترين الأول تضمن سردا لتفاصيل السفرات الثلاث الأولى في الأعوام 1948و1952و1953 ضمن مخطوط حمل عنوان تاريخ حياتي كان قد انتهى منه المؤلف قبل عام من رحيله وقد توقف فيه المؤلف لغاية 1953 وكان قوام ذلك المخطوط 50 صفحة من الدفتر المدرسي العادي حيث كان وقتها معلما في مناطق السليمانية وسنجار .. أما المخطوط الثاني فقد عنونه المرحوم بطرس لاسو بيوميات سائح في الشمال وكان قد انتهى منه في العام 1989 وكان قوامه 43 صفحة من السجل الكبير وحمل هذا المخطوط انطباعات للراحل عن مناطق سياحية في عدد من المناطق الشمالية ومنها دهوك واربيل وبالأخص سد بخمة ويتابع المعد ادمون لاسو انه خلال إعداده لتلك المخطوطات وتجهيزها للنشر حاول المحافظة على روح الكاتب وأسلوبه وفضلا عن عمله فقد أسهم بالتدخل في سياقية السرد مختزلا بعض المتون ومجملا إياها بعبارات محكمة من مادة المخطوطين نفسهما حتى يحافظ من خلال هذا الجهد على علمية المادة وتشويقها فظهر هذا الإصدار بالقطع المتوسط ليضم عبر صفحاته الـ64 الكثير من الفصول والمحطات التي تمنى المعد في خاتمة مقدمته ملبيا رغبات عدد واسع من القراء ومحبي السياحة والرحلات ..
في الصفحة التالية يحاول المعد تقديم سيرة موسعة للمؤلف يورد من خلالها الكثير من المحطات التي اشتملت عليها حياته فالمؤلف بطرس لاسو واسمه بالكامل بطرس لاسو يوسف مراد من مواليد القوش في 17 كانون الثاني 1927 له رحلة قصيرة في عمر الزمن ولكنها عميقة وغنية في عمر التجربة والأثر وتناول المعد إيراد سيرة وظيفية لحياة المؤلف الراحل بطرس لاسو أورد فيها تنقله بين مناطق عدة لممارسة عمله الوظيفي فضلا عن إبراز العديد من الشهادات التي دونها المفتشين التربويين إزاء عمل الراحل بطرس لاسو حيث أجمعت تلك الشهادات على العمل الجاد والسلوك المتزن الذي كان يتحلى به المعلم لاسو وشعوره بالمسؤولية في أدائه الواجبات المناطة به ومن ثم ينطلق الكتاب بإبراز الكثير من يوميات بطرس لاسو حيث يستهلها بصورتين أولهما تشير الى القوش حيث يورد المعد تفاصيل عنها مشيرا بأنها أقدم صورة لتلك المنطقة حيث يعود زمن التقاطها لأكثر من 100 عام وهي مأخوذة من الكتاب الفرنسي للأب يوسف تفنكجي المعنون( الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية غابرا وحاضرا ) والصادر في باريس عام 1913 وتحت الصورة تبرز صورة أخرى لالقوش في عصرها الحاضر ..
أما أولى محطات تلك اليوميات فهي سفرة للكاتب بطرس لاسو انطلق فيها من بلدته القوش نحو السليمانية وجعفران في أوائل تشرين الثاني من العام 1948 حيث يشير بأنه قام بهذه السفرة بناء على صدور أمر تعيينه في (جعفران) من لواء السليمانية وقد انتقل الى تلك المنطقة بعد محطات عديدة منها توجهه لمدينة الموصل أولا برفقة زميله سعيد شامايا ومن ثم الى السليمانية عن طريق كركوك وانتظاره هناك بضعة أيام لينتقل بعدها الى وجهته المطلوبة ويورد الكثير من المذكرات التي واجهته بعد وصوله لتلك المنطقة ولقائه بالمعنيين في مدرسة القرية ويضيف الكثير عن ميزات تلك المنطقة مشيرا بأنها تنتج افخر أنواع التبوغ التي تضاهي أنواع التبوغ الأجنبية بجودتها ورائحتها ويضيف بان هذه الجودة نابعة من وفرة المياه التي تمتاز بها المنطقة اضافة الى ملائمة المناخ وصلاح التربة ..
وبعد انتهائه من إيراد مذكراته عن تلك المنطقة ينتقل بطرس لاسو للحديث عن سفرة أخرى ينطلق من خلالها من بلدته القوش نحو (كرسي) في أواخر أيلول عام 1952 ويشير بان انتقاله لتلك المنطقة جاء أملا بالاقتراب من بلدته القوش لذا قام بتقديم طلب نقله في نهاية السنة الدراسية 1951-1952 فجاء أمر نقله الى ناحية الشمال وبالتحديد منطقة كرسي الواقع في قضاء سنجار مخيبا لآماله بشان اقترابه من بلدته القوش لكنه في نهاية الأمر توكل على الله حازما أمتعته من اجل مواصلة رسالته التربوية قاصدا تلك المنطقة شارحا بالتفاصيل طريقة وصوله الى تلك المنطقة ..
ويضع الكاتب تفاصيل موسعة عن تلك المنطقة واصفا اياها بأنها من المناطق الجميلة بمناظرها الطبيعية الخلابة واشتهارها ببساتين التين المعروفة بجودتها حيث تنتشر تلك البساتين في جميع أطراف القرية وعلى سفوح الجبال وهي أشبه ما تكون بكروم العنب كما تغطيها مساحات كثيفة من أشجار البلوط وسواها من الأشجار البرية أما فصل الشتاء في هذه المنطقة فيتحدث عنه الكاتب بطرس لاسو فيصفه بأنه شديد البرودة لان (كرسي) تقع في برزخ تهب اليه الرياح الشمالية من تركيا وسوريا ولكن الربيع كما يقول لاسو فيها جميل جدا وخاصة في قرية ملك الجميلة حيث مزارع التين والكروم والخوخ وسواها بالإضافة الى كثرة الينابيع التي تتدفق إليها من السلاسل الجبلية التي تتخللها وهي عبارة عن كلي كبير داخل وادي (كرسي ).. وفي سفرته التي يقصد خلالها (مومي) و(تل كوجك) منطلقا من (كرسي) في مايس عام 1953 يتحدث الكاتب بطرس لاسو عن الكثير من ما شاهده خلال تلك السفرة التي يستهل وصفها مشيرا الى انه قصد محطة تل كوجك لغرض شراء بعض الحاجيات الرخيصة جدا من تلك المحطة وكان بصحبته مدير الناحية والمعاون ويقول ان تلك الأيام كانت تشهد جمع التبرعات لمناسبة الاحتفال بتسلم صاحب الجلالة فيصل الثاني صلاحياته الدستورية حيث قد بلغ في هذه الأيام 18 عاما وبالتحديد في 2 ايار( مايس) 1953 ويضيف بان عشيرة عجيل الياور كانت قد نصبت وبظرف يوم واحد الخيام بهذه المناسبة حيث أقامتها حول قرية( مومي) لاستقبال جلالة الملك وضيوفه بعد حفلة التتويج.. وتنتهي مع هذه السفرة محطة أضفت عليها سنين طويلة نكهة معبقة بما كانت عليه تلك المناطق من أجواء ومناخات وأحداث ليأتي المؤلف ليتابع تفاصيل يومياته التي تستقر عند محطة زمنية أخرى تتحدد بالعام 1989 وبالتحديد في الخامس من تشرين الأول من هذا العام حيث يقصد الكاتب دهوك منطلقا من بلدته القوش حيث يشير الى ان زيارته الى هذه المنطقة كانت بصحبة شقيقه ميخائيل لاسو الذي يعمل مديرا لقسم الطاقة في مصافي الشمال في (بيجي) وكان بصحبة الأخير زوجته وابنته ويضيف لاسو خلال سلسلة الأحداث التي صادفها انه شاهد موكبا للرئيس السابق صدام حسين وهو عائد من جولة شملت عددا من المصائف الشمالية حيث كان الموكب راجعا لوحده بينما عاد الرئيس بواسطة الطائرة الى مدينة الموصل ويقول الكاتب بان الموكب كان كبيرا بحيث كانت بدايته في مقهى بجانب قرية (البدرية) اما نهاية الموكب فكانت في مجمع (جمبور) .. ويصف الكاتب خلال تلك الزيارة دهوك فيقول عنها بأنها تفترش السهل المحصور بين جبل (شندوخا ) في الجنوب و(الجبل الابيض) في الشمال وهذا السهل ضيق نوعا ما قياسا الى السهول الأخرى المحصورة بين سلاسل الجبال ويضيف الكاتب خلال وصفه لمدينة دهوك بأنها تمتد من مفرق طريق (زاخو ) في الغرب حتى مدخل المصائف الشمالية و(عمادية) في الشرق ويتابع في ختام تلك المشاهدات بأنه لمس تغيرا جذريا في المدينة عما كانت عليه لدى زيارته لها حينما كانت مركز قضاء تابع لمحافظة نينوى حيث لمس اتساعا كبيرا وواسعا في المدينة .. وفي الصفحة التالية يدون بطرس لاسو مشاهداته عن سفرة أخرى قام بها في اليوم التالي من تلك السفرة التي قصد خلالها دهوك حيث قصد خلال سفرته هذه (سرسنك) و(العمادية ) وعن تلك السفرة يسهب الكاتب بوصف الطريق الخاص المؤدي لتلك المناطق حيث يصفه بأنه كثير التعرجات تحتضنه سلاسل جبلية شاهقة الارتفاع وتغطي تلك الجبال نباتات دائمة الخضرة مشكلة غابات كثيفة متشابكة بأنواع الأشجار البرية التي تنمو على السفوح والقمم .. ويتابع بعد الانتهاء من كل محطة يصادفها الكاتب وصف الطريق المؤدي لتلك المناطق السياحية المعروفة بأجوائها المناخية الخلابة والمنعشة ويرصد خلال زيارته التي قصد خلالها (سرسنك) العديد من المناطق التي تحتويها ومنها ( قصر الملك) الذي يقع الى الشمال الغربي من الطريق الخاص بهذه المنطقة وهذا القصر كما يقول الكاتب كان ملكيته تعود للعائلة الملكية التي كانت تشغله أثناء موسم الاصطياف وكانت تمضي فيه معظم أيام الصيف الحارة .. اما المحطة الأخرى من هذه الزيارة فقصد خلالها الكاتب منطقة (العمادية) التي يقول عنها إنها كانت في الأصل مدينة آشورية قديمة أطلق عليها اسم( آمات) وقام بتجديدها ( عماد الدين زنكي ) في القرن الثاني عشر الميلادي وهي ماتزال تربض على هضبة صخرية مرتفعة وتشرف تلك الهضبة او التل الصخري الواسع نسبيا من قمته على سهل صبنا بكامله ..وفي شهر تشرين الثاني عام 1989 وبالتحديد في الثامن عشر منه سنحت للكاتب فرصة القيام بسفرة الى (سد بخمة ) والإقامة فيه حيث انطلق الى تلك الوجهة من بلدته(القوش ) ويستهل تلك السفرة التي ضمها كتابه بوصف الطريق الى السد المذكور والواقع في محافظة اربيل وبعد ان ينتهي من وصف الطريق المؤدي للسد يبدأ بوصف الموقع فيقول عنه انه منطقة معطاء وجميلة وسوف تصبح اكثر عطاء وجمالا وجاذبية عندما ينتهي بناء السد مع المرافق السياحية المتصلة به بحيث تفوق في روعتها وجمالها منطقة حوض (سد الموصل) المقام حديثا في أطراف محافظة نينوى ..وتتوالى بعد الاستقرار في سد بخمة الكثير من يوميات السفرة التي استمرت لبضعة أيام تتخللها الكثير من المشاهدات والمذكرات التي تتحدث عن وقائع صادفت الكاتب لدى تلك السفرة لتعقبها سفرة أخرى انطلق فيها الكاتب من (سدبخمة) قاصدا قرى (جم بيكي) و(بيرس) في 23 تشرين الثاني من العام ذاته والقرية الأولى (جم بيكي) تقع الى الغرب من جريان (الزاب) وهي قرية صغيرة يصفها الكاتب بالقول ان بيوتها متناثرة هنا وهناك وأمامها مرج لاباس به ويبدو ان هذه القرية والسهل الممتد حولها سيصبحان بدورهما قاعا للبحيرة حيث من المعتقد ان منسوب البحيرة سيصل الى (ديرا الوك) شرقي (العمادية) .. وتنتهي سلسلة السفرات التي قام بها الكاتب مع سفرة أخيرة يختتم فيها الكتاب ومن خلالها يتحدث عن شقلاوة وصلاح الدين والتي انطلق اليها من (بخمة ) في الأول من كانون الأول من العام 1989 ويسهب في سرد اليوميات الخاصة بتلك السفرة التي تنتهي بعد خمسة أيام ليعود الى بلدته القوش .. الكتاب يحمل الكثير من الوقائع الجميلة التي لاتتحدد بإبراز لون متميز يصف الكثير من المناطق والمحطات السياحية التي يزخر بها شمالنا الحبيب فهذا النوع الذي ينتمي لأدب الرحلات يتيح لقارئه ترسيخ انطباعات عن تلك المناطق ورسم ملامحها في الذاكرة ليعود اليها القاري إذا تسنى له زيارته لاستكشافها بصورة مغايرة عما حمله الكاتب ودونه عنها من انطباعات وأفكار ويحضرني هنا الكثير مما كتب في أدب الرحلات واصفا مساؤها ومزاياها لاسيما ما حملته مقدمة كتاب حمل عنوان (من أدب الرحلات ومن وحي السفر والتجوال والذاكرة) الذي قدمه للقارئ الكاتب المعروف (يعقوب افرام منصور) في عام 2012 حيث أسهب في مقدمة هذا الكتاب بإبراز المحاسن والمساوئ الخاصة بالرحلات والأسفار مستعينا بأبيات الشعر والأقوال المأثورة التي تناولت هذا الجانب ولعل أبرزها ما قاله الأمام علي (عليه السلام) حينما حث على التغرب والسفر فقال :
تغرب عن الأوطان في طلب العلى
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
بينما يستعين الكاتب منصور بقول آخر للخليفة المأمون حينما يزين متعة السفر فيقول عنه (لاشي الذ من السفر في كفاية لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحلها ، وتعاشر قوما لم تعاشرهم)..