يا سامعين الصوت
أنور عبد العزيز
يا سامعين الصوت صلّوا عالنبي.. كلمن لقّا حاجة ذهب وما يرجعّا.. اشتعل أفادوا، ماتو اولادو، احترق بيتو، عمت عيونو .
يستمر الصوت المسموم مشتعلا بالغضب والرجاء ناعقاً بكل حريق ليد تجاوزت وتجرأت على أخفاء حاجة ذهبية ما زاد حجمها عن حبة قمح أو رأس منقار لعصفورة حبّ أو دمعة عين، لكن المرأة الهزيلة الشاحبة الممصوصة الحافية رغم حنان صوت أذان العشاء كانت بهرولتها الغاضبة المنفعلة تتقافز مذعورة على تراب الزقاق وطينه وملوثاته لتمسحه متجاوزة لازقة قريبة متداخلة محشورة ببيوت قميئة من جص وطين وتنك واخشاب بدائية ما تزال هياكلها رغم اعوجاجها تذكر بملامح اشجارها الفتية القديمة . تتخيل البائسة جارها الجائع الابدي في طريقه لسوق الصياغ متراقصا بفرحته او جارتها سليمة منتشية بلقيا الذهب لتأخذ البندقة هدية لحفيدتها او الجارة نشمية وقد باعت القطعة ومنحتها فرصة راحة ليوم او يومين بعيدة عن لهب التنور مريحة وجهها المشوي بلفح وشواظ نار السنين.. ويمكن ان تكون الذهبية الان في جيب حمّال العربة الخشبية المفككة والذي وجدها فرصة لشراء اطار عتيق لعربته المعطلة منذ اسابيع.. الصراخ المبحوح يعاند صوت الرحمة ويجرح اذانا ومسامع بريئة.. اي حقد واي جوع دفع بالمرأة لمثل هذا الصراخ وحتى عندما يخفت فهو يقترب لولولة حزينة تعبر عن فجيعة خسارة اليمة موجعة.. وتمر بخاطرها هواجس كثيرة عن ذهبيتها اية افراح واهزوجات قلب سينعم بها من احتضن البندقة احترقت يداه يا رب بامل انتظار صباح البيع لاول وجه ومحل يصافحه في سوق الصياغة.. هم لن يستطيعوا النوم للهفة ترقب النهار الجديد وقد ضمنوا نقود الذهبية بلا كد وكدح وتعب.. بشاعة الصوت الهادر الزاعق جاء كزخات رصاص خارقة حارقة لاذان واجساد وقلوب متعبة طحنها الكد والجوع واليأس من حياة بشر.. رغم علو الصوت او هبوطه، فهو لم يبق على لازمة واحدة مكرورة.. تمادت المرأة وصوتها المشروخ باضافات سامة متلاحقة اسمعوا.. اسمعوا.. يا سامعين الصوت المّا يرجع ذهبايتي ويظل سيكت هتكوا عرضو.. قطعوا غاسو يتّموا اولادو.. اخذوا عقلو.. وفي غمرة انفعالها وبكائها لا تنسى ان الذهب هو معشوق النساء ومجنونات به فتسستبدل عبارات التذكير بمؤنثات لتحصر اتهاماتها بان من حظيت باللقية سكتت وخرست وابتلعت لسانها فتجيء الصيحة قتلوا زوجا.. هتكوا شرفا.. غرقوا ولدا .. سموم المراة الهائجة لم توفر شتيمة وطعنا معيبا دون حياء او رحمة.. ضج الزقاق بحالة المراة.. منهم من رفض وادان قاذورات شتائمها.. منهم من تعاطف معها راثيا لبؤسها.. الاغلبية ظلت صامتة فهي ليست المراة الاولى تفعل فعلتها هذه.. هي اضاعت ذهبا ويتذكر الزقاق حالات ضياع لحاجات تافهة كدجاجة مهزولة مقطوعة البيض او ديك عقيم مهلوس منتوف الريش بجلد عار مبقّع او حذاء طفل دعت امه باثقل مما تهرف به فاقدة الذهب كاسرة الاعراض ممزقة شرف النساء والرجال معا، داعية بموت عاجل لمن حرم طفلها ووحيدها من حذائه.. ولن ينسى الزقاق نهارات وليالي صارخة بــ يا سامعين الصوت لضياع غربال او هاون او حجلة طفلة باكية.. عندما لم يعد الامر محتملا ضج ايوب الرجل المخنوق بنوبات ربو متلاحقة متسارعة والذي لم يستطع التحرر من سحر السجاير حتى بعد ان اتلفت رئتيه.. صرخ بزوجته اخرجي اليها.. مقصوفة العمر هذه واوقفي سيل القيح من دعواتها الباطلة الظالمة وبلا يقين عن مصير بندقتها الذهبية.. تواصل صريخ المنكوبة اربك حركة الحاج جليل وهو يفترش سجادته لصلاة العشاء.. هو المصلي المثابر المجتهد ما تجاوزته صلاة منذ سني صباه المبكر.. كاد اضطرابه مما يقرع اذنيه من دعاء المرأة ان يخطيء القبلة بعينيه الكابيتين وقد شحب وشح وعتم فيهما ضياء الاشهر الاخيرة.. بدا منزعجا متوترا دون ان يهمس بكلمة.. رغم ان امراته تحسست حالته الا انها لم تحسن الرد عليه عندما نبهته ان المراة مصعوقة وقد اعماها يأس استعادة ذهبيتها المنهوبة وبشكوك طالت الجميع.. زوجته كانت غافلة ومستثارة.. عارضته وعاكسته وما رعت وقاره وسكينته وحرصه الايماني على اداء صلواته في مواعيدها منذ خمسين سنة واكثر.. رجل حكيم كانت عيناه تجولان مغروستين في كتاب الحكمة جفلت اذناه من الصريخ المفاجيء للمراة الضاجّة بهول ما حدث لها.. هجر كتابه وقال لولده ربما المراة على حق.. هي فقدت ثروة، لكن هذا السيل من الاتهامات والدعاء الجارح لا يبدو لي عادلا.. الرجل العجوز المشلول شقيّ الامس وناشر الرعب حتى في قلوب الشقاة والمصاب بكابة نفسية حادة ابدية سوداء ومرّة جعلته يكره نفسه قبل الاخرين وماضيه وكل البشر.. احتد مرتجفا مؤنبا سامعيه الا احد منكم يخرس نباحها الكريه الملوث بالسخام وتمزيق الاعراض، لو استطعت فقط ان ادبّ برجلي الهامدتين لقطعت رقبتها.. تكسير وتهشيم رأسها الفارغ وقطع وجر لسانها من عروقه هو القليل مما تستحقه هذه الضائعة وهي ترش سفالاتها وتخدش بها الاذان والقلوب دون ستر وحياء وبلا اية خشية من حساب وعقاب، وقال كمن استعاد مهابته القديمة المخيفة آمرا ومهددا هي ما ابقت شرفا لاحد وقد نخرت ونخلت براءة كل الاخرين من اهل الزقاق العتيق.. انزحوا من فمها هذا الخراء الذي لوّث حتى عفونة الهواء الراكد في خانق زقاقنا الملموم على نفسه واحزانه وظلمته ومظالمه.. فقط لو استطيع التحرك متدحرجا واصلا لها لمزقت عنقها بكلّابتي يديَّ الخانقتين..رجل الهزل والمضحكات لم يصبر ويفوت الفرصة دون تعليق قاله مخففا بمرحه وجوم وانزعاج وقلق وحزن الزقاق ذهبايتي.. ذهبايتي.. دوختني المرأة الحافية قصبية الرجلين النحيفة الطويلة كمذراة.. خبيئة بيتها حتى لو غافلتها منه ضرطة مفاجئة لاهتز رنينها في اسماع الزقاق، وزقاقنا ليس اكبر وانتن من رائحة كريهة من سخونة ضرطتها بساقيته الاسنة المنتنة الفوّارة ابدا والدوارة بمياه دهنية سود متقلبة ببراز الصغار ومسيل خمائر بولهم الموبوءة ومن حتى الكبار..
حالة المراة صارت تحريكا لاستذكارات ضائعات سابقة ومسروقات ثبت للعجائز المكبوبات على شاطيء الساقية وفي قعدات انسهن او سهراتهن انها ابدا لم تكن مسروقات ولم تكن غير حالات غفلة ونسيان لرؤوس متعبة . وكررت مثل هذا الكلام مثلوما غير واضح من خلل ما تبقى لها من اسنان سود منخورة والسنة متعبة لكثرة ما هرفت وهذرت به مما طار وذاب في الهواء ولعمر سنوات طويلة.. حتى مجنون الزقاق شارك في الهرجة ونقل للمراة عواطفه ومشاركته وتعاطف كل مجانين الدنيا معها ولصدى صرختها وكما يحصل في المظاهرات العصرية .مرددات ومكررات معها بلسانه الابلت يا سامعين الطوط.. ومرة يا سامعين الثوط.. وهاج بها فرحا عندما استقرت على طيط..طيط لم تزجره المرأة رغم كراهيتها له لازعاجه لها مرة ومرات.. افادت من قوة رنين صوته رغم اغلاط المفردة، فقد رأت فيه بوحا معينا لمهمتها يضج ويهدر ليكدر صفو وسكينة اذن العاثر على لقيته والخانع والساكت بخزيه عن الخروج للزقاق واشهار الضائعة لتلمع معها عين المولولة الباكية بحرقة الدمع واللاطمة لخديها وقميص صدرها المتهريء.. ظل الزقاق صامتاً بحيرته، وظلت هي والمجنون وكومة صغار تركوا حتى عشاءهم ولا حقوا شبح المرأة الطويلة وظل حركتها بين الظلمة والنور وكلماتها غير المفهومة لديهم ولكنها الممتعة بنغمتها اللازمة المكرورة وقد تضاعفت فرحتهم اكثر بالوجود الفوضوي الساخر للمجنون والذي احال ضحكاتهم لكركرات مجلجلة..
المرأة المعاندة المحمومة بشكوتها العنيدة وللجميع في زقاق الفته السنون لا تهجع ولا تبيت في ظلماته وفي اي بيت حتى في تلك الشبيهة بقن دجاج ومن افقر ناس اية حاجة محرّمة ضائعة او مسروقة.. صوات المراة جرح ناغر، لكن الشكوك حتى مع غياب ولو دليل واحد تظل بلوى محرّمة..
عناد المراة ظل ومطاولتها ظلت راسخة.. وبرغم تفرّق الصغار عنها بعد مللهم وضجرهم ونفاد صبرهم.. وتعب منها المجنون مغادرا.. فقد ظلت مرابطة وتجدد فيها سم الدعاء القاسي وكأن جربا قد افسد وانتن ليس جسدها وروحها فقط بل مسخ بتشويهات بشعة حتى عقلها.. صرخة وصرختان من المراة كافية للوصول وهز كل الاذان حتى تلك المعطوبة منها، واذاعة المراة بدت ضرورة وكما كان يفعل مبلغو الاخبار والبلاغات لسلاطين الازمنة القديمة.. ربما هو صوت التاريخ يعود مجلجلا يا اهل الموصل.. يا اهل بغداد.. يا اهل البصرة.. يا اهل الكوفة.. يا اهل المدائن.. يا هال دمشق.. يا اهل القيروان.. يا اهل زنجبار.. يا اهل بخارى.. يا اهل سمرقند.. يا اهل قندهار.. يا اهل تبريز.. يا اهل نيسابور.. يا اهل فرغانة.. يا اهل.. يا اهل.. يا اهل.. زعقت بها تواريخ الارض فتسكن الاصوات وتخشع النفوس المرعوبة لما سيترتب عليها طاعته من اوامر ونواهٍ جديدة حتى لو كانت ظالمة.. المرأة الصارخة ربما هي اكفأ وأصدق من منادي السلطان بمهمتها ومهمتها شخصية وطلب اصلاح ضرر هتك روحها وسلامها.. منادي السلطان ينادي بالاهل وهو ما كان مراعيا لأولئك الاهل في كل زمان وعلى اي ارض منادي السلطان يلقي بيانه وغالبا ما يكون تهديدا واوامر بالخضوع ويغادر المكان على عجل من مرتفعه فلا يبيح لاحد فتح فمه او حتى باشارة هي حتما ستكون معترضة وهذا ما لا يتحمله السلطان وحتى مناديه الذي هو عبده وصنيعته والذي كلما اشتد في علو هدير صوته وتاثيره وجعل الخوف يشل عقول ونفوس مستمعيه، زادت عطاياه وقويت وشيجته بالسلطان ورهطه.. وقاربت في حالات الوهج السلطاني ايام سعده ونعيمه اعطيات السياف وشاعره الخصوصي المقرب والاثير والحاضر المنتظر ابدا عند باب السلطنة والذي اخذ يخترع ويبتكر اوزانا جديدة بعد ان اجهز على كل بحور الفراهيدي في مديح السلطان ولم يبق منها اي احتياطي في جعبته الشعرية ضمانا لمستقبله المجهول.. غالبية من تلك الاوامر ما كانت نداء خير وعطاء ومحبة.. هي انذارات مرعبة لتهديدات ونواهٍ ووعيد لمن تجرأ او يتجرأ على قولة لا صادمة لامان السلاطين وسلامهم وانسهم ومقلقة لوجودهم وحذرهم رغم قوة العسكر والحبوس والسيف والنطع والجلاد الجاهز ابدا لدحرجة الرؤوس .
عواء المراة تجاوز ساعات العشاء رواحا ومجيئا وكأن مارثونا عصريا قد حرك رجليها بسرعة هرولة قياسية في زقاق مقاسه سهل بالامتار.. هي لم تكتف بذلك واهدت شتاائمها ودعواتها المهددة المهلكة بعقاب الله ان نامت ليلتها تلك دون ان تعرف اية يد محروقة نتنة واية اصابع صفراء لئيمة التمت على ذهبيتها او اي دولاب مشبوه او صندوق مظلم او بقجة مضمومة تخبيء في حناياها ضائعتها الغالية.. صبرها النافد جعلها تبتعد اكثر بامل اسماع زقاق مجاور واخر واخر ملقية بقاذورات لسانها وقد تيبس من كثرة الصراخ فصار صوتها حشرجات طعون لناس غافلين متعبين حائرين بدنياهم.. وقبل ان يخنس لسانها..اهدت للزقاق اخر دعاء بان يهرس اجسادهم وارواحهم ذلك المرض الذي لا يسمّى ويرسلهم للقبور وحتى هي عندما انتبهت ولشدة رعبها من ذلك الذي لا يسمّى كبحت صوتها وخفضته فما عاد صوتها يصل لاحد وبعد ان ولساعات لم تبق اذن ولا صيوان الا واهتز بالنذر المرعبة.. وعندما بح صوتها ولم يعد ينفث غير كلمات مبتورة، هجعت لمهجومها .. قبل ان تغلق وتحشر باب الصفيح للداخل رفعت يديها عاليا للسماء وبعينين محمرتين محتقنتين بالدمع صارخة بعد ياس ان يشمل الدمار والموت كل الزقاق وبكل اهله حتى اجنّة البطون، وان ينزل بهم غضبه وعذابه وحرائقه وامراضه عليهم دنيا واخرة بعدها صمت كل شيء ونام الزقاق متعبا مهموما بكوابيس ذلك النهار وما قد تجترحه الهموم ومضطربات ما خفقت به عقولهم وارواحهم من كوابيس ليلية ثقيلة.. تجاوز الليل منتصفه.. خفت وجف صوت المرأة وسكن الزقاق لنوم االمتعبين والمحزونين ابدا.. صباح جديد مر.. ونهار وليلة.. صباح اخر اعقبه نهارات وليال.. لم ير احد ملمحا ووجودا للمرأة المكلومة.. خنست وكأنها لم تعد موجودة في زقاق عمرها.. حار الرجال بامرها.. لم تنتظر القشّابات وديدبانات الزقاق اليقظة.. لم تهدأ لهن نفوس وعقول بعد كل هذا الانتظار الممل.. وعندما لم يعد الاحتمال ممكنا، ارسلن طفلة ذكية ماكرة وهي القريبة من محبة المراة وطالما رأوها تلاطفها وتؤانسها وتطعمها من خبز تنورها الساخن اللذيذ..الطفلة المدسوسة على حجرة المراة المعزولة آنستهم بخبر يقين خفّف من انتظار مزعج لخبر طالما انتظروه.. خبر يقين انها رات المرأة مبتهجة مسرورة تلتهم طعاما بشهيّة، ضاحكت الصغيرة ودعتها للاكل وبشّرتها انها عثرت على ذهبيتها محشورة بشرخ خارجي في جانب تنورها وكان باردا مهجورا منذ انتباهتها لضياع بندقتها الذهبية.. وعندما حنت وجاعت وعادت لتنورها انعكست منه شعلة ضياء تلألأت وغارت في الشرخ كاشفة عن بندقة ذهبية صغيرة ما زادت على حجم دبوس او منقار عصفور حب او دمعة عين..
AZP09