يا دنيا غري غيري – شامل بردان
قال علي بن ابي طالب هذه الجملة، ضمن مناجاة ليل بعد ان سكن العراق و قد صار حاكما.
لم تكن كل اقاليم الدولة بيده، ولم تكن الخلافة قد عرفت الطريق اليه الا بعد خمس و عشرين سنة امضاها بلا منصب داخل الدولة حديثة النشوء واسعة يومها، كما لم تكن بداية خلافته مستقرة و لا وسطها مستقر و لا ختامها، وبين البداية والوسط والختام وقبل اابداية و بعد الختام ايام و حوادث يذكرها التاريخ و تتعدد فيها الروايات و يتفق اكثرها، فقد جرت محاصرة عثمان و اقتحمت مجموعة داره لتقتله و بعض من في الدار، ولتسود اجواء قاتمة من الانفلات ادت فيما ادت لتأخير دفن عثمان الخليفة و الصهر و الصحابي اياما.
ماكاد علي ينادى به خليفة حتى احتقنت البصرة بدماء يوم الجمل، و ما نشفت الدماء حتى نزفت في صفين بسوريا، ثم نزفت في النهروان، و خلال خمس سنوات تمكن علي من تقديم نموذج للحاكم المصلح، لكن اصلاحه لم يكن مقبولا عند فريق كانت له مصادر مالية و قدرة تأثير مكنا له الدخول في حرب مع ثاني اقصر الخلفاء الاربعة مدة حكم، انتهت اخيرا بمقتله في اعتداء مسجد الكوفة الشهير.
شاهد علي خلال حياته التي رافقت التحول الصعب الذي انجزه النبي، مواقف الافراد من دعوة ابن عمه، وكأنه يؤرشف المواقف و يحلل الشخوص ويرى كيف يفصل الفريق الاول و من لحق بهم المصالح بين الشخصية و العامة و كيف يقدمون المصالح او يؤخرونها او يزهدوا بمعيار غضب او قبول الرب.
لم يكن علي من العوام الا في تباسطه مع المجتمع واصراره على ان لا يكون هو ضمن الصفوة المالية المثرية المحسوبة على طبقة الحكم الجديدة، وهو و ابو بكر و عمر لم يعرف عنهم و لم يهمس احد و لا صرح بخلاف عفة ايديهم، وايا كانت مأخذ فريق مسلم لاحق على اول خليفتين، فهي في كل شيء الا في الاثراء او الافساد، فهما اجل و اطهر من ذلك.
حجم المؤيدين
غير صحيح الحكم الذي يصدره من لا يقرأ التاريخ بتمعن لينال بتعسف الكسول وعي و حجم المؤيدين لانشاء دولة عادلة من وحي تفسير الكتاب او مكارم اخلاق موجودة في فطرة الانسان ايا كان عرقه، فعلي لم يكن يوزع اموال الدولة على عمار ولا من هو مثل عمار من الغالبية الشعبية التي حملت اثقال النظام الاجتماعي الذي قاتل دعوة محمد حفاظا على المكانة و الثراء قبل قتاله على مفردات دينه، وعلي لم يطلب او يقبل صيغ التفخيم في مخاطبته و لا وقف ببابه شعراء و لا حملت له الثياب و العطور و الجواري، و لم يكن مسلحا الا اذا فرضت الحرب نفسها فرض لا مناص منه، ولم يتكئ على قرابته نسبا و صهرا ليفوز بالتأييد او ليؤثر في خيارات الناس، لقد تصرف بتلقائيته التي جعلت زعامات قبلية تطيعه و هي تعلم انه لا يكافيء و لا يشتري المواقف بالمال، و جعل الوفا من الناس على وقته تسير معه لتغير اوطانها ثقة منها به وهي لا تدري في اي ارض تموت.
لم يقوم علي بفتوحات لانه يعلم ما يخفيه كتبة التاريخ عن مأساة الشعوب في القهر تحت اي مسمى كان، دينيا ام دنيويا، ولم يجعل من ولديه حاكمين على ولاية من ولايات الدولة التي حكمها، بل ان القارئ لسيرته لن يجد تفاصيل حياته الا مصرفة بين طعام بسيط و ثوب خشن و مساواة في الرواتب التي تؤمن الكفاية لا الثراء، وهو في حديث للناس لا يجبر احدت على شيء، و لا يجند اعوانه لصناعة شخصـــيته، ولا يجهز ابنه ليخلفه و لا ينقل اموالا لضمان مستقبل اهله، يراقب ولاته حتى لا يقربون الامانة من عرض و دم و مال الا بما يوافق مرضاة المشرع الاول.
لم يزل تاريخ الدين و الانسانية يقف كثيرا امام علي، حاكما و انسانا و رجل عقيدة و فيلسوفا عاش قبل اربعة عشر قرنا وسط ضغط احداث فجرته دولة من قبائل عانى محمد النبي كثيرا لتحويلهم من منظومة اجتماعية الى اخرى دون ان يمنح نفسه حق السيطرة على خيارتهم، فكان ان استمر هذا الزخم الاجتماعي المتنافر الى يوم الناس هذا، ليستقر في الاغلب عند جماعة تدعي المحبة لعلي. لكنها محبة لصالح لا لمصلح، محبة لولي يطلب منه الغوث، لا لتعاد سيرة اداءه في رعاية مصالح الناس.
فعندما يقول ان الدنيا عندي- وليس الحكم فيها فقط- ازهد من عفطة عنز، فهو يشير الى سرعة زوالها ومجيء حساب لا تنفع معه حيل التفكر الدنيوية في الخلاص من المأزق، و عندما يقول يقول لمطالبيه بأن يبارك اختيارهم لابنه من بعده: لا امر و لا امنع، فهو يترك الانتخاب للناس، و عندما يثور جماعة لاجله بعد سباب رجل له، تجد السهل الممتنع في حكمه: سب بسب او عفو عن ذنب.
واما يا دنيا غري غيري، فهو اعظم قول لو تذكره الحاكم قبل المحكوم، فمن ذا الذي يذكره و قد لبس و اكل و شرب من مال الناس فأقتصد و خاف في غده السؤال؟ و من ذا الذي حرمته السلطة حقه فلم ينزلق للثأر بحجة الحق؟
يا دنيا غيري غيري، هي جملة موجهة للكل، للغانم و الخاسر، ان يفهما ان التمكن من الشيء يتبعه حساب، و السعي لتعويض المنع عن الشيء يتبعه حساب.
جعلكم الله محبين لمحمد و اله و صحبه بما يحب الله و يحبون لا وفق ما تشتهون.