نذير الأسدي
ويبقى المعلم… جاع المعلم… فباع واشترى، لكنه لم يسرق ولم يخن. تشرذمت حياته، وساءت أحواله وظروفه، لكنه ظل صابرًا محتسبًا. أكل من لحمه وشرب من دمه، لكنه ظل يغدق على أبنائه الصغار بقايا روحه وعصارة عظمه ولحمه.
تشرد، وذُل، واستهين به. وضحك منه “من لا يستحق ومن يستحق”. لكنه أبى الاستسلام، ولم يصغِ لمن أساء وتجبر وتنمر عليه. ركب في مؤخرة سيارات الفلاحين مع الدواب، وباع البيض والدجاج والخبز اليابس كي يشتري قميصًا ناصعًا يظهر حقيقته الطاهرة أمام تلاميذه الصغار.
لبس الحذاء الممزق القديم، لكنه رمم شخصيته وهذب أخلاقه أضعافًا مضاعفة. لم ينحدر إلى مستنقع الكذب والغش والسرقة والنصب والاحتيال، ولم يفكر في المتاجرة بأعضاء البشر أو المخدرات أو أن يتحول إلى كرسي تجلس على ظهره العاهرات والفاشنستات.
لم يدخل عالم العقود والسمسرة والعمولات والابتزاز. ظل المعلم يقي روحه وجسده من الرذائل والانحطاط، ولم يبع عقيدته وما تربى عليه من أخلاق في أسواق النخاسة والرذيلة. ظل يعطي للحياة أجيالًا تلو أجيال، ورفض أن ينتحل اسمًا جديدًا. أصر على أن يبقى باسمه.
جارت عليه كل الحكومات، والعهود لم تنصفه، ولم تعِد له جزءًا مما أعطى. فهو من صنع رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقادة الدولة وساستها، وهو من أجلس البرلماني والسياسي على الكرسي الوثير، وهو من وضع النجوم اللامعة فوق أكتاف القادة، وهو من ربط النياشين على صدورهم. لكنه بقي بلا وشاح أو وسام أو رتبة، وظل محتفظًا بنوط قلده لنفسه.
أبى كل الألقاب والمسميات، وظل اسمه “المعلم”. جحدوا حقه واستصغروا قدره واستهانوا بمكانته، وقطروا عليه استحقاقه. وليتهم جعلوه أسوةً بمن كانوا بالأمس تحت وطأة عصاه وسلطانه. كان القائد والزعيم والمثل الأعلى.
ضارهم أن يكون المعلم ذاك الجبل الأصم الذي تعالت قمته فوق رؤوسهم، أن يحظى بكل هذه المكانة والكرامة رغم صغر عنوانه وقلة راتبه. وحينما أرادوا النظر إلى مكانته، وجدوها كبيرة جدًا، فاستصغروه، لأنه يتربع في القمة… وهم في القاع.