هاشتاك الناس
وطن تماس كهربائي – ياس خضير البياتي
أقسم أنني كنت قد قررت التوبة عن الكتابة مؤقتًا، بعد أن نال مني الحزام الناري جسديًا ونفسيًا، وأقنعت نفسي أن الصمت أكثر حكمة من الكلام في زمن تشتعل فيه الأسلاك قبل الضمائر… لكن تماس الكوت الأخير جاء كصفعة كهربائية جديدة أجبرتني على العودة إلى الورقة والقهر. نعم، حريق آخر في هايبر ماركت… مشهد مألوف: دخان أسود، جثث متفحمة، مسؤولون يتجولون بربطات عنق مستوردة من باريس، وأحذية تلمع أكثر من ضمير أي واحد منهم. بلد لا يُحسن إطفاء الحريق، لكنه ماهر في إطفاء الحقيقة.
في العراق، «التمـاس الكهربائي» أصبح الجاني الرسمي والمعتمد من قبل الدولة، له مكتب، وبطاقة وطنية، وربما رقم وظيفي يتقاضى من خلاله راتبًا اسميًا أعلى من راتب الطبيب والمعلم مجتمعَين. كل كارثة تبدأ بسلك وتحترق بملف.
حرائق الكرادة، وحريق الكوت، وما بينهما من نيران لا تنطفئ… كلها «مصادفات كهربائية»، كأننا نعيش داخل قابس كهربائي معطوب منذ 2003. الغريب أن السلك الكهربائي في العراق أشطر من المحقق، وأسرع من القضاء، وأكثر دقة من الكاميرات، لأن الجميع يجمع على أنه المسؤول الأول، بينما المجرم الحقيقي يُمنح منصبًا جديدًا أو يقود موكبًا في زيارة الأربعين. رئيس الوزراء والمسؤولون الكرام، بدل أن يلبسوا سترات الدفاع المدني ويدخلوا الموقع كتضامن معنوي، اختاروا ملابس «أنيقة جدًا جدًا»، وكأنهم في جولة داخل مول دبي لا داخل رماد بشر. ما هذه العبقرية في تجميد الضمير! حتى الماكينات المحترقة كان فيها مشاعر أكثر من بعض هؤلاء.
في الدول التي تحترم نفسها، الوزير المعني يستقيل إذا انزلقت قطة في درج المحكمة، أما هنا، فحتى لو اشتعلت بغداد كلها، فالمسؤول الوحيد هو «تماس كهربائي»، فكل تماس في العراق ليس إلا عرضًا جانبيًا لفيلم طويل اسمه: «الفساد ضد الحياة».
حتى الحرائق لم تسلم من سياسة غلق التحقيق ضد مجهول، وكأن الشعب العراقي بحاجة إلى درس آخر في أن الحياة في هذه البلاد عرض قابل للاحتراق في أي لحظة. ننتظر موسم الصيف لا لنسبح في دجلة، بل لنحصي عدد الحرائق وننظّم حفلات التأبين الجماعية. والنتيجة؟ لا أحد يُحاسب.
لا أحد يستقيل، لا أحد حتى يتورط بالاعتذار، لأن الاعتذار يتطلب شجاعة… ونحن نعيش في جمهورية «ماكو أحد يتحمل مسؤولية».
لم نعد دولة، بل محول كهربائي محترق منذ 2003، تُرمم أسلاكه بأشرطة من الوعود، وتُغطى أعطاله بمؤتمرات صحفية. كل وزارة لوحة توزيع متهالكة، وكل مشروع إعمار هو ماسٌ جديد ينتظر الضحية التالية.
بينما اللهب يلتهم حياة الأبرياء داخل الهايبر ماركت، نجد محافظ واسط يجلس في المقهى، يدخن النرجيلة وكأنه في جلسة استجمام لا كارثة وطنية. ينظر إلى أعمدة الدخان، ظانًّا أن “النيران صعدات نارية” تزين سماء مدينته، ولا يسمع صرخات الناس، ولا يرى الدموع تحت الركام.
يا له من محافظ لا يحتاج إلى كرسي… بل إلى طفاية حريق للضمير! مسؤولونا لا يطفئون الحرائق، بل يتذوقونها بنكهات التفاح والنعناع.
العراق ليس بلدًا به تماس كهربائي… العراق هو التماس الكهربائي نفسه. والشعب – مع الأسف – يُستعمل كفيوز. والتماس الكهربائي دائم، يتنقّل من مؤسسة إلى أخرى، من مشروع وهمي إلى مبنى من غير إطفاء، يشتعل حينًا بالنار، وحينًا آخر بالصمت، والنتيجة واحدة: المواطن يتفحّم… والمسؤول يتبختر، معطرًا بماركات باريسية، ينفث تصريحًا رسميًا، ويغادر في سيارة ضد الحريق، ومحصّنة ضد الحياء.
yaaas@hotmail.com