قصّـة قصيرة
وســادة ليست خالية
هنـــــــــاء أحمد
فجأة أخذت أبحث عن شيء أقوله لهُ، لا أفكر ما الذي سيحصل.. ربما لأن ذلك سيكون النهاية وأنا أخشى النهايات كما اكره الانتظار والمناسبات الرسمية وكذبه – بأي لون كان- وأغلب أحذيتي.. كانت الساعة تشير إلى الثالثة من صباح يوم الأربعاء، أخذت أدور بين كلمات غير محدودة أرسلها لهُ في تلك الساعة المتقدمة من الصباح.. وضوء القمر يتسلل عبر النافذة ليضيء إحدى زوايا الغرفة راسما فوق جسدي بعض ملامح تلك النافذة الوحيدة، ضاعت الكلمات مني..أو ربما ضعت منها أنا، فأرسلت له رسالة فارغة من الكلمات بعدما أتخمتها بنظراتي إليه.. ثم حضنت وسادتي بقوة وأغمضت عينيّ وشفتيّ ولملمت شرشفي حول جسدي؛ ربما كي أتجاهل انتظار ردّه الذي – كعادته في الأغلب- لن يأتي، كما أن ردوده تدوّخنيn فيما لو ردّ طبعاً- ..
كان صوته هو من شدّني من بعييييد وعلّم يديّ كيف تتنفسان وزرع في خطوطهما فوضى لا نهاية لطفولتها.. ورسم في جبيني وشم سلطته.. وبعدها.. لقد كانت شفتاه تتحركان بهدوء، بعنف، وبصمت أحياناً، لكني لم اسمع شيئا كنت مشغولة في محاولة إبعاد تلك الأفكار الغريبة أو الغبية، الأفكار التي ملأت رأسي بها ثـرثـرة صديقتي الحولاء – صدقا إنها حولاء!- : انظري إلى عينيــه بعمق.. ما الذي يشـدّ انتباهــه أولاً .. حذاؤك الجديـد؟ كحل عينيـك؟ أم انتفاخ قميـصك الوردي ؟ أم..، لم أرد ذلك كله أو نصفه أو ربعه.. فكل ما يهمني أنه أمامي ويراني، بأي شيء يقترحه هو.. وبأي مكان وزمان…
سابقا كنت أظن أن الحياة أكبر من لون عينيه.. وأجمل من رعشة أصابعي حين ينطق اسمي – ولو عفواً-.. وأن الأسماء لا تثمل أحدا.. وربما تناسيتْ خطاي أنها تتقد خجلاً فيما لو صادفني في طريق ما أو في منام ما.. لكني معه اكتشفت مدى أميتي في الحياة.. معه اكتشفتني ..
وهكذا اقتحم صوته ستائر حياتي المظللة بالوجع وحولها إلى قصائد ونايات وأعياد لا نهاية لربيعها.. وطاردني في الوجوه كلها وفي الأغصان والفصول والأغنيات والأرصفة وبين رشفات القهوة.. وبدأ يبعثرني.. يلملمني..يشد أنفاسي ثم يطلقها تهتف باسمه دفعة واحدة، وهو يملأ عينيّ حيرة بـ(( ماذا أقول له لو جاء يسألني / إن كنت أكرهه أو كنت أهواه ؟! ))
اهتز هاتفي معلناً عن وصول رسالة ربما منه، فقد اهتز لذلك جسدي وملأ القلق عيني وتلاحقت حرارة أنفاسي.. لفني الشعور نفسه في ذلك اليوم الذي هرب فيه مني أو ربما هربنا معاً، هو إلى حيث ترتيب أنفاسـه ونظراته العاريـة، وأنا إلى حيث ألملم ما تبقى فيّ من ذلك.. نعم لقد أربكني قميصه الأسود وهو يفتح لي كل أزرار تجاهله أو ربما هكذا ظن، لقد أدركت أن لا حدود لفوضى أنفاسي، تباً.. ما تلك اللحظة التي لا تزال تؤلم أنفاسي حد النزيف.. هل أعجبته لعبة التجاهل بعدما تأكد من سلامة وجوده في عيني وما يترسب عن ذلك من اهتمامات وآراء وقمصان… اعتدلت في وقفتي ظنا مني إنني سأتقن تجاهله أيضا لكنني كالعادة فشلت، فأخذت ألملم أنفاسي وهربت إليه، وقفت أمامه.. ابحث عن سؤال ما وأنا أتطلع في وجهه بينما أخذت عيناه تتجولان في وجهي وتستقران في عينيّ لحظة ثم تنحدران ببطء إلى شفتيّ، فصدري بشهقاته المتتالية.. تبا لقد شعرت أنهما يخترقان ثيابي دونما خجل.. وفجأة ابتعد عني محاولاً التحدث مع رجل مرّ بالقرب منّا وتظاهر بالانشغال معه.. عندها سحبت خطاي إلى الدرج لم أعِ كيف نزلت.. لكنني ابتسمت بعمق واقنعتُني بالانتصار- ولو في تلك اللحظة فقط- أمام هزيمة حواسه وصراخها.. فدخلت المكتبة قبل ذهابي إلى بيتنا الفضولي، وأخذت عيناي تبحث عن آخر طاولة لم أخربش عليها اسمه بعد..، وبعدما استطعت أن اعقد هدنة مؤقتة مع حماس عيني وأنفاسي وأنا اعدهما بالمزيد طبعا، توجهت إلى البيت وأنا أتظاهر بكثرة واجباتي؛ فأخذت أبحث عن مكان انزوي فيه بعيداً عن فضول أمي وجدتي وثرثرتهما التي لا تنتهي، صعدت إلى الطابق العلوي حيث غرفة أخي الذي يكبرني بسنة واحدة وبضع خيبات ومشاكل عائلية، والذي سافر صباح ذلك اليوم إلى العاصمة حيث دراسته في كلية الهندسة، مشيت بهدوووء وأنا احمل في يدي سيجارة أخذتها خلسة من علبة سجائر أبي، وترافقني وسادتي بتدرجات لونها البنفسجي، وكأنها طفلي الوحيد المدلل – كما تقول جدتي- ..، ياااه ترى كم من الأسرار العنيفة تستلقي في أجساد الوسائد وتمتزج بأنفاسها، كم من حماقات، دموع، اعترافات، رغبات، شهوات، خيبات، وأحلام.. ، دخلت الغرفة الصغيرة ببطء وأغلقت الباب خلفي، كانت رائحة عطر- أو ربما أكثر من عطر- لم استطع تمييزها تخنق جو الغرفة راسمة فيها أمواجاً ضبابية تكاد تحجب الرؤية، اتجهت إلى النافذة ففتحتها، طالعني وجه جارنا بعينين مفتوحتين، وابتسامة بلا لون، تراجعت إلى الوراء فتعثرت بطرف السرير، وجلست على الأرض وأنا ألعن هذه المدينة التي تتقن الفضول، اشعلت السيجارة بأصابع مرتعشة، وأنا اسند ظهري على طرف السرير، سحبت أول نفس بعمق فتزامنت مع ذلك موجة سعال عنيفة كادت تخنقني، حاولت رفع جسدي، عندها طرق سمعي صوت أمي وهي تتساءل ما الذي جرى لي، وبحركة لا إرادية رفعت طرف فراش السرير وأطفأت السيجارة تحته، ثم ركضت مسرعة باتجاه الباب وفتحته، وذلك عندما شعرت بأن صوتها بدأ يقترب، وأخذت أصيح بأنني بخير، وما إن أغلقت الباب مجدداً، حتى تذكرت شفتيه أعني طريقة تدخينه، ورأيه في أن النساء اللواتي يتذوقن التدخين أكثر عناداً أما اللواتي وصلن حدّ الإدمان فلا أنوثة لهن..، تباً.. تدوخني آراؤه، وكل شيء فيه، وخطر في بالي أنه قال ذلك لأنه يخشى أن يتبقع عطر أنفاسهن بالدخان، فأنوثة أنفاسهن أو أنفاس بعضهن nكما قال ذات مرة- تثيره وتملأ أصابعه ثرثرة وتدعوه إلى صباح لا حدود لموسيقاه …
رجعت باتجاه السرير بخطوات مترنحة بحضوره، ثم رفعت طرف الفراش فاجأني عدد من سجائر متناثرة وأقراصCD بملصقات متنوعة لنساء عاريات وحاجيات أخرى لم أستطع تمييزها لأن صوت أمي أخذ يتعالى وهذه المرة بنبرة غاضبة جداً، وهي تأمرني بالنزول لأن ابنها المدلل اتصل بها وطلب منها أن تقفل باب غرفته وتحرسها؛ مخافة أن تضيع بعض بحوثه المهمة التي نسيَها هنا، حملتُ أوراقي ووسادتي وخرجت من الغرفة بحركات سريعة وأنا أهمس: حسناً.. أيها الوجه النبي، ثم رفعت صوتي ساخرة عنـدما مررت بالقرب منها:
– هنيئاً لك ابنـك المدلل..
قالت وهي تدافـع عنه -كالعادة- وبصوت متخم بالعطف والحنان:
– كيف لا أدللـه وهو ولدي المطيع، الذي يتحمل قسوة السكن في القسم الداخلي من أجل شهادة، لمجرد أن أباك يريدها…
ثم أخذت تمسح دموعها بطرف ملفعها وهي تقول:
– قلبي معه.. ودعائي دوماً له.. ما تزال أمامه ثلاث سنوات هناك في الغربة .
ثم أخذت تتطلع في وجهي عندما رأتني غيـر مهتمة وقالت بغضب:
– إنه أخوك.. كما أنه مؤدب ومطيع أكثر منك أيتها الطائشة المتمردة..
ابتعدت عنها وأنا أقرأ لي فقط أو ربما لوسادتي أيضاً : (( يعود أخي من الماخور سكرانا / ويبقى في نظر الأهل أطهرنا وأنقانا / فسبحان الذي يمحو خطاياه / ولا يمحو خطايانا))…، ثم علا صـوت ضحكتي قليلاً، وأنا اسـخر مني بلا شـك؛ لتذكري أو لتجاهلي قولي الدائـم: (( آه… لو كنتُ رجلاً)) كانت هذه الجملة الوحيدة التي تجتاحني ولا تفارقني، ولساني يتسلح بها كلما رفضوا لي طلباً أو فكرة بتهمة أنني امرأة أو أنثى، أصرخ بهذه الجملة, أصمت بها، أتألم فأبكي، صدقا أنني كنت أبكي لذلك، لكنني عندما رأيته، رأيتُني، أحببتُني أحببت أنوثتي وكل شيء فيّ وحاجياتي وأشيائي كلّها باستثناء بعض أحذيتي طبعاً، وأحببت العالم شهقةً شهقة، واستطعت تنفيذ بعض القرارات المهمة، فأخذت اعتذر من الشمس ووعدتها بأنني لن أنزعج أو أتضايق من سخونتها العالية مجدداً، كما اعتذرت من التنور لبرودة أصابعي أحياناً أمام حماس أرغفته، وتجاهلت بعض الأفلام التافهة السينمائية أو غيرها، ووعدت نفسي بأنني سأشارك في الانتخابات المحلية أو المركزية القادمة، كما سامحت أختي – أخيراً- لأنها أتلفت نسختي من ديوان عدنان الصــائغ قبل ثلاث سنــــــوات، ووددت في تلك اللحظة لو أقفز باتجاه أمي – أو باتجاه كل من يتهمني بالأنوثــــــة- أحضنها بقوة وأملأ جسدها قبلاً ..، وربما سأسامح شركة الاتصالات لأنها عطلّت وصول رسالتي إليه وأنقذتني من الانتظار…
ربما لم يكن هناك داع لانطلاقه في الحديث عن كثير من الفواصل بين عالمي المرأة والرجل وعن مجتمعنا وبعض ضوابطه وعاداته المقدسة، فكرت – حينها – ربما يقصد بيني وبينه، وأخذ يتحدث بصوت يشوبه الألم وبشفتين ترتجفان قسوة عن المرأة المتعالية – كما وصفها- ، كنت أهز رأسي لأُبعد التساؤل الذي باغت تجول عينيّ في وجهه: (( تُرى كيف ستكون هاتان الشفتان فيما لو كُتب لنا أن نوقع قبلتنا الأولى الآن.. الآن؟!))، ارتعش جسدي لذلك، فضممت شفتيّ بقوة، وأبعدت عينيّ عنه، بينما هو منطلق في حديثه الذي ملأني صمتاً وحبّاً، وبعد انتهائه من نطق الحرف الأخير في محاضرته هذه، وتأكده بأنني لا أوافقه أو لم اسمعه، أو تأكده بأنني أعرفه عميقاً، شعرت أن الرغبة تتلألأ في عينيه ليؤكد لي من خلالها بأننا خارج ذلك كلّه، إنه يشتاق ويثور ويهمس ويصمت بطريقة لذيذة جداً، طريقة تجعلني دوماً احتاجه بعنف…..
لماذا كلما ازددت قرباً من عالمه، من حياته، من أفكاره، من يديه، منه، أحسست ببعده عني أو ربما ببعدي عنه، كنت سابقاً احتاج أن المحه من بعيد ليبدأ يومي بسلسلة ابتسامات كبيرة تصل إلى حدود حلم أكبر، أعنف، أجرأ، لتتساقط دمعة في شفتي حضوره ..، الآن احتاجه أكثر، احتاج تفاصيله لأوقف احتراق أحشائي، وينتظم نبضها، ولأعيش…، ذات مرة سألته – بصوت يتقن الحماقة- ودون مقدمات بل حتى قبل أن أرد على تحيته :
– ما لونك المفضل ؟
ردّ بسرعة كأنه ينتظر سؤالي :
– الأزرق
ثم أكمل بابتسامة مغلفة بالخبث وهو يشير بعينيه إلى طاولة المرأة التي تجلس بالقرب منا :
– وتـــنــورة هذه ..
لعنته سراّ وأخذتْ الغيرة تتناهش أعماقي ثم سألته وابتسامة صفراء تستلقي في شفتيّ، بينما رحت أحني رأسي قليلاً ونظراتي تتسلق ساقيها البيضاوين في محاولة للوصول إلى لون تنورتها :
– ياااه.. كيف تمكنت من رؤية تنورتها ؟!!
قال :
– ياااه .. إنها قصيرة.. كعينيك تماماً ..
قلت محتجة وبكل سذاجة :
– ماذا؟ أ تتهم عينيّ بقصر النظر ؟
قرب وجهه من أذني وقال بأنفاس بدت لاهثة :
– بل بالفضيحة ..
هاهو يتهمني به …، وينقذني من حيرة التساؤل الذي يرافقني (( ماذا أقول له لو جاء يسألني…)) لن أقول له أي شيء، لأنه لن يسألني لقد وشت له عيناي بكل شيء، وليس هو من يسأل, إنه يأتي فقط وأنا أتلاطم مع حضوره الموجع، عضضت على شفتي السفلى وطوقت جسدي بيدي كلتيهما وابتسمت، ثم أغمضت عينيّ بقوة وكأنني سأنجح في الهروب من اعتراف آخر، كيف يستطيع هذا الرجل أن يفرض وجوده في تمفصلات حياتي هكذا، دون إرادتي، كيف يتمكن من أن يبدد غضبي ويدفعني إلى الاستسلام له، والهروب إليه، إنه يعرف كيف يروض انفعالي كما يعرف تماماً كيف يهيج أعماق اشتياقي، يستطيع الفوز بالجولة متى ما بدأت حتى وأن أتى متأخرا، لا لا لا إنه لا يأتي متأخرا أبداً إنه موجود قبلي، حاضر فوق وتحت وبين تفاصيل أنفاسي، كان عليّ أن ابتعد عن لعبة طرح الأسئلة معه مهما كان السؤال ضيقاً، فما من سؤال اقترفته إلا وأصبحت أنا في حالة استجواب واعترافات عارية عن الكذب طبعاً، يا له من أمواج تحترف القسوة والهدوووء والمطاردة، ويا لي من سمكة حديثة الولادة، ثرثارة، تخشى القلق والانتظار والعمق…
– كوني طبيعية دائماً …
هكذا قالت لي أمي المسكينة، لانفعالي الهائل ذات يوم عابر، أن أكون طبيعية يعني أن ارتشف اسمه قبل النوم، وأتجاهل بعضا من كذبه الأبيض أو الأزرق وأنا ادسّه – اعني الكذب لا غير- تحت وسادتي البنفسجية، أن أكون طبيعية يعني أن أثور لأي شيء، وأن اسأل يديه مراراً وتكراراً عن رأيها في عطري، وضفائري …؛ ربما أحاول تعطيلها عن قصيدة جديدة، فأنا الجديدة وأنا الأخيرة – حسب رأيي طبعا- أو حسب تلميحات حواسه وفوضى أنفاسه، وكما تردده دوما صديقتي الحولاء.