وداعاً ماري

قصة قصيرة

وداعاً ماري

 كنت اجلس في دكان أبي العتيق، خلف الطاولة الطويلة الرثة التي صفت عليها زجاجات الحلوى تحوطني الرفوف العتيقة البائسة،التي احتوت فوقها أشياء قليلة مما تحتاجه بيوت الزقاق. كنت مستنفر الحواس ارقب بقلق. وفجأة قفز قلبي في صدري وأسرعت دقاته فقد سمعت لهاث نعلي مريم وهي تلبي موعدنا الصباحي.. وانتبهت الى يد أمي تهزني فتبين لي إنني احلم.

– احمد استيقظ، الساعة السابعة.

تثاءبت لحظة ورفست اللحاف ونهضت. شطفت وجهي بسرعة، أحسست بالماء البارد يلسعني. جلست في المطبخ على السجادة العتيقة، دلكت كفيّ ببعضهما وتلفعت بجاكتتي ووضعتهما تحت إبطي. كنت ارتجف وأنا أتابع أمي وهي تضع الصينية الكبيرة أمامي يتوسطها رغيف خبز وقطعة جبن وشرعت تسكب لي الشاي ثم قالت بعصبية :

–           كلْ بسرعة واذهب.

ازدرت لقيمات وشربت الشاي على عجل وخرجت اقطع الزقاق. شتاء قاس، الجو شديد البرودة والطريق أمامي خالية من المارة، والريح الباردة تصفع وجهي واسمع الأبواب المتهالكة للبيوت القديمة تصدر صريرا موجعا وتئن. ما أن خرجت من البيت حتى زررت جاكتتي. كنت منشغلا بالتفكير بمريم بل ماري كما أداعبها، وسعادة طاغية تضئ داخلي حتى إنني لم انتبه تماما لبرودة الجو وللريح تدفعني دفعا،وحين وصلت أمام باب بيتها خفق قلبي بشدة حتى خلت انه ينخلع من صدري فأسرعت الخطى. ولم تمض دقائق حتى كنت افتح الدكان الذي يقع في نهاية الزقاق.أخرجت بعض البضائع وصففتها عند العتبة وجلست خلف الطاولة الممتدة، ساكنا انتظر..

 حتى العام الماضي كان أبي يسوقني وأخي سوقا، ويرهبنا تهديدا ووعيدا كلما تمنعنا أو تحججنا بأعذار، ويرغبنا بوعود نعلم جيدا انه لن يفي بها من اجل مساعدته في العمل بالدكان بالتناوب وبما يلائم دوامنا في المدرسة فاذهب إليه صباحا وأخي ظهرا وبالعكس. كنت أكثر تمردا من أخي الذي يكبرني حتى كان أبي يضطر لضربي. أما الآن فأنني أتسابق مع أخي للجلوس في الدكان. حصل هذا التغيير في ذات صيف فقد كان وقت الظهيرة كان الجو ملتهبا والهواء ساخنا وكنت اجلس خلف الطاولة الطويلة وأنا أحس بجسدي يشوى من شدة الحر وبجلدي يضيق فكنت أتسلى بالنظر الى الرفوف الشاحبة ثم الى المروحة السقفية القديمة تدور ببطء شديد، وأتخيل نفسي في مكان بعيد اسكن وحدي كوخا صغيرا عند حافة نهر اجري في حقل اخضر وحين اتعب استلقي على الأعشاب الرطبة وأتطلع الى السماء الزرقاء أراقب الطيور والعصافير التي تمرق بسرعة تخفق أجنحتها بمرح. وما أن تنتهي سورة شرودي حتى أعود من ذلك الحقل والكوخ الصغير، لأتمنى هذه المرة أنني لو كنت مريضا على الدوام فأعفى من الذهاب الى المدرسة وتأدية الفروض المدرسية والاهم أعفى من الجلوس في الدكان هكذا كنت أفكر. وفجأة رايتها تقف عند عتبة الدكان.كانت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة بيضاء مكتنزة الجسم، ترتدي ثوبا أخضر تنتشر عليه ورود حمر كان الثوب قصيرا حتى الركبتين وبأكمام مختصرة تظهر زنديها البضين، تنسدل على كتفيها ضفيرتان شقراوان، وتستقران فوق صدرها وكلما تحركت أو تلتفت يمينا ويسارا وهي تحدثني تكشف عن بروزين لحميين صغيرين. كانت ذات فم صغير مورد لا تفارقه الابتسامة وعينين زرقاوين. نظرت الي مبتسمة وهي تحرك كفها أمام وجهها كمروحة : – أكاد أموت من الحر.  ولمست خدها بباطن كفها وقالت: – لقد سخنتُ كقطعة حديد.

 واقتربت مني : – ألا تصدقني.؟

وجذبت يدي بسرعة ووضعتها على خدها. ما أن استقرت يدي عليه ولمسته وأحسست بطراوته ونعومته حتى سحبتها خجلا وخوفا. وأخذت بعدها تترد على الدكان ومن يومها تغيرتُ تماما، أصبحتُ شخصا آخر. أفكر بها دائما وكثيرا ما أشاهدها في أحلامي وهي في أوضاع مثيرة وذات يوم صحوت من نومي مبلل الفراش. ثم عرفت من أمي إنني أدركت سن البلوغ. لقد انقلبت حياتي رأسا على عقب حتى تعجب والداي من سر نشاطي المفاجئ وجلوسي مبكرا وذهل أخي واستفاق فضوله فراح يبحث عن سبب عشقي للعمل في الدكان فجأة. واخذ يباغتني ويحضر أيام العطل التي تكون أوقات مناوبتي ويجلس الى جانبي. ثم أخذ ينشط ويحرص على أن يلتزم بمناوبته صباحا أو بعد الظهر، من دون التحجج والإفلات كما كان يفعل بعض الأوقات. حتى أبي صار لا يكتفي بتجهيزنا بما ينقصنا من بضائع، بل يجلس الساعات في الدكان لوحده فدبت الروح في تجارتنا ونمت أرباحنا فكنا جميعا سعداء. كنت اختلي بها نتبادل القبل وأتحسس البروزين في صدرها ثم رحت فيما بعد أتشجع وانحدر الى ما تحت ثيابها فتتأوه. ومر عامان وفار جسدها وتدور نهداها وطفح ردفاها وبدت مريم شابة لا مثيل لها حسنا وجمالا واتخذت مداعباتنا شكلا مختلفا وأقسمت بأنها لي وحدي وستظل الى الأبد. وبت أهيم بها أكثر فأكثر واشتاق إليها قبل أن تأتي وبعدما ترحل وأخشى عليها من الآخرين. ذات يوم شديد المطر جاءتني تجري وهي تبكي وهجمت علي في الدكان وقد تبللت والتصقت خصلات شعرها وارتمت على صدري حاولت تهدءتها وسألتها عما بها لكنها لم تتوقف عن النشيج وظلت تلف ذراعيها حول عنقي كنت أحس بحرارة جسدها المكتنز وهي تلتصق بي ولما هدأت قالت وهي تمسح دموعها أن ( مجنونا سكرانا ) كان يجري خلفها ويسمعها كلام غزل. فار دمي وتملكني غضب عارم. خرجت من الدكان وبحثت عنه بنظري وابتعدت قليلا علني أراه فلم أجده. بعدها ظلت صورة المجنون شبحا يطارده خيالي يعذبني ولكنني أهادن نفسي فأتصور أن لاوجود له وإنها ادعت ذلك لتستفز غيرتي عليها وتلهب مشاعري فيزداد تعلقي بها. ومر عام وجاء عام بعده وانقضى وأنا أعيش قصة حب مثل حلم وردي وأصمم أكثر فأكثر على أن أتزوجها حالما أكمل دراستي. كانت تحدثني عن حبها لامها وعن قسوة أبيها وعن أخيها الصغير الذي نصب نفسه رقيبا عليها يترصد حركاتها وسكناتها ويضربها دون سبب وإذا ما اشتكته لامها تطيب خاطرها وتفهمها انه لازال صغيرا ولا يعرف كيف يعبر عن حبه وخوفه عليها، فذات يوم كانت تقف بقربه في الدكان وكاد يهم بها فإذا بأخيها الصغير يظهر فجأة ويضربها ويجذبها من ضفيرتها وحاولت أن تفهمه أن أمها هي من أرسلتها ولكنه أصر أن تعود معه الى البيت وخشي إنه أحس بالعلاقة التي بينهما ولكنه لم يلبث أن تبددت مخاوفه وشعر من جديد بالارتياح والسعادة حينما تأكد له في الأيام التالية تفاهة وساوسه فقد واصلت مجيئها كالعادة كانت تحدثه عن أشياء غريبة، عن جدتها التي تقرأ الفنجان وتخبر الجارات بأمور تحدث فيما بعد فعلا وعن علاقة أمها وأبيها وقالت ذات مرة وقد احمر وجهها خجلا وهي تبتسم إنها ذات ليلة استيقظت عطشانة وحين خرجت لتشرب ومرت بجانب غرفة والديها سمعت همهمات وشهقات وكركرات لم تفهم مغزاها وظلت مؤرقة تلك الليلة تفكر بما يجري وفي الصباح سالت أمها فأجابتها بأنها حين تكبر وتتزوج ستفهم ولكنها الآن تعرف حقيقة ما كان يحدث. ذات يوم قررا أن يذهبا بخلوة فاخذ طعاما وحلوى وانطلقا دون علم احد فخرجا وسارا الى الغابة تجولا بين النباتات وتسلقا أشجارا بحثا عن أعشاش الطيور واستقرا فوق شجرة فوجدت هي عشا فيه بيضة صغيرة أخذتها فرحة وفتحت كفها وارته إياه ثم وضعتها برفق في جيبها ومدا ساقيهما وبقيا معلقين بالهواء ودس بفمها قطعة شكولا فأدنت شفتيها وطلبت منه أن يتذوقها فالتحما بعناق لذيذ ولكن شخصا ما أحسا بأنه يتبعهما فكان يظهر ويختفي وفجأة هتفت بخوف انه المجنون يجب أن نعود ولما فتشا عنه لم يجداه وهكذا انتهت مغامرتهما وعاد إليه قلقه ولكنه عزى الأمر ثانية الى وهم تحاول أن يصدقه كي يزداد شغفه بها. وذات يوم حصل فجأة ما كان يخشاه فقد اختفت مريم فجأة وانقطعت عنه. انتظر مجيئها ولكنها لم تأت وتشتت أحواله وبات ساهما لا يستقر له بال يقضى الليالي مؤرقا ويبكي سرا ويفكر لو انه يذهب إليها ويطرق بابهم أو يتسلق سطوح البيوت المجاورة ويهبط الى حجرتها ولكنه وجد ما يفكر به أمرا سخيفا ينطوي على مخاطر جمة. ثم كانت المفاجأة.. كان في الدكان يساعد أبيه في ترتيب بضاعة جديدة جاء بها وحضر أخوه فألتم الشمل وبينما هم منهمكين بالعمل سمعوا ضجة وأصوات نساء يزغردن وشاهدوا أطفالا يجرون وتبين انه موكب زفاف ينطلق من الزقاق وشاهدوا سيارات مزينة داخل أحداها مريم بملابس العرس و(المجنون) يجلس الى جانبها تمر من أمامهم وتتطلع إليهم دون اكتراث.أحس بالعبرة تخنقه وانحدرت دموعه على خديه وحانت منه التفاتة فرأى الوجوم والحسرة على وجه أبيه ورأى أخوه يبكي بصمت ثم لا يلبث أن راح يجهش بالبكاء.

مشاركة